“كنت أعلم أن سيان مدمنةٌ على العمل، لكنني هذه المرة فعلاً لم أتمالك نفسي من الدهشة. أعني، كانت أول إجازةٍ تطلبها منذ أن بدأت العمل قبل 12 سنة.”
قالت الرئيسة ذلك بلهجةٍ مذهولة وأكملت الحديث.
“أن تبدأ تلك الإجازة الثمينة في اليوم الثامن وتعيدها في اليوم الثالث عشر……هاها، لعبتِ خمسة أيام فقط وبدأتِ تشعرين بالضيق؟”
“خمسة أيام من الراحة كافية.”
ردّت سيان، فسألتها الرئيسة بمزاح.
“حسناً، وماذا فعلتِ خلال تلك الأيام الخمسة الثمينة؟”
“ركضت مع لينكون على الشاطئ، وشاهدنا النجوم طوال الليل، وقرأت الكثير من الكتب.”
حين أجابت بصدق، ابتسمت الرئيسة بلطف.
“لابد أن ذلك كان رائعاً.”
“نعم، أنوي من الآن فصاعداً أن أخصص وقتاً من حين لآخر للعب مع لينكون.”
قالت ذلك بينما رمقت باب الغرفة بنظرة. و كان لينكون يحرس المدخل ليتأكد أن لا أحد يتنصت من الخارج، واقفاً بلا حراك وكأنه تمثال.
في السابق، كان يرفرف بذيله فرحاً لمجرد أن يسمع اسمه من سيان……
طَق-
وضع جوون قطعة لحم أخرى في طبقها.
“يكفي، لا يمكنني أكل المزيد.”
فرفضت سيان بنفسها، غير أن جوون ضحك بسخرية ثم استفزها كعادته.
“أكلتي هذا فقط؟ حتى هذه العجوز التي بلغت السبعين من عمرها يمكنها التهام أكبر هذه الكمية بسهولة.”
“لم أبلغ السبعين بعد.”
“سآكل على مهل، بطريقتي الخاصة.”
“ثم تمتنعين عن الأكل مجددًا، كما تفعلين دائمًا. يا لي سيان، شهيتكِ ضئيلةٌ للغاية.”
“أيها الصغار، قلت لكم أنني لم أبلغ السبعين بعد!”
وبينما كان الاثنان يتشاجران بخفة، ظلت الرئيسة تتدخل بينهما، فما كان من جوون إلا أن تمتم بنبرة ضيق.
“ثرثرةٌ لا نهاية لها، كأنكِ عجوزٌ تتدخل في كل حركة على رقعة الشطرنج.”
“هاهاها!”
فانفجرت الرئيسة ضاحكة بصوت عال، ثم بادرت بالرد انتقامًا،
“أشعر بأن لساني يوشك أن ينطق، ما رأيكم أن أروي بعضًا من قصص طفولة جوون؟ هاه؟
تاريخه المظلم ليس بقليل على أي حال.”
“كفى، أرجوكِ.”
أبدى جوون امتعاضه، لكن الرئيسة لم تأبه به، وشرعت تسخر من بعض أحداثٍ ماضيه.
فقد ظَلّ، بعد أن أنقذته في أوتيس، صامتًا لا ينطق بكلمةٍ واحدة لمدة ثلاث سنوات تقريبًا.
وكان انطوائيًّا شرسًا، كأنه وحشٌ بري.
لقد كان قربانًا للثعابين، و أهل الحي كانوا يرمقونه باشمئزاز وهمسٍ مشبوه، كما لو كان مخلوقًا غريبًا مقززًا. فلم يكن ليثق بأحد في هذا العالم.
لكن شيئًا فشيئًا……ببطءٍ شديد، بدأ يفتح قلبه للرئيسة، وراح يتحدث معها رويدًا رويدًا، ثم يرد باقتضاب، إلى أن أصبح على ما هو عليه الآن من جرأةٍ ووقاحة.
وكانت تلك تجربةً مرت بها سيان أيضًا، بطريقةٍ مشابهة إلى حد كبير.
“هاهاهاهاها!”
انفجرت الرئيسة في الضحك بصوت عالٍ دون توقف. و كانت هذه أول مرة ترى فيها سيان الرئيسة تستمتع بهذا الشكل المرح والواسع.
مشاداتٌ لفظية مرحة، ومزاح، ونظراتٌ تتخللها المودة—كانت جلسة طعامٍ مليئة بالبهجة.
لم تعد تتذكر متى كانت آخر مرة تأكل فيها بهذا القدر من الضحك.
و طوال الوجبة، حافظت سيان على ابتسامةٍ خفيفة على وجهها. و جوون أيضًا بدا في مزاج جيد على نحو غير معتاد.
بل إنه كان صاحب الاقتراح في عقد هذا اللقاء اليوم.
وقد أمكن قراءة السعادة بوضوحٍ في نبرة صوته.
“أنتم الاثنان، لم يتغير منكم شيءٌ سوى طول القامة، أما شخصياتكم فهي كما كانت. حين أنظر إليكما، أجدكما فعلاً مدهشَين.”
عند كلمات الرئيسة، عبس جوون بين حاجبيه.
“هل كان في اللحم كحول؟ لمَ تتحدثين كأنكِ ثملة، وتستمرين في رواية الذكريات القديمة؟”
“من يدري. لعلني أشعر اليوم بحنينٍ خاص. ربما لأنني ما زلت مذهولةً من أن أولئك الطفلين الصغيرين كبرا هكذا……”
تاه صوت الرئيسة في نهاية كلامها، كأنها غرقت في مشاعر الذكرى.
“أطفالي هما لي سيان و جوون، فقط. طفلان يكفيان، ما الحاجة لأكثر؟!”
‘عائلة.’
كلمةٌ كانت سيان تظن طوال حياتها أنها لن تعني لها شيئًا مجددًا، وأنها فقدتها إلى الأبد……لكن حين اجتمع الثلاثة معًا، وضحكوا وتبادلوا الحديث، شعرت بشيء داخلي يصعب وصفه.
“إن كنتِ لن تأكلي، وتريدين أن تبقي فمكِ فارغًا، فابدئي بالكلام عن العمل.”
وبهذه الجملة، قطع تاي جوون—بمزاجه المعتاد الجاف—جو الحميمية فجأة.
فتبادلت سيان والرئيسة نظراتٍ عابثة وضحكتا بخفة، ثم شرعتا في الاجتماع على الفور.
“لا بد أن لسيان سببًا وجيهًا لتلغي إجازتها وتقدم موعد الاجتماع. قولي لي، ما الأمر المهم؟”
ورغم أن الرئيسة كانت تصفها أحيانًا بإدمان العمل، إلا أنها، مثلها، جعلت من أوتيس محور حياتها، والعمل صار جزءًا لا يتجزأ من وجودها، لذلك بدا الأمر طبيعيًا بالنسبة لها.
شربت سيان قليلًا من الماء لتبلل فمها، ثم شرعت تشرح باختصار،
“الثعابين لا تختار فقط توائم الأرحام، بل يبدو أنها تنتقي من هم في صحةٍ مثالية لا تشوبها شائبة ليكونوا قرابين.”
“همم……وعلى أي أساس خرجتِ بهذا الاستنتاج؟”
أخبرتهم سيان أن جميع القرابين الذين تأكدوا منهم حتى الآن، كانوا يتمتعون بصحة تامة دون حتى أمراض بسيطة.
ولهذا السبب، فإن الشخص المرجح أن يكون القربان القادم من بين التوائم الموجودين حاليًا في البلاد هو……امرأة في السادسة والعشرين، تدير متجرًا إلكترونيًا. أو رجل في الخامسة والثلاثين، يعمل فنانًا.
“أجل، احتمالٌ معقول. سنضع الاثنين تحت رقابة مشددة. وماذا أيضًا؟”
ظنّت سيان أن جوون سيتولى الكلام من هنا، لكنه كان يشرب البيرة وينتظرها لتكمل. فهي زعيمة فريق النجارين.
فتابعت حديثها بصوت هادئ.
“مين كي شيك، صاحب الحانة في أبغوجونغ، يبحث عن الشابة العرافة من حادثة أطفال أونغجو……أي عني أنا. هو لا يعرف اسمي أو شكلي بعد، لكنه على الأرجح سيصل إليّ في النهاية.”
“غالبًا، نعم……”
قالت الرئيسة ذلك وهي تعقد حاجبيها بتركيز، ثم بدت نظراتها حادةً فجأة.
“لكنني أظن أن هذا ليس كل ما جئتِ لتخبريني به، أليس كذلك؟”
“صحيح.”
نظرت سيان إلى الرئيسة مباشرة.
“هناك جماعةٌ يستخدمها مين كي شيك لتعقبي.”
“جماعة؟……من أي نوع؟”
“أولئك الذين يحصدون سنابل القمح من البحر.”
“ماذا؟”
اهتزت كتفا الرئيسة من الدهشة، وسرعان ما تجهم وجهها فجأة.
“ماذا قلتِ؟”
“يحصدون سنابل القمح من البحر. إنها طائفةٌ دينية منحرفة داخل البلاد. هل سمعتِ بها من قبل؟”
تجعد جبين الرئيسة، وترددت ترددًا نادرًا.
عندها فتح جوون عينيه نصف فتحة، وتدخل،
“لماذا؟ هل هي جماعةٌ خطيرة لدرجة أن تصدمكِ؟”
“ليست خطيرة فقط……بل هي منظمةٌ بالغة الغموض حتى بين الطوائف المنحرفة*.”
*المنحرفة هنا المقصود انهم انحرفوا عن الأديان الطبيعيه الي هي الاسلام وغيره
هزت الرئيسة رأسها ببطء.
“لا يستقبلون أحداً أبدًا، وحتى معلومات القائد الديني شبه معدومة. أظن أن عدد أتباعهم تجاوز الثمانين ألفاً مؤخرًا……لكنكِ تقولين أن جماعة ’حصاد سنابل البحر‘ تتلقى أوامر من الأفاعي وتبحث عنكِ؟”
نعم، هذه هي الرئيسة بحق.
فمن مهام أوتيس أيضًا مراقبة تحركات الطوائف المنحرفة التي بدأت تتوسع داخل البلاد. فتلك الجماعات كثيرًا ما تورطت في جرائم خطف، أو هزّت المجتمع بعمليات انتحار جماعي، بل ووصل بعضها إلى مستوى ارتكاب أعمال إرهابية.
وكانت الطوائف المرتبطة بنهاية العالم تحديدًا من أكثرها خطورة……
وجماعة ’حصاد سنابل البحر‘ كانت واحدةً من تلك الطوائف المروّعة.
تابعت سيان تقريرها بنبرةٍ حازمة.
“جماعة ’حصاد سنابل البحر‘، من المؤكد أنها على اتصال مباشر برأس الأفعى.”
“طالما أنهم يبحثون عنكِ، فالأمر مؤكدٌ بلا شك.”
“لذلك، يجب أن نتحقق مما إذا كان والدا كيم يون وو، الضحية التي قُتلت كقربان حي في فيديو الكاميرا، على علاقة بتلك الطائفة. سأتولى بنفسي مقابلة والد كيم يون وو بأسرع وقت ممكن للتحقق من ذلك.”
“وكذلك يون مين يونغ، شبح مفترق الطرق، الذي كان أول مهمةٍ لنا.”
قال جوون ذلك مقاطعًا، فأومأت سيان موافقة، وأكدت بدورها.
“ومين هي سون، صاحبة القطة ’جون‘، لا بد من التأكد بشأنها أيضًا. هل تم تجنيدها من قبل هذه الطائفة؟ هل أحد أصدقائها المقربين من أتباعهم؟ يجب أن نعرف كل ذلك بسرعة.”
حتى الآن، كانوا يظنون أن الضحايا اختُطفوا بشكلٍ فردي بلا صلة.
لكن لا……بدأ يظهر بينهم قاسمٌ مشترك.
وهو: الديانة. تحديدًا الطوائف الدينية المنحرفة.
من الممكن أن تكون هذه الطائفة تحوم حول المستهدفين وتراقبهم لفترة، تعتني بهم وتنتظر الوقت المناسب، ثم “تقطفهم” كما يُقطف الثمر.
فالتجمعات الدينية الصغيرة لا تثير الشك غالبًا مهما تسللت إلى أي مكان، بأنشطة تطوعية، جلساتٌ استشارية، دروس للربّات، مجموعات هواية……وهكذا.
“الأفاعي الآن يبحثون عنكِ بجنون يا سيان……”
ملأ جوون كؤوس الثلاثة بالشراب حتى فاضت، ثم رفع كأسه عاليًا وكأنه يدعو للنخب، وأعلن بثقة لا تتزعزع:
“لذل، لنكن نحن من يبادر بالهجوم على جماعة ’حصاد سنابل البحر‘، ونسحق رؤوس تلك الزواحف جميعًا.”
***
جماعة “حصاد سنابل البحر” كانت طائفةً دينية منحرفة ضخمة، بلغ عدد أتباعها ثمانين ألفًا.
وقد غيّرت اسمها أربع مراتٍ حتى الآن، وتتّبع قاعدةً صارمة تمنع أتباعها من الحديث عن معتقداتهم دون إذن.
زعيم الطائفة لم يظهر للعامة ولو مرةً واحدة، ولا يُسمح بلقائه إلا لأتباع مختارين يُزعم أنهم “مميّزون” و”مختارون”.
وذلك المظهر الكئيب المريب……لم يكن ينقصه شيء ليكون أفعى حقيقية.
“واحد مع، والآخر ضد.”
أخيرًا، اتخذت الرئيسة قرارها.
واحد تؤيده، والآخر تعارضه.
“أن يتم التسلل إلى جماعة ’حصاد سنابل البحر‘ والتحقق من هوية زعيمها الغامض، والعلاقة بينه وبين الأفعى، هذا……أوافق عليه. أما أن تكونا أنتما الاثنان من ينفذ المهمة ويدخل إلى قلب الطائفة، فهذا لا يمكنني السماح به. يجب أن أوكل المهمة إلى عملاء مختصين.”
ثم توقفت عن الكلام، ونظرت إليهما ناقدة، وهي تنقر لسانها باستنكار.
“فكرّا بجدية، وضَعَا أيديكما على ضميركما. هل تملكان ملامح من يمكنه الانضمام إلى طائفة دينية منحرفة؟ انظرا في المرآة. حتى لو دخلتما إلى ’حصاد سنابل البحر‘، هل تظنان فعلًا أن الأتباع سيقتنعون ويقولون: ’أهلاً بالتابع الجديد، لا بد أن الحياة كانت قاسيةً عليكَ لتأتي إلى طريقنا الروحي؟‘ هل سيبتلعون تلك الكذبة؟”
“حتى جيمس بوند كان واضحًا جدًا ومع ذلك لم يكتشف أحدٌ أنه جاسوس!”
* عميل سري بريطاني يعمل لدى المخابرات الخارجية له قصص حلوه لو تبحثون عنها
حين بدأ جوون يتمتم بسخرية، انفجرت الرئيسة غضبًا.
“أيها الأحمق! بحق……”
ثم تنهدت بعمق وأكملت بجدية،
“على أي حال، في جماعة ’حصاد سنابل البحر‘ لا يمكن أن تصبح تابعًا إلا من خلال توصية أحد الأتباع أنفسهم. وبسبب هذه الخصوصية، حتى في أفضل الحالات، فإن التسلل إليهم سيستغرق عدة أشهر على الأقل.”
“وهذا يعني أن ولاء هؤلاء لبعضهم البعض سيكون مرعبًا، ومتماسكًا بشكل لا يُصدق.”
قال جوون ذلك وهو يرفع إصبعه السبّابة ليؤكد كلامه.
“أقوى بكثير مما يمكننا تخيله.”
بالفعل، كان الأمر كذلك.
ثمانون ألفًا. ربّات منازل، موظفون، طلاب، عناصر شرطة، رجال أعمال، قضاة، سياسيون……
لا أحد يعلم أين ومتى وكيف يتحركون، أو من يكونون حقًا وسط الزحام.
وما إن تَخيّلت سيان أولئك الذين يقفون بين الناس، مختبئين تحت أقنعة زائفة، حتى اجتاحها شعورٌ بالقشعريرة في لحظة مفاجئة.
____________________
ماعلي منهم الصراحه بلا زي اي قضيت وتعدي اهم شي سيان وجوون سوا🤏🏻
المهم متحمسه لقضية المرايه اكثر من ذول 😂
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 71"