“كنتُ على علاقة جيدة جدًا مع ابنتي الصغيرة. توافقنا في الطباع وكان حس الدعابة بيننا متقاربًا أيضًا، و بصراحة كنت متأكدًا أننا أكثر حميمية من معظم الآباء وبناتهم. لكن للأسف، علاقتي بزوجتي كانت فاترةً بعض الشيء. فزوجتي كانت امرأةً شديدة الجدية، تنظر لكل الأمور بجدية مفرطة، حتى أنها كانت تكره المزاح والكلام الخفيف كرهًا يكاد يصل إلى النفور.”
كانت امرأةً رصينة، بينما كان هو رجلاً خفيف الظل.
“في الحقيقة، قبل أن نُرزق بطفلة، لم تكن اختلافاتنا في الطباع تسبب أي مشكلةٍ تُذكر. لكن عندما توطدت علاقتي بابنتي الصغيرة بدأت المشاكل تظهر بيني وبين زوجتي. فمنذ أن بدأت ابنتي تخطو خطواتها الأولى، كنا نخرج سويًا في نزهات، نأكل في الخارج، نذهب للسينما، نزور معارض فنية كثيرًا. ويبدو أن ذلك جعل زوجتي تشعر بالوحدة، أو ربما كان تعبير “العزلة” أنسب.”
فحين كانا يعيشان معًا كزوجين فقط، كان يمكن التغاضي عن بعض الجفاء بينهما. لكن بعدما صارا عائلة صغيرة من ثلاثة أشخاص، وأصبح هو وابنته يخرجان وحدهما باستمرار، شعرت زوجته بأنها مستبعدة.
“ومع ذلك، كلما دعوتها لمشاهدة فيلم كانت ترفض. فهي لا ترغب في شيء سوى الأوبرا أو الباليه أو المسرحيات الغنائية، لكن ابنتي لم تحتمل ذلك، وكنت أنا أعارضه لأجلها.”
وفوق هذا، كان لزوجته طبعٌ صارم…..إذ كانت تصر أن تجتمع العائلة كلها على مائدة الطعام صباحًا ومساءً. سواء حصل حديثٌ أو لا، كان لابد أن يكون الجميع في البيت ليلًا.
“أنا، لكوني باحثًا هادئًا يميل للبقاء في المنزل، لم يزعجني هذا الطبع. لكن ابنتي لم تكن كذلك. فقد كانت تعشق التخييم وتحب مراقبة النجوم. كانت شديدة الفضول ونشيطةً للغاية، فإذا انغمست في شيءٍ ما، تكرّست له بالكامل حتى تنسى الأكل. وبما أنني كنت أحب ابنتي حبًا جمًا، فقد كنت أحقق لها كل ما أرادت تجربته.”
فإذا قالت بحماس: “أبي! سيتساقط وابلٌ من الشهب! أريد أن أراه أيضًا!” كان يحملها و يخرجان على الفور.
“وهكذا، بينما كنت أقضي معظم وقتي مع ابنتي، راحت زوجتي تزداد شعورًا بالوحدة، ثم فجأة بدأت تُبدي اهتمامًا بالجانب الديني.”
في البداية لم يجد الأمر غريبًا، فليس في التدين ما يضر. بل بدا وكأنها أصبحت أكثر إشراقًا بالاختلاط مع الناس.
و لم تعد تغضب كما في السابق حين تُعِد مائدةً عامرة وتقول بهدوء مكبوت: “لقد تعبت في إعداد هذا، فلماذا لا نجتمع لتناول الطعام؟”.
بل صارت تكتفي بالقول: “كلوا العشاء كما تشاؤون”.
كان ذلك مريحًا. فزوجته صارت أكثر سعادة، و هو أكثر ارتياحًا، وابنته أكثر فرحًا.
“وكانت ابنتي آنذاك تتعلم الباليه مواكبةً لذوق والدتها الراقي، لكنها سرعان ما تركت الباليه لتبدأ تدريب الملاكمة للأطفال، وكانت تستمتع بها غاية الاستمتاع.”
ومرت سنة، ثم سنتان، ثم ثلاث. وأخذت زوجته تنغمس أكثر فأكثر في نشاطاتها الدينية.
سألها أكثر من مرة عن ماهية هذا الدين، لكنها لم تُجب بوضوح قط. و كانت تكتفي بالقول: “أذهب إلى المجمع” أو ما شابه.
صارت تخرج من الفجر ولا تعود إلا وقد قضت اليوم كله في الكنيسه، والأعمال التطوعية، والاجتماعات، وحتى الرحلات.
لكن….غاية تلك الرحلات كانت……
“قالت أن سفينةً تحمل التابعين ستغادر نحو الجزيرة حيث يقيم “الزعيم”، و أن عليهم توديع تلك السفينة من الميناء. و هناك لأول مرة راودني الشك في ديانة زوجتي. ولأول مرة انتابني قشعريرة.”
طلب منها أن تصرّح لي بوضوح ما هو هذا الدين. فترددت قليلًا ثم قالت: “نحن جماعة نحصد حبوب القمح من البحر.”
فقال في نفسه: ‘ما هذا…..هل هو دينٌ منحرف؟ فمن البديهي أن القمح لا يُحصد من البحر.’
و سألها: ما هذا الدين أصلًا؟ ألا ترين أنه شيءٌ غريب تورطتِ فيه؟
“كنت قلقًا، لكن زوجتي، على غير عادتها الرصينة، انفجرت غاضبةً بشدة. بعدها حاولتُ استدراجها بلطف، وأحيانًا جلست معها بجدية لأحاديث طويلة. لكنها أغلقت فمها تمامًا عن أي تفاصيل تخص ديانتها. و قالت إن طبيعة الطائفة تقوم على السرية المطلقة، وإن ما باحت به يومها كان مجرد زلةٍ لأنها فرحت باهتمامي المفاجئ.”
فغير أسلوبه، وأوحى لها أنه قد يرغب هو أيضًا في أن يكون تابعاً، فقط ليفتح فمها المغلق.
حينها فقط أشرق وجهها فرحًا، وقالت كم سيكون رائعًا لو أصبحنا نحن الثلاثة، هو وهي وابنتهما، جميعًا تابعين.
“رأيتها تبتسم بتلك السعادة لأول مرة في حياتي…..لم أرَ مثل تلك الابتسامة لا قبل الزواج ولا بعده. وهناك فقط غمرني شعورٌ حاد بالذنب.”
لكن الذنب تلاشى سريعًا. إذ خلال الحديث عن الطائفة، اكتشف أنها كانت تلح بلا هوادة على ابنته لتدخل في ديانتها.
“ولا أزال حتى الآن عاجزًا عن نسيان ذلك البريق الجنوني في عينيها يومها.”
قالت له أنها ابتلعت توأمها في بطن أمها، وأن ابنتهما أيضًا ابتلعت توأمها في بطنها. ولذلك إذا أنجبت ابنتهما يومًا طفلٌ ابتلع توأمه هو الآخر، فسيكون تابعاً عظيمًا.
طفلٌ توأم، من أم توأم، وُلدت من أم توأم…..أي جنون هذا؟ أي كلام فارغ؟
‘لا. لا، أبدًا.’
“عندها قطعت الطريق بوضوح. قلت أنني لن أنتمي أبدًا إلى هذه الطائفة. وغضبتُ عليها لأني عرفت أنها تعرض ابنتي لمثل هذا الدين المجنون.”
و منذ ذلك اليوم وحتى بلغت ابنتهما الثانية عشرة، عاشا سنواتٍ من نزاع متواصل. شجاراتٍ يومية، وجفاءٍ مستمر، وبرودةٍ جارحة تجتاح البيت، وصوت صراخ لا يهدأ.
وفي النهاية قررا الطلاق. لكن المفاجأة…..أن ابنته ذات الثانية عشرة اختارت الذهاب مع أمها.
“لقد تلقيت صدمةً هائلة. شعرت بخيانةٍ جارفة. فلم يخطر ببالي لحظةً أن ابنتي ستتخلى عني. لكني فوجئت بأنها قالت أنها ستذهب مع أمها الغارقة في خرافاتها.
و كانت تبكي بحرقة وهي تقول: أنها لا تستطيع أن تترك أمها وحدها، فهي بحاجةٍ لمن يرعاها.”
قالت: “أبي يستطيع العيش بمفرده، لكن أمي لا تستطيع وحدها.”
“حينها، فكرتُ مليًا: هل عليَّ أن أتنازل عن الطلاق؟ لقد مزقني الصراع داخليًا. لكن في النهاية، وقّعت أوراق الانفصال. وبعدها، علاقتي بابنتي……”
في البداية كانت لا تفارق الهاتف، تكلما باستمرار. لكن مع دخولها سن المراهقة، أخذت اتصالاتها تقل شيئًا فشيئًا، ثم صار يحدث أن لا ترد على مكالماته، أو تجيب بعد أيامٍ قليلة بكلماتٍ مختصرة، وأحيانًا لا تجيب إطلاقًا.
“سابقًا، كنت أذهب كثيرًا إلى سيول لأراها، لنشاهد فيلمًا أو نتناول الطعام معًا. لكن بعد دخولها المرحلة المتوسطة، لم تعد تجد لي وقتًا. ربما لأنها انشغلت بأصدقائها الجدد ودراستها…..ورغم أنني شعرت بالخذلان، فلم يكن بوسعي أن ألومها. فأنا أعيش في الأقاليم، بينما زوجتي وابنتي تعيشان في سيول، وكان لا بد أن تنشأ بيننا مسافة.”
مع مرور الوقت اعتاد على العيش من دون زوجته وابنته. وفي تلك الأثناء، أنهت ابنته المرحلة المتوسطة، ثم الثانوية، ثم التحقت بالجامعة.
“وعندما تقدمت للجامعات لم تخبرني حتى أين وضعت طلبها. وفيما بعد، اكتفيت بأن سمعتها عابرًا تقول: “أبي، أنا أدرس في جامعة K.” وهذا كل ما تبقى من صلتنا.”
في الحقيقة، في تلك المرحلة شعر بمرارةٍ شديدة. لقد أيقن بعمق أنهما لم يعودا عائلة. لذلك هو أيضًا…..أصبح بعد ذلك لا يسألها عن حالها إلا كل ثلاثة أو أربعة أشهر في رسالةٍ قصيرة، وحتى إذا مرّت الأعياد دون أن ترسل له تهنئة، كان يتظاهر بأنه لا يبالي.
“ثم ذات يوم، وصلني منها عبر البريد الإلكتروني مقطع فيديو. كان مقطعًا قصيرًا لا يتجاوز ثلاث دقائق…..وفيه كانت ابنتي ترقص وحيدةً على المسرح. بفستان باليه طويل قرمزي، وحذاءٍ أحمر فاقع باللون نفسه. لقد كان صادمًا. فابنتي في الفيديو بدت غايةً في الجمال والرقي، لكن حركات رقصها جعلتها أقرب إلى دمية بلا روح من أن تكون إنسانةً حية.”
***
“الباليرينا* القرمزية؟”
*راقصة الباليه المحترفة التي تؤدي الأدوار الرئيسية في عروض الباليه
قطع جوون الصمت فجأة وتدخل بالكلام. فأجاب الجد بوجه متجهم،
“لا. لم تكن باليرينا حقًا، بل فقط ترقص مرتديةً زي الباليه.”
ألقى الجد عليه نظرةً متسائلة كأنه يقول: “هل هذا مهم في القصة أصلًا؟”
ثم سرعان ما هز رأسه متذكرًا.
“آه! صحيح. الآن تذكرت. لقد رأيتَ ذلك أيضًا وأنتَ صغيرٌ جدًا. بالطبع لن تتذكر، لأنكَ كنت أقل من مئة يوم من عمركَ. كنتُ أهدِّئكَ من البكاء على ذراعي بينما أعمل على الحاسوب المحمول، وشغّلت لكَ المقطع مرة.”
راح الجد يعبث بهاتفه قليلًا، ثم أدار الشاشة ليُريه ما عليها.
نظرت سيان إليه بعينين قلقتين، ثم حوّلت بصرها نحو الفيديو الذي بدأ يُعرض للتو.
“هذا..…”
كانت هناك شابةٌ فاتحة البشرة، فائقة الجمال، ترقص بتنورةٍ شفافة كأنها ضبابٌ، تتمايل بخفة.
وفي الشاشة كانت باليرينا ذات الشعر البني الطويل تقفز بخفة كأنها بلا وزن، ثم تهبط في هدوءٍ مذهل وهي ترجع رأسها إلى الخلف.
ارتجف جسده. و شعر جوون بقشعريرة تسري في ذراعيه حتى أطراف أصابعه. و اتسعت عيناه ولم يعد قادرًا حتى على التنفس.
“في تلك المرة الوحيدة التي رأيتَ فيها هذا الفيديو…..قلت لك وأنتَ تهذي بكلمات طفل رضيع.”
تابع الجد كلامه وهو يحدق بحنين في صورة ابنته.
“جوون، أليست جميلة؟ هذه المرأة الجميلة كالجنية…..هي أمكَ.”
***
ارتفع شعور قشعريرةٍ مزعجة، ودقات قلبه دوّت خلف أذنيه.
امرأةٌ شابة ترقص برشاقة، مخيفةٌ ببرود ملامحها، لكنها أنيقة في حركاتها.
باليرينا ذات شعر بني طويل.
لم يخطر بباله قط أن تكون تلك الباليرينا ذات الشعر الطويل أمه. فالأم التي رآها في البئر المظلم، كان وجهها محجوبًا تحت خصلات شعرها المبعثرة. وشعرها نفسه بدا أسود قاتمًا تحت الماء.
لذلك لم يخطر بباله أصلًا…..
رفع جوون عينيه الجامدتين نحو الأعلى. و كانت الباليرينا ذات الشعر البني الطويل تقف في زاوية غرفة المعيشة بشكلٍ مخيف، كأنها خرجت لتوها من شاشة الهاتف، من الفيديو الذي كانت ترقص داخله، إلى الواقع مباشرة. كان مشهدًا يقشعر له البدن.
تلك الباليرينا لم تكن سوى ملكة الكوابيس التي ابتكرها بخياله.
ولماذا اتخذت ملكة الكوابيس شكل باليرينا تحديدًا؟
رغم أنه لم يكن مهتمًا بالباليه أصلًا، لماذا كانت الصورة دائمًا تنجذب إلى هيئة راقصة باليه؟
الآن فقط فهم السبب. لقد كان ذلك إصرارًا عنيدًا من طفلٍ لم يبلغ مئة يوم بعد، على أن يحفظ في ذاكرته صورة “الأم التي رآها مرةً واحدة”.
“ها.”
ارتسمت على شفتي غوون ابتسامةٌ بلا ملامح.
“ها…..هاها.”
وانفجر ضحكًا. بضحكة باردة، أشبه بسخرية يائسة.
كان يظن أنه دفن عميقًا في لاوعيه جثة أمه التي رآها يوم مولده في قاع البئر. لكنه اكتشف أنها في الحقيقة كانت بجواره منذ زمنٍ بعيد.
طوال فترة نشأته. كانت دائمًا تراقبه من أقرب مكانٍ ممكن. وكان هو، تاي جوون، من أراد ذلك بإلحاح.
إلى درجة أنه ابتكر “أمًا” مطابقةً بتمامها في مخيلته.
____________________
احا صدق ملكة الكوابيس مب امه بس جوون خلاها على شكل امه وهو مايدري 😦 ياعمري يوجع للحين وده بأمه الي نطت في البير عشان ىًقتله😔
والجد ياحرام بعد هو مايدري يلقاها من زوجته ولا بنته ولا الطائفه الزفته ذي 😭
بس يضحك وهو يشوف جوون يقاطعه عشان سالفة مقطع امه وهو ماكمل😂
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات