كان ما داخل القصر الغربي غارقًا في عتمةٍ زرقاء خفيفة.
هذا القصر الغربي كان “اللاوعي الخاص بـ تاي جوون”.
داخل دماغه، كانت الممرات التي لا نهاية لها تتفرع بلا حصرٍ وتمتد في كل الاتجاهات. وكانت أبوابٌ متطابقة الشكل مصطفّة إلى حد يبعث على الضيق.
في كل غرفة، كانت لحظاتٍ محفوظة من ذكريات تاي جوون التي عاشها، مصحوبةً بالمشاعر التي شعر بها حينها.
“أي واحد أفتحه هذه المرة……”
وقف جوون مكتّف الذراعين بخشونة، ثم فتح الباب الذي شعر نحوه بـ”شيءٍ ما”.
كرييييك-
المنظر خلف الباب هذه المرة كان لمطبخ على الطراز الأيرلندي، وكان هناك عجوزٌ أنيق يرتدي سترةً رمادية، يدهن الزبدة على قطعة توست.
و تلك العلامة التجارية لصندوق الزبدة على الطاولة بدت مألوفة.
صحيح، هذا العجوز لم يكن يأكل إلا هذا النوع من الزبدة غير المملحة.
هذه كانت ذكرى من عمر السابعة، حين كتب رسالةً لجده من جهة الأم وهرب من المنزل، ثم اختطفته الأفاعي.
نظر جوون إلى جده بنظرةٍ جديدة.
حين كان صغيرًا، ظنّ أن جده رجلٌ عجوز عظيم……لكن الآن بعد أن أصبح بالغًا، بدا له في سن الخامسة والستين شابًا أنيقًا حافظ على نفسه بشكلٍ ملحوظ.
كان جد جوون قد طلّق زوجته وهو في التاسعة والأربعين، وفي أحد الأيام ظهرت ابنته الوحيدة، غير المتزوجة، وهي حامل، ثم ما لبثت أن قفزت إلى البئر في أواخر حملها وانتحرت.
تولّى رعاية حفيده الرضيع مباشرةً بعد الحادث، ورغم أن الأمر لا بد أنه كان مرهقًا للغاية، لم يُبدِ تعبًا ولو مرةً واحدة.
وحتى اسم جوون منحه له هذا الجد بالذات.
“انتهيت! هيا، جوون، تعال وتذوّق.”
بالطبع، لا زلتُ حتى الآن غير قادر على فهم ذوق جدي الغريب، الذي كان يدهن التوست بزبدة غير مملحة ثم يضع فوقه مزيجًا من مربى الفراولة و بيض السمك المتخمّر.
لا، بل بالنظر إلى أنه كان يقول دائمًا “تذوّق” لا “كُل”، فربما كان يعتبرني مجرد مجرّب وصفات جديدًا فحسب.
“جوون العزيز، ماذا ستلعب اليوم؟ إن شعرت بالملل، فما رأيكَ أن نقرأ سويًا، أنتَ وجدك؟”
ظل جوون يحدّق لثوانٍ في وجه جده المبتسم بود، ثم استدار عن الباب فجأة، وبدأ يسير مبتعدًا بخطى ثابتة ونظرةٍ باردة ومظلمة في عينيه.
لقد مرّت إحدى وعشرون سنة، ولو كان الجد لا يزال حيًّا، لكان الآن في السادسة والثمانين.
رغم أنه حفيده ومن دمه، إلا أنه لم يكن له إلا عبئًا ثقيلًا. طفلٌ وُلد من جثة امرأة حامل انتحرت بالقفز في بئر.
طفلٌ غريب، دائمًا ما تظهر حوله جثث الحيوانات.
ساحة المنزل كانت دائماً ما مليئةً بعصافير خائفة مصطفّة على شكل مثلث، حتى الكلاب الشرسة كانت تتبوّل من الخوف عند رؤيته، وفي إحدى المرات، عندما ربّت على عجل صغير بلطف لأنه وجده لطيفًا، وُجد العجل ميتًا ومتصلّبًا في الفجر التالي.
وحتى ظهرت شائعةٌ مظلمة مفادها أن كل من يشتم ذلك الطفل، يُصاب بكوابيس مروعة لا تُحتمل.
وجود حفيدٍ كهذا، لو اختفى ببساطة، لكان ذلك أكثر راحةً للجد حتمًا.
ومنذ يوم هروبه من المنزل، كان يحاول أن لا يفكر في جده قدر المستطاع……و لو لم تكن لي سيان هي السبب، لكان قد تخلّى عن هذا العبث منذ زمن طويل.
مرّر جوون أصابعه في شعره بضيق، يعبث به بعصبية.
خلال الشهر الماضي، ظلّ يتنقّل بين ممراتٍ لا حصر لها، ملتوية ومعقدة كطيّات الدماغ. و فتح عددًا لا يُحصى من أبواب الذكريات. كلها كانت لحظاتٍ مرّ بها في حياته، وكلها تخصّه.
لكن الذكريات لا تُرتب حسب تسلسل زمني.
بل كانت فوضوية، مختلطةً بلا نظام، كما يحدث حين تشمّ عبير عطرٍ عابر فيذكّرك بلحظةٍ قديمة، أو تسمع أغنيةً قديمة بالمصادفة فتستحضر مشهدًا من ماضٍ بعيد.
ولهذا، لم يكن يعرف ما الذكرى المختبئة خلف أي باب، حتى يفتحه بنفسه.
تُرى، أين كانت تختبئ تلك الذكرى اللعينة……؟
“مفترق طرق……من جديد؟”
رمق تقاطع الممرات بنظرةٍ حادّة. و تردّد لحظةً بين أن يذهب يسارًا أو يمينًا، ثم فتح الباب الرابع جهة اليسار، مدفوعًا بحدسه.
“وجدتها.”
وأخيرًا، وصل إلى وجهته.
في الداخل، خلف الباب، امتدّت غابةٌ مظلمة شاحبة تحت ضوء قمر مكتمل كئيب، وكأن حتى الريح قد توقفت عن الحركة.
ثم……
“فييييييييح……”
أصوات هامسة، مرعبة. و ثعابينٌ كثيرة كانت تُحيط بشكل دائرة وتصدر فحيحًا مخيفًا.
دخل جوون إلى الغرفة بخطًى ثابتة، و كان صدى خطواته يرنّ في المكان.
فشششش-
وحين اجتاح “الواقع” ماضيه، ارتجّ المشهد كله للحظةٍ قصيرة.
تابع سيره إلى الداخل دون تردد. و كانت الأعشاب تُداس تحت قدميه، لكنها لم تصدر أي صوت. فهذا ليس واقعًا، بل مجرد ذكرى.
مرّ جوون عبر جسد رجل يرتدي عباءةً سوداء كما لو كان شبحًا، أو صورة ثلاثية الأبعاد.
و كان هناك مذبحٌ مستطيل الشكل يظهر في الأفق، وبجواره كاهنٌ يحمل خنجرًا من السبج الأسود.
الأدوات الطقسية الموضوعة على المذبح، مثل قاطع الشفاه وغيرها، كانت تلمع بوحشة تحت ضوء القمر.
جلس جوون على ذلك المذبح الترابي البارد، نفس المذبح الذي أُرغم على الاستلقاء عليه قبل 21 عامًا حين كان طفلًا في السابعة.
جلس بتفاخر، مسندًا ذقنه، وابتسم ابتسامةً راضية وهو يرفع زاوية شفتيه.
“حسنًا، هذه المرة……سأشاهد كل شيء بوضوح.”
***
“توقفوا.”
بأمرٍ من جوون، توقفت كل الأفاعي عن الحركة في الحال.
لكن ليس الأفاعي فقط، بل حتى أوراق الأشجار التي كانت ترتجف تحت نسيم الليل توقفت تمامًا، كأن الزمن جُمّد كما لو كانت لقطة فيديو متوقفة مؤقتًا.
نهض جوون من على المذبح الترابي المؤقت وهو يضغط بكفه عليه. و اقترب من الكاهن الأقرب له ونزع قلنسوته، فإذا بالرأس تحته يتلألأ سوادًا مثل الحبر، متذبذبًا وغامضًا.
كانت الأفاعي الأخرى على ذات الحال. فبد جرّب نزع الأقنعة واحدًا تلو الآخر، لكنه لم يستطع رؤية وجه أي منهم.
وهذا طبيعي. فما لم يره جوون الصغير في ذلك اليوم، لا يمكن لجوون الحالي أن يعرفه.
في الواقع، قبل 21 عامًا، كانت الرئيسة في شبابها تختبئ خلف الشجيرات عند اتجاه الساعة الواحدة. لكن جوون الطفل لم يكن يعلم بوجودها آنذاك، ولهذا……
سح—
دفع جوون الشجيرات بيده ليرى خلفها، لكن ما كان هناك سوى فراغٍ أسود خالٍ تمامًا.
ما لم يُرَ في الماضي، لا يمكن أبدًا معرفته في المستقبل. لكن إن وقعت عليه نظرةٌ ولو للحظة، فسيكون حتمًا محفوظًا داخل الذاكرة.
“ارجع بالزمن إلى الخلف.”
فورًا بدأ المشهد بالتشوه والتشويش، وبدأت الذكرى تُعاد كأنها تُلفّ إلى الوراء.
في ذلك اليوم، كان تاي جوون هو القربان الثاني. وقد شاهد بعينين باردتين كيف تم قتل أول قربان بشري بالتفصيل.
وقرر أن يبدأ من لحظة “مقتل القربان الأول”.
“تشغيل.”
تحرّك المشهد المتوقف، وبدأ الكاهن بشقّ صدر القربان الحي بخنجر من السبج الأسود. فانفجرت منه دماء الحياة الحمراء.
وأصدرت الأفاعي التي تحيط بهم فحيحًا عكرًا، مزيجًا من الغيرة، الحسد.
“وووووووووه.”
انتشرت الأصوات المرعبة في الهواء، تملأ فراغ الغابة المفتوحة بشؤم ثقيل.
ربما كان ذلك الصوت مرعبًا لدرجة أن عيني القربان المستلقي على المذبح اتسعتا رعبًا وذعرًا. لا شك أنه يشعر وكأنه يعيش كابوسًا حيًّا وهو لا يزال على قيد الحياة.
ثم، حين انتزع الكاهن قلب القربان ورفعه عاليًا، اندفع المقنّعون المنتظرون نحوه، يلتقطون الدم الراشح بأيديهم المرتعشة.
نبض… نبض…
كان قلب القربان الحي ينبض كأنه يعاني من تشنج، وقطرات الدم الثمينة، بلون الياقوت، كانت تتساقط بسرعة على أجساد الأفاعي وخدودهم.
بسرعة، بسرعة-
كانت الأفاعي تتشابك وتتزاحم، تمد أيديها بجنون. وربما لأن كمية الدم المحتواة في القلب محدودة، فقد كانت المنافسة عليه شرسة كصراعٍ بين وحوش.
و كانت الأفاعي ترسم على ردائهم رموزًا باستخدام ذلك الدم الثمين الذي حصلت عليه.
راح جوون يراقب المشهد عن كثب، يدور ببطء ليتفحّص كل التفاصيل.
“توقّف.”
حفظ جوون عن ظهر قلب كل الحروف أو الأشكال التي رسمتها الأفاعي بالدم. و المشكلة الآن تكمن في “الدائرة السحرية” التي رسمتها الأفاعي حول المذبح……
وهنا بالضبط، أصابت سيان جوهر المسألة.
“الدائرة السحرية التي استخدمتها الأفاعي……تبدو وكأنها صورة معكوسة بـ 180 درجة لرموز التصوير السومرية، مع بعض رموز الكتابة المسمارية البابلية.”
كانت سيان مهووسة بالعمل حتى النخاع.
هي ذكيةٌ أصلًا، لكن بفضل عزيمتها الشديدة، تمكّنت من فكّ أسرار رموز الدائرة السحرية، مما جعل المهمة أسهل بكثير.
ابتسم جوون بخفة عندما تذكّر سيان، ثم دفع بإحدى الأفاعي بيده بوجه جامد، فاختفت فجأة وكأنها شبح.
“تشغيل.”
راح يبعد الأفاعي المزعجة عن طريقه كما لو كانت نفايات، ثم بدأ يُحلّل بعناية تامة ملامح الدائرة السحرية التي بدت بالكاد مرئيةً تحت ضوء القمر الخافت.
لم يكن هذا واقعًا.
حتى لو أزاح الأفاعي من طريقه، فلن تظهر الدائرة السحرية التي كانت تحتها فجأة.
و الأهم من ذلك، أن جوون لم يكن يعرف متى، أو في أي لحظة بالضبط، أو في أي جزء من الدائرة قد وقعت عليه عيناه عندما كان طفلًا.
ولهذا، كانت العملية بطيئة، مرهقة، وتتطلب تركيزًا شديدًا.
كان جوون يوقف الذكرى كل 10 أو 15 ثانية، ثم يعيد تشغيلها، ويعيد بناء شكل الدائرة السحرية على الأرض الترابية ببطء، كل مرة بمقدار 10 أو 15 سنتيمترًا.
الدائرة السحرية……كل شكلٍ فيها، كل رمز أو حرف، كان له غرض، ومعنى دقيق.
حين كان طفلًا في السابعة لم يكن يستطيع فهم تلك الأسرار……لكن الآن، أصبح قادرًا على فك رموزها واحدةً تلو الأخرى.
ما الذي تسعى إليه هذه الدائرة؟
وما الجملة التي تشكلها؟
“الخلود……”
حرّك جوون حدقته إلى الأسفل دون أن يرمش.
“حياةٌ خالدة……خالية من المرض والموت.”
تلك كانت الأحرف التي تشكّل الجزء الأول من الدائرة.
أما الجملة المكتوبة داخل الدائرة الوسطى……
“حاكم.”
تمتم بالكلمة مرة أخرى وكأنه يتذوّقها.
“حاكم……من الحاكم، سِرٌّ……يُنقل……ويُورّث.”
____________________
شكل جده كان حلو ليه مارجع له بعد ما انقذته الرئيسه😔
عساه عاد حي ويجي يقوله هاااي ياجد شخبارك
المهم وهو يمر على الذكريات توقعت يمر على ذكرياته مع سيان بس لوء لقى الافاعي بسرعه تش
بعد ضحكت الافاعي ذولا ناس لابسين اقنعه وقاعدين يقلدون صوت الافاعي 😭😭
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 75"