أصدر لينكون صوتًا خفيضًا محذرًا. كان يقصد أن ما أمامه ليس إنسانًا بل كيانًا روحيًا.
“هاه….هاه….”
وفعلًا، كان بخارٌ أبيض يتصاعد من فم المرأة. في منتصف يوليو، في ذروة الصيف الحارق الذي يتصبب فيه العرق لمجرد الوقوف ساكنًا.
وكانت ساقاها مبللتين بالدم، كأنها نهضت للتو من بركة دماء.
“موتي.”
تمتمت المرأة فجأة بشفتيها هامسة. و كان صوتها صوت روحٍ يبعث القشعريرة.
لكن سيان لم تكترث وتقدمت نحوها. بوجه بارد بلا نهاية، وبعينين جافتين.
وعندها، وكأنها انهزمت أمام هالتها، انسلّت المرأة سريعًا إلى الظلام واختفت فيه.
وفي أعماق الظلمة الحالكة، ترددت همساتٌ كصدى.
“موتي….”
ثم تابعت سيان طريقها إلى مقر إقامتها كأن شيئًا لم يكن.
من الطبيعي أن توجد كيانات روحية في هذه الجزيرة أيضًا. فالكيانات الروحية لا تستطيع عبور الماء.
و بعضها، إن كان شريرًا جدًا، قد يعبر جدولًا ضحلًا، لكن لا أحد منها يستطيع عبور نهر أو بحر ما لم يكن هناك جسر.
في الحقيقة، رؤية الكيان الروحي لم تكن بالأمر الجلل. لكن المشكلة كانت في أنها رأته دون أن تفتح بصرها.
صحيحٌ أن حاسته قد تطورت أثناء تجوالها مع جوون، لكن…..إن بدأ شخص لا يرى الأشباح برؤيتهم فجأة، فذلك لأن الشبح نفسه أراد بشدة أن يُرى، وكأنه يقول، “انظر إلي”.
شششش-
هبّت فجأة ريحٌ باردة من جهة حقل السمسم البري.
وعندما نظرت ناحيته بطرف عينها، رأت ساقين تقفان وسط الحقل بشكل باهت.
كانت تلك الساقان ترتديان فستانًا أبيض يصل حتى الركبة، يتمايل في الهواء، وكانتا عاريتي القدمين ومغطاتين بالدم، ولم تكونا لإنسان، بل لروح، لكيانٍ مشؤوم.
“موتي….”
همسات الروح ذات الساقين فقط جاءت محمولةً مع الريح.
كلاك-
ثم عادت سيان إلى مقر إقامتها دون تعبير، وأغلقت الباب، ثم شبكت ذراعيها ونظرت نحو الباب.
كان نور الممر يتسلل من أسفل الباب…..لكن الضوء كان يتقطع بشكل غير منتظم، وكأن هناك ظلًا لشخص يقف خلف الباب مباشرة.
واحد….اثنان، ثلاثة….أربعة. خمسة؟
كان هناك على الأقل أربعة كياناتٍ روحية أو أكثر، تتجمع الآن خلف ذاك الباب. و صحيحٌ أنهم لا يستطيعون الاقتراب أكثر بسبب وجود لينكون.
في تمام الساعة التاسعة مساءً. مع صوت تنبيه جهير، انطفأت الأنوار قسرًا في أنحاء الجزيرة.
وفي ظلمةٍ ثقيلة كأعماق المحيط، كان المبنى المكوّن من ثلاثة طوابق الذي يقيم فيه الزعيم وحده يبعث النور ساطعًا كالمنارة وسط الظلام.
***
صباح الجزيرة كان يبدأ مبكرًا جدًا.
من الرابعة فجرًا تبدأ حركاتٌ خافتة، وبحلول الرابعة والنصف يكون الجميع قد استيقظ وبدأ بالاغتسال.
وفي الساعة الخامسة، يتجمع الجميع في القاعة الكبرى للكنيسة.
كانت سيان ترمق من بين الحاضرين رجالًا ونساءً يرتدون الثياب الصفراء.
ملابس السكان ذات اللون الأخضر الفاتح كانت ترمز إلى “سنبلة قمح غير ناضجة”، بينما الملابس الصفراء كانت لمن يُطلق عليهم المديرون، ترمز إلى “سنبلة قمح ناضجة”.
ومن بين هؤلاء، رجل في الخمسينات من عمره يرتدي الأصفر، تحدث بصوت مشرق،
“تجمة اليوم الصباحي سيؤديه ثلاثةٌ منكم!”
في طائفة سنابل القمح، كان من المعتاد أن يؤدي بعض الأتباع تجمع الصباح بدلًا من الزعيم،
إما لأنهم تقدموا مسبقًا بطلب أداء، أو لأنهم قرروا ذلك في اللحظة نفسها قائلين: “دعوني أنا أتحدث”.
وكان أحد الستة الذين وصلوا إلى الجزيرة مع سيان يوم أمس قد رفع يده هذا اليوم.
“لا يمكنكم تخيل كم كنت أتوق للعودة إلى هذا المكان.”
كان رجلًا يدير شركة صغيرة، وكانت نبرة صوته المرتجفة مفعمة بالتأثر والفرح.
كان قد زار جزيرة الخلاص قبل ثماني سنوات، ولكن نظرًا للمصاعب المتتالية التي واجهها منذ العام الماضي، صار يحنّ إليها بشدة.
رفع صوته وقد ملؤه الامتنان والدموع، وعندما عاد إلى مقعده، كان وجهه محمرًا ومبللًا تمامًا بالدموع.
فما كان من اثنين من سكان الجزيرة إلا أن نهضا بدورهما واحدًا تلو الآخر، ورفعا كلمات الترحيب والشكر استجابةً له.
ومع اقتراب نهاية التجمع الذي استمر لساعة كاملة، صعد عشرة أطفال من جوقة الترانيم إلى المنصة ووقفوا مصطفين.
أربعة مراهقين، وستة أطفال لا يتجاوز عمرهم خمس أو ست سنوات. و كانوا نفس الأطفال الذين قدّموا باقات الترحيب بالأمس.
وبسبب الوقت المبكر، كان الصغار يفركون أعينهم النعسانة باستمرار، وكان أحدهم قد غط وجهه تمامًا داخل دمية قماشية جديدة ونام واقفًا.
“هيا بنا!”
قام أحد الفتيان وثلاث فتيات من المراهقين بحمل الأطفال من تحت أذرعهم بخفة، ثم وضعوهم في أماكنهم المناسبة وأوقفوهم باعتدال.
وكان المشهد لطيفًا جدًا لدرجة أن الكبار انفجروا بالضحك.
“ملائكتنا الطاهرون، الذين لم يمسهم أدنى دنس من هذا العالم.”
“يا لهم من رقيقين، إنهم جميلون جدًا.”
استفاق الأطفال سريعًا من النوم، ووقفوا بثبات وبدأوا في الغناء بأصوات واضحة ولامعة.
وفي القاعة الكبرى التي لم تكن تضاء إلا بضوء الشموع،
انبثّ نور الصباح الصافي بأشعته البيضاء، وامتزجت أنغام الغناء النقيّة مع شروق الشمس الذي بدأ للتو،
فتعاظمت الهالة الروحانية في تلك اللحظة إلى أقصى درجاتها.
كانت أصواتهم العذبة، النقية والمحبة، تملأ القاعة كأنهم عصافير.
و من هنا وهناك، بدأت العيون تدمع، وصدرت تنهيدات خافتة. ولشدة اندماج الجميع في الحالة الشعورية الجماعية، تصاعد التأثر فجأةً بشكل مذهل.
“عانقوهم. عانقوهم، أرجوكم.”
عندما أعطى الرجل الخمسيني الذي كان يقود تجمع الصباح تعليماته، بدأ الجميع، رجالًا ونساءً، باحتضان من بجانبهم بحرارة وهم يرددون كلمات الشكر.
“أتمنى لك يومًا سعيدًا.”
“كوني سعيدة، أختي. كن سعيدًا، أخي.”
“شكراً لك على كلماتك، كانت رائعة بحق.”
“أحبكم، يا عائلتي.”
***
حتى بعد انتهاء التجمع وخروجهم من القاعة الكبرى، استمر الأتباع في احتضان كل من يمر بجانبهم وهم يبتسمون ويلتقون بأعينهم بمحبة.
بل إن بعضهم، نحو عشرة أو أكثر، تجمعوا في مجموعة واحدة، وبدأوا يضحكون بانسجام وهم يعانقون بعضهم دفعةً واحدة.
أما سيان، فبما أنها لم تكن تحب أن تُحتضن عشوائيًا من هذا وذاك، فقد آثرت البقاء في أحد أركان القاعة تنتظر بصمت حتى يغادر الجميع، وكانت تنظر إلى وجوه سكان الجزيرة واحدًا تلو الآخر، وهي تشعر بعدم الارتياح وتضم كتفيها بحذر.
كان الجميع لطفاء، ودودين، طيبين. لكنها رأت بأمّ عينها أكثر من شبح لنساء ميتات غارقاتٍ في الدماء.
وفي مكان مغلق كهذا، حيث الجميع يعرف الجميع، لا بد أنهم يعرفون تمامًا من مات، ومتى، وأين، وكيف…..
وبحسب تقرير العميلة “G”، لم يتم تسجيل أي حالة وفاة على هذه الجزيرة حتى الآن، ولا توجد أي بيانات تفيد بأن أحدًا دخلها خلسة ثم طُرد منها.
بل إن الأشخاص الذين يُفترض أنهم يعيشون في سنابل القمح كجماعة معروفة للعامة لم يظهر منهم أيّ أحد.
جزيرةٌ لا يُسجّل فيها لا موتى ولا مفقودين. لكن الواقع أن هناك أمواتًا، وهناك مفقودين.
وفي هذا الخلاص الحالم، كان الجميع يبتسمون بوجوه مشرقة ويحيّون بعضهم بقولهم: “نحن نحبكم.”
***
في وقت الإفطار. على عكس العشاء، قيل أنه يمكن للجميع تناول الإفطار في أي مكان مريح يختارونه.
وعلى الرغم من أن الجماعات الدينية المتطرفة والتنظيمات الهرمية تمارس رقابةً صارمة، إلا أن سنابل القمح بدت أكثر تحررًا في كثير من الجوانب.
لكن هذا لا يعني أنها خاليةٌ تمامًا من المراقبة.
“أوه، الآنسة مين سارا! هل ستتناولين طعامكِ وحدك؟ الطعام لا يكون لذيذًا إذا أكلناه وحدنا. تعالي اجلسي معنا.”
“لابد أن مكان النوم الجديد كان غريبًا عليكِ. هل تمكنتِ من النوم جيدًا؟”
“أليس صعبًا أن تستيقظي في هذا الوقت المبكر؟”
ثلاث نساء من أتباع الجماعة، سبق أن رأتهم سيان أمس في مزرعة الشمام، اقتربن منها بكل طبيعية وجلسن إلى جوارها.
وكان حدسها حادًا؛ ففهمت فورًا أنهنّ مكلفاتٌ بمراقبة “مين سارا”.
ترددت سيان قليلًا، ثم تحدثت بنبرة خافتة.
“قليلاً…..أشعر بالنعاس.”
“مع ذلك، تجمّع الصباح يجمعنا كلنا، فلا تتغيبي عنها، جربي أن تحضريها دائمًا. أما باقي الوقت، فبإمكانكِ فعل ما تشائين، بالطريقة التي ترغبين بها.”
“آه، وماذا عن…..العمل؟”
“العمل؟ أممم…..إذا رغبتِ في التنظيف، يمكنكِ المساعدة فيه، وإذا رغبتِ في العمل بالمزرعة، فذاك ممكن أيضًا. نظرًا لأننا نعتمد على الاكتفاء الذاتي، فهناك نقص كبير في الأيدي العاملة هنا وهناك.”
“آه، حسنًا..…”
“لكن، كيف أقولها…..الكثير ممن يأتون إلى أرض الخلاص ويبقون لأسبوعين قبل مغادرتهم، يكونون قد أرهقهم العالم الخارجي وأتعبهم كثيرًا. فطبعًا، مساعدتكِ في العمل ستكون محل ترحيب، لكنها ليست إلزامية. يمكنكِ فقط الاستراحة التامة إن أردتِ.”
ثم وجهت إحداهن سؤالًا بسلاسة، كأن الحديث طبيعي تمامًا.
“هل هناك فرقٌ كبير بين وقت استيقاظكِ هنا وعادتكِ في الأيام العادية؟”
“نعم، نوعًا ما…..عادة أستيقظ في العاشرة صباحًا.”
“آه، لا بد أنكِ تشعرين بالنعاس إذاً! هل تعانين من انخفاض ضغط الدم؟ إن كان كذلك، فلا بأس أن تستيقظي متأخرةً قليلاً..…”
كان الحديث لطيفًا، ودودًا، وحميمًا…..لكن سيان لم تنخدع به. اهذا كان، إن صح التعبير…..اختبارًا.
فقد كانت قد استلمت بالأمس استبيانًا من نحو خمسين صفحة، وسلمته في المساء، وهؤلاء النسوة كنّ يتحققن الآن بلطف وهدوء مما إذا كانت إجاباتها على ذلك الاستبيان متسقةً مع ما تقوله.
يجب أن تكون حذرة، حذرةً جدًا.
حتى وإن دخلت عن طريق مين كي شيك، فإن مجرد الشك في كونها متسللة متخفية قد يجعل أي زلة لسان سببًا في إثارة الشبهات.
“أعذرنني، سأذهب الآن..…”
تحججت سيان بأنها تشعر بالنعاس الشديد ولم تعد تقوى على التحمل، ثم نهضت حاملةً صينية طعامها.
لكن النساء الثلاث أسرعن إلى أخذ الصينية منها وربّت إحداهن على ذراعها بلطف.
“على كل حال، علينا إرجاع الصحون، سأوصلها بنفسي إلى المطبخ. الآن اذهبي إلى غرفتكِ وخذي قسطًا من الراحة، يا مين سارا.”
***
طَك، طَك، طَك-
عادت سيان إلى غرفتها، وبدأت تنقر خلف أذنها اليسرى.
ما الذي يحدث بالضبط؟
جهاز الاتصال الفضائي ثنائي الاتجاه ما زال لا يصدر أي إشارة.
من المؤكد أن جوون قد أبلغ الرئيسة باختراق سيان للجزيرة في الساعة العاشرة من صباح الأمس…..
حتى وإن غضبت الرئيسة بشدة، فقد كانت ستتصرف بسرعة، وهذا ما لم تقلق بشأنه.
هل يُعقل أن جهاز الاتصال الفضائي قد تعطل؟
لم تكن تملك إجابة. وحتى إن تعطّل، لم يكن بمقدورها إصلاحه.
سحبت شعرها المبتل قليلًا بالعرق وأبعدته عن جبينها.
على كل حال، لا داعي للذعر. لا جوون، ولا الرئيسة، من النوع الذي يتركها مكشوفةً على هذه الجزيرة دون حماية.
و ما عليها فعله الآن هو جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات. وبحلول الغد، عليها أن تكون قد جالت في أرجاء القرية، لتفهم بدقة تلك التفاصيل التي لا يمكن رصدها عبر الصور الفضائية.
“الآنسة مين سارا، هلّا تفضلتِ بالمجيء معي للحظة؟”
جاء الاستدعاء في تمام الساعة الثالثة عصرًا. و من تحدثت إلى سيان كانت امرأةً جميلة طويلة القامة، ولولا ثيابها الصفراء لبدت كأنها سكرتيرة أنيقة في شركة كبرى.
ترددت سيان قليلًا، ثم سألت بنبرة متلعثمة وبشيء من التردد.
“إلـ…..إلى أين؟”
فأشارت المرأة، التي تشبه السكرتيرة، براحة يدها نحو “مبنى الزعيم”، وكأنها تجيب عن السؤال دون كلمات.
في تلك اللحظة، خفق قلب سيان بقوة وسقط إلى قاع صدرها.
إلى الزعيم…..الآن؟
ابتسمت المرأة ابتسامةً مشرقة، ثم أمسكت بيد سيان بلطف كأنها تحثها على القدوم.
“بما أنكِ وصلتِ إلى الخلاص، فمن الطبيعي أن تلقي التحية عليه.”
___________________
يمه وش السالفه امداهم يشكون؟
وجوون والرئيسة وش ذا الخواضية وش صاير😭
والمؤلفه يختي طيب جيبي لما وش يصير عندهم بدل ذا التوتر وين جوون ووين الرئيسة لايكون صار لها شي 😧
Dana
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 89"