اللحظة التي كانت تغرق في عتمة الغروب، بينما كان الإعصار يقترب مع كل دقيقة تمر. كان الجميع منشغلًا حتى النخاع بالاستعدادات، لدرجة أن الرقابة أصبحت مرتخيةً تمامًا.
الإعصار، الظلام، والضجة من حوله…..كلها اجتمعت لتصنع فرصةً ذهبية لا تتكرر.
اختبأت سيان سريعًا في الحمام، وبدأت ببرود تحسب التوقيت بدقة.
يبعد مقر الزعيم 120 مترًا فقط. إن لم يُكشف أمرها، يمكنها الوصول إليه خلال ثلاثين ثانية فقط.
بدأ قلبها ينبض بوتيرة أسرع تحت وطأة التوتر، لكنها راح يراقب تحركات الآخرين بمهارة، كمجموعات متداخلة.
هي بحاجة إلى ثغرة واحدة فقط…..مجرد لحظة فراغ واحدة…..
‘وجدتها!’
انخفض بجذعها استعدادًا للركض، لكن فجأة شعرت بقشعريرة حادة تسري في جسده، كأن جثة مبتلّة قد التصقت بظهرها.
برودة مألوفة…..برودة المسامير، برودة الأرواح.
“تشق….تشق..…”
في اللحظة ذاتها، انتشر شعورٌ مشؤوم في الجو، والمصباح الوحيد في المكان بدأ يومض بطريقة غريبة.
“هَاه..…”
سحبت سيان نَفَسًا خفيفًا، ونظرت ببطء نحو المغسلة. هناك، على الجدار المبتلّ بلون الغروب القرمزي، ظهرت المرآة. وفي تلك المرآة الملطخة بلون الدم، التقت عيناها بعيني روح واقفةٍ خلفها.
“تشق….تشق..…”
من داخل المرآة، حيث كان الظلام يومض كنبضٍ حي، مدّت الروح يدها اليسرى إلى الجانب.
“بسرعة…..”
استدارت سيان فجأة، وأخذت تنظر في أرجاء الحمام. لكن في تلك الثانية الواحدة، كانت الروح قد اختفت تمامًا، وكأنها لم تكن. و لم يتبقَ سوى أثر خافت لوجودها، والمصباح في السقف يواصل وميضه الخفيف،
“بسرعة.” هذا ما قالته الروح، دون شك.
لقد سبق أن حذّرتها تلك الأرواح حين أخرج تشوداي تو الصندوق الأسود، لذا لا بد أن ما يحدث الآن أمرٌ بالغ الأهمية كذلك.
لكنها الآن أمام فرصة لا تعوّض لتفتيش مقر القائد…..ماذا تفعل؟
عضّت سيان على شفتها بتردد، ثم اتخذت قرارها الحاسم وتخلّت عن تفتيش المقر.
خرجت مباشرة من الحمام، وسارت في الاتجاه الذي دلّتها عليه الروح.
على يسار الحمام، كانت هناك غابة صغيرة، وعند مدخلها الذي بدأ يغمره الظلام، وقفت امرأةٌ ترتدي ثوبًا أبيض، بشكل كئيب.
و ما إن التقت بعيني سيان، حتى استدارت بزاوية خفيفة، ثم بدأت تمشي إلى داخل الغابة بخطوات خفيفة، شفّافة.
لا شك أنها تطلب منها أن تتبعها إلى داخل الغابة. فتأكدت سيان بحذر من خلو المكان من الناس، ثم بدأت تسير وسط الأدغال التي كانت تهتز بهدوء من حولها.
***
“طفلة؟”
كانت إحدى فتيات جوقة الترانيم جالسةً وحدها داخل الغابة، منكمشةً بصمت.
لماذا تكون طفلةٌ هنا وحدها؟
كانت هذه أول مرة ترى فيها سيان طفلًا بمفرده في هذا المكان الذي يُسمّى “أرض الخلاص”.
نظرت حولها، لكنها لم ترَ الأطفال الآخرين الذين اعتادوا التجمّع معًا، ولا حتى المراهقين والمراهقات الذين يرافقونهم عادة.
الوضع في حالة طوارئ بسبب الإعصار، فلماذا لم ينتبه أحدٌ إلى هذه الطفلة؟
تقدمت سيان نحوها مباشرة. وكلن ظهرها الصغير المستدير يبدو لطيفًا كدمية صغيرة.
لقد كانت هذه الطفلة ذات الست سنوات التي تراها سيان كل صباح ضمن الجوقة، تُدعى ماري، وكانت مصابةً بمرض رئوي جعل جسدها هزيلًا وقصيرًا أكثر من سِنّها.
جلست سيان إلى جانبها وخفضت جسدها لتكون بمستواها.
“ماري، مرحبًا.”
“مرحبًا..…”
“لماذا تبكين هنا وحدكِ؟”
“الطائر…..هُهينغ..…”
نظرت سيان إلى حضن الطفلة، فوجدت أن دمية الطائر التي تحملها كانت مغطاةً بالتراب.
“آه..…”
كانت هذه الدمية، طائر البجع، بمثابة بديل عن الزعيم بالنسبة لماري، تحمله دائمًا في حضنها وتتمسك به بقوة.
لذلك، لا شك أنها تبكي لأنها أوسخته، وكأنها أهانت الزعيم نفسه.
“هلز تسمحين لأختك أن تنظفه لكِ جيدًا؟”
“حقًا؟”
“طبعًا. رأيتِ كيف كانت أختكِ بارعةً في طلاء الأشياء، صحيح؟ سأجعل هذا الطائر يعود كما كان تمامًا.”
حينها فقط بدأت ماري تهدأ، وتوقفت عن البكاء، وكتفاها يرتجفان من البكاء المكتوم.
جلست سيان بجانبها، وأجلستها براحة على صخرة قريبة، ثم جلست بمحاذاتها. ثم أخذت دمية الطائر منها، وبدأت تتفقدها كأنها طبيبة تفحص مريضًا.
“هممم…..أظن أن حالته جيدة. خمس دقائق كافية تمامًا.”
“الإخوة والأخوات قالوا أنه يجب رمي هذه الدمية..…”
“حقًا؟”
“قالوا أنني ماري السيئة…هيك…..لأنني مريضة…..ولهذا السبب اتّسخت الدمية.”
عادت ماري للبكاء وهي تمسح دموعها بظاهر يدها.
إذًا، ليس كل أطفال هذا الخلاص ملائكة كما يظن المرء.
ضمّت سيان الطفلة الصغيرة إلى صدرها وربتت عليها بلطف.
“ماري السيئة؟ لا، لا تقولي هذا. المرض يمكن أن يصيب أي شخص.”
“لكن الزعيم قال…..أن المرض لا يصيب إلا من في قلوبهم شر…..وقال أنه فقط من يملكون أجسادًا سليمة تمامًا يمكنهم دخول النعم…..وإذا لم أشفَ بسرعة، قد يُلقون بي في الجحيم.…”
أي هراء هذا الذي يُلقَّن لطفلة؟
اشتعل الغضب في صدر سيان، لكنها تماسكت، ونظرت إلى ماري بعينين دافئتين ومليئتين بالحنان.
“لا بأس. ألم تقولي أنكِ ستُجرين عمليةً في مستشفى على اليابسة هذا الشهر؟ بمجرد أن تُجري العملية، ستشفين تمامًا.”
“الخضوع للعملية…..هيك…..دليلٌ على الخطيئة!”
قالت الطفلة ذلك بحزنٍ عنيد، ثم فجأة قلّدت صوت الكبار بلسانها الطفولي القصير،
“أيها المرضى، الزعيم يعالجكم! ولكن من كانت قلوبهم فاسدة، فستتبعها أبدانهم في المرض. العلاج لا جدوى منه! عليكم أن تُصلحوا قلوبكم أولًا! آمنوا! آمنوا بعمق! صدّقوا، وتوكّلوا، وقدّموا كل ما تملكون! أنتم البذور التي زُرعت في أرض الخلاص!”
كانت الطفلة تردد خطاب القائد عن ظهر قلب، كما لو أنها تحفظ قصةً من كتاب مصوّر.
كان منظرها يثير الشفقة…..وفي الوقت نفسه يبعث على القلق والخوف.
لو لم تقع عائلتها في شباك هذه الطائفة، لكانت الآن تأكل الحلوى مع أصدقاء الروضة، وتلهو في ساحة اللعب كما ينبغي لأقرانها…..
كظمت سيان غضبها، ثم سألت الطفلة بلطف،
“من المؤكد أن والديكِ يدعوان كثيرًا من أجلكِ لتنجح عمليتكِ، أليس كذلك؟”
“…..أمي؟ لا.”
رمشت الطفلة بعينيها.
“ليس لدي أم..…”
“ليس لديكِ؟”
“أنا…..يتيمة.”
“ماذا؟”
وكان ما قالته الطفلة بعد ذلك مفاجئًا على نحو لا يُصدَّق.
حاولت سيان أن ترسم ابتسامة ًخفيفة على وجهها، متظاهرةً بالهدوء.
لكن الطفلة، وقد شعرت بالقلق، رفعت كفّها الصغيرة ولمست جبين سيان بلطف، ثم ابتسمت ببراءة. فبادلتها سيان الابتسامة بصعوبة.
ثم راحت ماري تعبث بدمية الطائر بينما تتحدث بعفوية عن الزعيم.
في هذه الجزيرة، الأطفال لا يتحدثون عن شيء سوى “الزعيم”…..الزعيم وفقط. و في الحقيقة، لا يملكون حديثًا آخر غيره.
“قالت لي أخوات جوقة الترانيم: أننا لو أنجبنا ملاكًا للزعيم، فسنظل نعيش في هذا الخلاص، أما إن لم نُنجب، فسيأخذنا إلى النعيم.”
“إن لم تُنجبن…..فإلى النعيم؟”
“نعم نعم! إحدى الأخوات في الجوقة ستصبح عروسًا قريبًا. الجميع يحسدونها. فهذا حلمنا جميعًا!”
“…….”
“لكن…..يجب أن نكون بصحة جيدة لنصبح عرائس..…”
بدأ صوت ماري يرتجف مجددًا وهي تهمس بخوف،
“ماري المريضة لا يمكن أن تصبح عروسًا للزعيم، ولا يمكنها الذهاب إلى النعيم أيضًا…..ماذا لو لم يحبني الزعين؟ هيك…..ماذا سأفعل؟”
لم يكن من المجدي أن تقول لها “ليس عليكِ أن تصبحي عروسًا للزعيم”. فالزعيم هو مصدر الفرح الوحيد في حياتها، تُسرّ إن ناداها باسمها، و إن ابتسم لها، و إن مدحها…..
مجرد نيل رضاه هو سعادتها الوحيدة.
شووو-
هبّت نسمةٌ باردة و رفرفت أوراق الأشجار، ثم رفعت سيان بصرها، فرأت بين ظلال الأشجار الباهتة نساء شابّات يقفن صامتات، شاحبات.
كنّ يتبعنها منذ أول يوم وطأت فيه هذه الجزيرة. نساءٌ فارقن الحياة أثناء ولادة أطفال، أو بعد إنجابهم بقليل.
إحداهن، المرأة التي قادتها إلى الغابة، كانت تحدّق بماري دون أن ترمش، لكنها لم تقترب منها، على الأرجح خشية أن تؤذيها بكيانها كروح.
فقط كانت تقف هناك…..تراقبها عن بعد بلا حراك.
والآن فقط، بدأت سيان تدرك سبب إصرار هذه الأرواح على ملازمتها. لا شك أنهن يرجون منها أن تُنقذ أطفال هذا “الخلاص” بأي وسيلة.
مدّت سيان يدها بلطف، وأزاحت خصلة شعر مبللة بالدموع عن خد ماري، ثم مرّرتها برقة خلف أذنها.
“لا تقلقي…..أمكِ كانت…..تحبكِ كثيرًا.”
“أمي؟”
“نعم. كانت تحبكِ كثيرًا، كثيرًا جدًا. لدرجة أنها لم تستطع مغادرة العالم والذهاب إلى النعيم، لأن قلبها ما زال قلقًا عليكِ.”
“هممم..…”
فتحت الطفلة فمها لترد، ثم أغلقته، وعادت تفتحه بتردد مرة أخرى، ثم سكتت.
طفلةٌ كهذه، امتلأ عقلها بالكامل بـ”الزعيم”، لن يكون لكلمة “أم” أي وقع خاص في قلبها، على الأرجح.
لكن، وللمفاجأة، سألت الطفلة بخجل وهي تراقب تعبير وجه سيان،
“أمي…..إن ذهبتُ إلى النعيم، هل ستعانقني؟ و هل يمكنني رؤية أمي؟”
كان سؤالًا غير متوقَّع.
ربما كانت تحمل هذا الحنين في قلبها طوال الوقت،
لكنها لم تجرؤ على البوح به أمام إخوتها وأخواتها الكبار، فهي لا تزال في السادسة فقط…..صغيرةً للغاية.
فابتسمت سيان لها برقة، وأجابت،
“طبعًا. بالتأكيد ستعانقكِ. وربما الآن أيضًا…..تتمنى لو كانت قادرةً على احتضانكِ. عندما تكبرين كثيرًا، يومًا ما، في المستقبل البعيد، ستذهبين إلى النعيم، وهناك…..ستلتقين بأمكِ.”
“هيهي.…”
ضحكت الطفلة بخجل، وتحركت في مكانها بفرح طفولي.
“إذًا! سأرى أمي قريبًا! أنا ثمرة الحياة الأبدية، أليس كذلك؟”
“ماذا؟”
“سنذهب إلى النعيم قبل أن نبلغ الخامسة والعشرين!”
قالت ذلك بابتسامة مشرقة، وكأنها تتباهى بأمر مفرح، ثم وقفت فجأة وبدأت تردد بصوتٍ واضح ومبتهج.
“يا أبناء الأرحام التوأمية! يا أرواحنا المميزة! أنجبوا أطفالًا، وأنجبوا مجددًا! حين تنجب الأرحام التوأمية أرحامًا توأمية، فذاك سيكون مفتاح باب النعيم!”
كروووم-
دوى الرعد قريبًا جدًا، وكأنه يهدر فوق رؤوسهم. وفي تلك اللحظة، تردّد صوت ماري المبتهج في الأرجاء، يصدح مع الرعد المدوي.
“يا ملائكتي الطاهرات! أنتنّ ثمار حياتي الأبدية!”
___________________
ابوك يالرعب وش ذا السوداويه الله ياخذ ذا الشايب ابو مية سنة
بعدين ياعمري على ذا البزران لو انقذوهم كيف بيندمجون مع العالم؟ يبي لهم اعادة تهيئة
سيان عرفت ان الروح الي جابتها هي ام ماري😔🫂
صوت الرعد مع اغنية ماري لفل نفسي عالي
Dana
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 99"