في يوم 12 مايو.
بعد أن تخلصا تمامًا من شبح الألف قدم، استندا سيان و جوون إلى جدار غرفة النوم في المنزل المهجور ليستريحا قليلًا، ثم غلبهما النعاس معًا.
كانت سيان قد بكت كثيرًا في نومها، لكنها حين فتحت عينيها شعرت براحةٍ عميقة لم تعهدها من قبل.
وكأنها خفة، أو راحة تامة.
كان من طبيعة جوون الساخرة أن يتهكم عليها، لكنه لم يذكر شيئًا عن بكائها…….و تصرّف وكأنه لم يرَ شيئًا، وكأنه لا يعرف شيئًا، و تظاهر حتى بأنه لم يلحظ نحيبها.
قبل مغادرتها من البيت المهجور، ألقت سيان نظرةً أخيرة على هذا المبنى الذي ظل محفورًا في ذاكرتها طوال واحدٍ وعشرين عامًا كأنه لعنة.
ومع أول خيوط الشمس الصباحية، تلاشى دم وسمّ شبح الألف قدم اللذان كانا يملآن البيت كما لو أنهما ضباب، وحتى الهالة السامة التي احتضنها هذا المكان اختفت، فكأن البناء قد انهار تمامًا في ليلة واحدة.
ولم يتبقَّ منه سوى بيتٍ مهجور قديم بشع لا أكثر. و لم يعد هناك أي شعور بالرعب أو الغموض.
حين دارا إلى خلف المنزل، وجدا أن النافذة التي كسرها جوون ليلة البارحة للدخول كانت ملصقةً عليها تعويذة. وكانت هذه التعويذة خدعةً بسيطة تجعل الأرواح لا تنتبه إلى النافذة المكسورة.
“لربما أطلقت النار عليكَ فور أن أراكَ هكذا، تصرفكَ كان شجاعاً حقًا.”
قالت سيان ذلك ببرود، فرد جوون وهو يخلع سترته ويضعها على كتفيها،
“حتى هذا فيه شيءٌ من الرومانسية، أليس كذلك؟”
“رومانسي؟”
“من يدري، ربما يظن الناس أننا زوجان انتحرنا معًا ويحرقوننا معًا أيضًا.”
“….…”
“أن أطير كرمادٍ بجانبكِ يا آنسة سيان……أمرٌ يبعث في الصدر غصة، تكاد نبكيني.”
تمنّت لو أنه يصمت.
ورغم أنها تنهدت بسخرية، فإن هواء مايو على سفح الجبل كان باردًا، وجعلها تشعر براحة دافئة حين لامسها دفء جسده من سترته. فلم تعُد سترته التي وضعها على كتفيها.
ابتسم هو بخفة كأنه راضٍ، ثم لمس جبهتها.
“العمر الذي كان محفورًا كوشمٍ قد مُحي.”
“تمامًا؟”
“تمامًا، وبشكلٍ نظيف.”
“….…”
“اللعنة انتهت، والانتقام انتهى أيضًا. الآن، لي سيان حرة.”
كلمة “حرة” التي قالها، تسربت إلى أعماقها بانتعاش مفاجئ ومدهش.
“حرّة……”
تمتمت بها بصوت منخفض، كأنها ترددها لتتأكد من معناها، فأشار برأسه نحو السيارة وكأنه يقول أنه لم يعد هناك ما يفعلونه هنا.
“لنذهب. لا بد أننا جائعان بعد الركض طوال الليل. لنأكل شيئًا ونعود إلى سيول.”
غادر جوون المنزل المهجور أولًا، بينما عادت سيان إلى غرفة النوم وهي لا تزال ترتدي سترته، وأخذت معها اللفافة التي تحمل صورة الضفدع، والتي رسمتها كاهنة الموتى.
فقد كانت تخطط لهدم هذا المنزل غدًا على أي حال، بعد أن تنتهي حياتها، لكن بما أنها لم تَمُت، قررت أن تهدمه غدًا كما هو مقرر.
كيييييك-
خرجت سيان من باب المنزل المهجور، فرفّت عيناها قليلاً تحت شمس منتصف مايو المشرقة التي أبهرتها.
ثم وقفت ببطء وسط الضوء، واستدارت لتنظر إلى الخلف. المكان الذي قُتلت فيه عائلتها كلها.
لم تكن لتتخيل يومًا أنها ستعود لتعيش مجددًا بعد ما جرى هنا. لكنها في النهاية نجت، ورأت بأم عينيها أرواح عائلتها وهي ترحل، وكأن الأمر حلمٌ أو حقيقة يصعب التمييز بينها.
الآن، لم يعد هناك شيءٌ في هذا المنزل المهجور.
كما قال جوون……كانت حرية العائلة.
وحرية لي سيان.
أدارت سيان وجهها تمامًا عن المنزل المهجور دون تردد.
كان جوون ينتظرها في ساحة المنزل. والمكان الذي كان واقفًا فيه هو نفسه الذي اختفت فيه روح أمها وأبيها وأختها في النور صباح اليوم، وكأنهم ذابوا بياضًا في الضوء.
ولعل هذا هو السبب في أنها، لوهلة، شعرت أنه بدا كعائلةٍ جديدة لها، فاختلطت مشاعرها.
“لي سيان”
ناداها جوون بابتسامة خفيفة، وكأنه يدعوها للقدوم.
و وراءه، تمايلت أزهار الغليسين البنفسجية مع الريح، واصطفت أزهار الهندباء الصفراء على جانب الطريق بوضوح وبهاء.
طق……طق……
خطوة، ثم خطوة أخرى.
تقدّمت سيان نحوه بخطٍ مستقيم.
***
بعد أن انتصرت على شبح الألف قدم، عادت مباشرةً إلى شقة العملاء الخاصة بأوتيس، وأطلقت سراح لينكون من الفخ الذي قيدته فيه.
لينكون، الذي ظل محتجزًا لما يقارب يومين، التقط على الفور رائحة اختفاء شبح الألف قدم بحسّه الحاد. وليس من المستغرب أن يعرف، فذلك الشبح هو من مزّق لينكون وقتله في السابق.
كما أن السبب وراء كوابيس سيان الطويلة التي دامت واحدًا وعشرين عامًا، كان ذلك الشبح أيضًا.
“آسفة لأني حبستكَ وذهبت.”
حاولت أن تعتذر له وتعانقه، لكن لينكون أدار رأسه وتراجع إلى الخلف خمس أو ست خطوات.
و عيناه كانتا تشتعلان بالغضب والخيانة، وكأنه غاضبٌ منها حقًا.
“لينكون.”
نادته سيان محاوِلة تهدئته بجدية.
“لم أرد أن أراكَ تموت مجددًا على يد ذلك الشبح.”
“…….”
“بل……لم أستطع تحمّل رؤية موتكَ مرة أخرى.”
ومع ذلك، لم يلتفت إليها لينكون، ولم يسمح لها حتى بلمسه.
كان يبدو مصدومًا بشدة من حقيقة أنها قررت أن تقاتل وحدها وتموت، ومن أنها فكّرت حتى في أن تسلّمه إلى سيد آخر.
طبعًا، كان ذلك متوقعًا. فقد عاشا معًا واحدًا وعشرين عامًا، يعتمدان على بعضهما وكأن كلٌ منهما هو العائلة الوحيدة للآخر……
نعم……لو أنها قالت له: “لنمت معًا”، لكان لينكون سُرّ بذلك بالتأكيد. ولكان قد اختفى إلى الأبد، إذ لم يكن بالإمكان أخذه إلى داخل وعي جوون.
ولذلك، لم تشعر سيان بالندم على أنها حبسته في الفخ.
لكن رؤيتها له بهذه الحالة الجريحة كانت كأن صدرها يُمزَّق من الألم.
نظرت إلى لينكون الجالس كتمثال، ووعدته بصوت مبحوح بالكاد يخرج من بين شفتيها.
“أنا آسفة……لن أفعلها مجددًا أبدًا، أعدكَ.”
لكنه ظل ساكنًا تمامًا، دون أي ردة فعل.
وكانت دموع الألم والغضب تمتلئ في عينيه، ثم تنهمر بهدوء وتتساقط بلا توقف بجانب كفّيه الأماميتين البيضاوين.
***
13 مايو.
بينما ذهبت إلى أوتيس لإلغاء إجازتها، مرّت على مركز حفظ الآثار وأعادت لفافة الضفدع.
فأسرع مدير المركز بفحص حالة اللفافة، وحين رأى ما فيها، انهار تمامًا.
“آه……آه آه آه……”
سقط على ركبتيه فجأة، وحمل لفافة الضفدع الملطخة بالدماء بكلتا يديه، ثم بدأ جسده يرتعش وهو يبكي بانهيار.
“آه……آآه……أوه……”
كان بكاؤه كمن فقد وطنًا.
جلست سيان أمامه وهي تثني ركبةً واحدة، ووضعت سيفًا برونزيًّا فوق لفافة الضفدع الملطخة بدم شبح الألف قدم الأسود.
كان هذا السيف من الأشياء التي بقيت في مكان اختفاء الشبح.
“يُستخدم سمّ الألف قدم في صناعة مادةٍ تُعرف بالـ(غودوك)، وهي مادةٌ تُستعمل كوسيلة لصنع لعنة، وهذا السيف دليلٌ مادي على استخدامها في السحر المسمى (غوتشوري).”
“سيفٌ برونزي من نوع بيبا؟ من مملكة غوجوسون؟”
صرخ مدير المركز وهو يدفع لفافة الضفدع بعيدًا بطريقةٍ عشوائية، ثم أمسك بالسيف الذي كان يشع بلون يشبه اليشم، ورفعه بحماس كأنه يصرخ: “اكتشاف!”
“هناك نقش……هناك حروف محفورةٌ عليه.”
“نعم، لكنها بلغة لا أستطيع قراءتها.”
“انتظري لحظة! هذه الحروف……نمطها غريب! هممم، حتى في الخلف، هناك حروف صغيرة محفورة بنقش دقيق……”
تمتم المدير وهو يقطب جبينه مركزًا.
“آه، هذا……على الأرجح، كان يخص شخصًا ذا مكانة عالية، وقد وُضع سرًّا في قبر خصمه بعد موته. يبدو أنه استُخدم كلعنة لجعل نسل ذلك الخصم ملعونًا إلى الأبد……”
ثم قطع كلامه فجأة وأخذ يضحك كالأبله.
“هيهيهيهيهي……”
و وقف متحمساً وهو يبتسم لوحده. بينما تابعت سيان الحديث وكأن شيئًا لم يكن.
“إن صحّ هذا، فربما قبل مئتي عام، عثر أحدهم على هذا السيف البرونزي صدفة، ثم استعمله لتحويل شخصٍ ما إلى شبح الألف قدم، ليلعنه.”
“حسنًا، حسنًا، حسنًا! سأحلّ بقية الألغاز بنفسي!”
قال مدير المركز ذلك بحماس، فردّت سيان بخفة وهي تعتذرى
“آسفة على تلف لفافة الضفدع.”
لكن مدير المركز لم يلقِ عليها حتى نظرة. بل وكأنه نسي أمر اللفافة تمامًا، أسرع يركض نحو المختبر بخطواتٍ سريعة.
وأثناء ذلك، بدأ يتمتم بكلماتٍ غير مفهومة وكأنه أصيب بالجنون، ولم تستطع سيان فهم كلمة واحدة مما قاله.
لكن، طالما أنه سعيد، فلا بأس.
جمعت سيان لفافة الضفدع التي سقطت على الأرض، ولفّتها بعناية، ثم وضعتها على طاولة المركز.
***
14 مايو، مساءً.
أبدت الرئيسة إعجابها الشديد بحساء الكستناء العطري الذي تذوقته.
“همم! نكهته نظيفةٌ ولذيذة للغاية. يبدو أن جوون يعرف المطاعم الخفية ذات المذاق المميز، أليس كذلك؟”
“رغم شخصيته، إلا أن ذوقه في الطعام جيد……”
قالت سيان ذلك موافقة، فعبس جوون الجالس بجانبها قليلًا.
“هل اتفقتما على لقائي اليوم فقط لتتحدثا عني؟ فالتفاهم بينكما مثالي!”
نبرته كانت ساخرةً كعادته، لكن يبدو أنه كان في مزاج جيد.
في الأصل، كان من المقرر أن يلتقوا الثلاثة لتناول لحم البقر في أوائل يونيو، لكن سيان ألغت إجازتها التي كانت مستمرةً حتى 22 مايو، فتم تقديم موعد اللقاء فجأة.
لم تكن في مزاج للاستمتاع بالإجازة أصلًا. و حتى حجم اللقاء تقلّص إلى مجرد عشاءٍ بسيط.
شششش-
جوون كان يتولى شوي اللحم ببراعة.
المكان كان مطعم لحم مصمم على شكل غرف خاصة، ليسهل على الكراسي المتحركة التحرك فيه، ووفقًا للاتفاق، كان من المفترض أن “الرئيسة هي من تشوي كل قطعة بعناية وتقدمها بنفسها”…
طَق-
وضع جوون أول قطعة لحم مشوية بعناية في طبق سيان الصغير. فما كان من سيان إلا أن قطبت حاجبيها، بينما انفجرت الرئيسة ضاحكةً بمرح.
“هاهاها! جوون معروفٌ بأنه لا يعترف بفكرة احترام الأكبر سنًا!”
“من أين أتيتِ بذلك الهراء عن المبادئ الخمسة والمثل العليا؟ لديكِ يدان، خذي ما تريدين بنفسكِ، أيتها العجوز.”
رد جوون بسخرية، فأمسكت الرئيسة عيدان الطعام وهي تلوّح بها مبتسمة.
“حسنًا، طالما لدي يدان، سآكل بيميني اليوم.”
كانت هذه أول مرة يلتقي فيها الثلاثة معًا، لكن الأجواء كانت دافئةً والحديث كان منسجمًا وسلسًا.
ربما لأن كلًّا منهم يعرف الآخر جيدًا، ويكنّ له تقديرًا عميقًا.
استمتعت سيان بهذه الأجواء براحة تامة.
و رغم أنها لم تُظهر ذلك، إلا أنها كانت تحترق من الداخل قبل أيام قليلة فقط.
كانت قلقةً بشأن كيف سيكون حال الرئيسة بعد رحيلها، وكانت منشغلة البال يجوون الذي سيبقى وحيدًا.
وربما لهذا السبب، مجرد كونها على قيد الحياة……و أن تتناول الطعام وتضحك معهم هكذا، كان شيئًا لا يضاهى بالفرح والطمأنينة.
كانت تشعر أن عينيها تلمعان بسعادةٍ خفية. وحين التفتت بابتسامة خفيفة، التقت عيناها بعيني جوون فجأة.
كان ينظر إلى سيان بابتسامةٍ دافئة، وكأنه يعرف تمامًا ما تشعر به الآن، أكثر من أي شخص آخر.
“لنشرب نخبًا.”
قال ذلك وهو يرفع كأس البيرة بخفة واسترخاء.
فضحكت سيان بخفة، ورفعت كأسها لتصطدم بكأسه بصوت رنين لطيف.
“نخبك.”
______________________
هذا الفصل اختصار للي صار بعد ذيك الليلة🤏🏻😔
سيان كأنها شوي تغيرت صارت اسعد وجوون مروق والكل فرحان ومبسوط🫂
باقي لينكون النفسيه
المهم ابي اعتراف مايكفي
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 70"