قضى جوون طفولته في ذلك البيت الغربي القديم الذي كان أهل الحي يطلقون عليه اسم “منزل الأستاذ الهادئ”.
كان بابه الخارجي مزيَّناً بقرميدٍ كوري الطابع، لكن ما إن تدخل عبره حتى تواجهكَ في الداخل فيلا غربية ذات طابقين.
كان منزلاً قائماً على طرف القرية، قيل أن جده بناه في الأربعينات من عمره.
كييييك-
وما إن فُتح الباب الحديدي الأزرق الداكن حتى غمر جوون شعورٌ مفاجئ بالحنين.
صحيح…..هكذا كان الحال دائماً حين يعود مع جده من نزهة قرابة الثامنة مساءً.
توقف جوون لحظةً قبل أن يخطو ببطء إلى فناء الدار.
كان يتذكر بوضوح أن المدخل يرتفع فوق قاعدة حجرية، ويجب صعود خمس درجات قصيرة لبلوغه. و حين كان صغيراً بدت له تلك الدرجات عالية جداً…..وكان يجلس عليها أحياناً واضعاً كتاباً مصوراً على ركبتيه يقرأ فيه.
تجاوز جوون ذكريات طفولته بخطوات ثابتة، وصعد الدرجات واحدةً تلو الأخرى حتى وقف أمام الباب.
أدار الجد المفتاح وفتح الباب على مصراعيه. ثم خلعوا أحذيتهم ودخلوا، فإذا باللون البني الكلاسيكي يملأ المكان على نحو يميز البيوت الغربية القديمة.
جدرانٌ خشبية بنية وسقفٌ خشبي، وسلّمٌ ضيق خشبي يصعد إلى الطابق الثاني…..كل شيء بدا مألوفاً كأنهم لم يغادروا إلا قليلاً.
وقف جوون في غرفة المعيشة، وألقى نظرةً دائرية حوله.
حتى جهاز الأسطوانات الذي كان جده يحبه لا يزال في مكانه، وكذلك لوحات الخط والرسم المعلقة، كلها كما كانت قبل واحدٍ وعشرين عاماً.
كأن الزمن توقف داخل هذا البيت وحده.
غمرت الذكريات جوون، لكنه تمسك ببروده وأطلق من حوله كائنات الكوابيس لتفتش البيت عن أجهزة تنصت أو تصويرٍ خفية.
انتشرت الكوابيس بسرعة في كل مكان، وبدت في غاية السعادة. والحق أن جوون يتذكر أن هذه الكائنات كانت تحب هذا البيت بشكلٍ خاص منذ طفولته، رغم أنه لم يكن بيتاً عامراً بالطاقة الروحية أو بما يستهوي الأرواح عادةً.
أشار الجد إلى الأريكة. و كانت قديمة، لكنها نظيفة لحسن اعتنائه بها.
“تفضلي بالجلوس يا لي سيان، واجلس أنتَ أيضاً يا جوون. لقد صارت الساعة الثامنة، فلنبدأ بالعشاء أولاً. بعض التوست مع سلطة بسيطة لا بأس بهما، أليس كذلك؟”
“دعوني أذهب لشرائه.”
بادرت سيان، لكن الجد لوّح بيده رافضاً.
“رغم أن هذا المكان في أطراف المدينة، إلا أنه معزول كلياً كأنه في الريف. والمطاعم القليلة هنا قد أغلقت أبوابها منذ زمن.”
“إذاً دعني أساعدكَ في التحضير.”
ابتسمت سيان ابتسامةً خفيفة وهي تقولها، إذ بدا أن فكرة أن تأكل على مائدة شيخ تجاوز الثمانين تضايقها بعض الشيء.
لكن جوون قاطعها وأجلسها،
“لماذا على الضيف أن يُعِد الطعام؟ اجلسي بهدوء.”
نظرت سيان إليه بطرف عينيها وكأنما تقول: “بالنسبة لجوون، جَدُّك ليس مضيفاً بل عائلة.”
فضحك الجد بصوتٍ عالٍ موافقاً على كلام جوون،
“بالطبع، الضيف يجب أن يعامل كضيف. لن أعد سوى خبز محمص، لذا اجلسا براحة.”
بينما دخل الجد إلى المطبخ، أخذ جوون يتجول في أرجاء البيت بلا تردد.
لقد وُلد في البئر داخل الغابة خلف هذا المنزل، وعاش هنا حتى السابعة من عمره. وقد اختلف ارتفاع نظرته الآن عما كان حين كان صغيراً، لكن الإحساس ظل غريباً ومؤثراً.
وقعت عيناه على عمود الباب. ما زالت هناك آثار العلامات التي خطها الجد ليحدد طول جوون وهو طفل.
اقتربت سيان ووقفت إلى جواره متحدثةً بدهشة،
“حتى تاي جوون كان صغيراً هكذا في يوم من الأيام.”
“صحيح. كان صغيراً مثل حبة فاصوليا.”
“أتساءل أي طفلٍ كان.”
“كان طفلاً قليل الكلام، مزعجاً، وحاد الطبع.”
ابتسمت سيان ابتسامةً تفيد أنها تفهم.
“أن يقوم جدّكَ بقياس طولكَ كل عام ويترك تلك العلامات…..هذا دليلٌ على حبه الكبير لكَ.”
لا شك في ذلك…..تلك الخطوط التي تمتد من عمره ثلاث سنوات حتى السابعة كانت شاهدةً على ذلك الحب. “جوون الصغير كبر قليلاً، بعد قليل سيلحق بجَدّه في الطول، أليس كذلك؟”
“هيا لنتعشَّ.”
انبعث صوت الجد من المطبخ.
حتى المطبخ لم يتغير قط. ففي اليوم الذي غادر فيه هذا البيت، جلس على ذلك الكرسي وكتب على الطاولة رسالةً يطلب فيها من جده ألا يبحث عنه.
وحتى ذلك الكتاب الذي اضطر الجد لتركه بعدما دخل المستشفى إثر حادث سير، ظل قائماً في زاوية الطاولة، كأنه في انتظار أن يعود حفيده فيفتحه ويكمل قراءته.
من ذلك الكتاب الوحيد، أحس جوون بمدى الشوق الذي كان يملأ قلب الجد طوال تلك السنين.
جلس جوون بصمت في مقعده، المقعد ذاته الذي كان يشغله طفلاً. و جلست سيان بجواره، بينما جلس الجد في مقعده المقابل المعتاد.
كان العشاء بسيطاً: توست بالزبدة، وسلطة، وبيضة مقلية.
فجأة توقف جوون عند البيضة المقلية وحدق فيها. فقد رُسم فوقها قلبٌ بالكاتشب.
حين كان الجد يربي حفيده الوحيد طفلاً صغيراً، كان يرسم له دائماً قلوباً بالكاتشب فوق البيض المقلي. وأحياناً كان يحاول بمهارة متعثرة أن يرسم شخصيات الرسوم التي يحبها جوون، لكن الأغلب كان القلب الأحمر.
وما إن وقعت عينا جوون على ذلك القلب حتى اجتاحته مشاعر الطفولة كاملة، وكأنه عاد إلى الماضي تماماً.
ظل يحدق في القلب المرسوم بالكاتشب، ثم رفع نظره نحو جده. و رغم أن الجد صار عجوزاً أشيب الشعر، إلا أن بريق عينيه وابتسامته لم يتغيرا وهو جالسٌ أمامه.
ثم التفت الجد إلى سيان وهو يحثها على الأكل،
“ليس لدينا شيءٌ يذكر، لكن تفضلي وكلي كثيراً.”
“سأستمتع بالطعام.”
نعم…..تلك الزبدة، كانت ذات الزبدة غير المملحة التي كان الجد يأكلها دوماً.
رفع الجد قطعة توست ثم أشار بيده إلى جوون ليتناول بعض السلطة.
“جوون، تذوّق بعض السلطة أيضاً.”
“هاهاهاها!”
لم يستطع جوون أن يتمالك نفسه فانفجر ضاحكاً. فنظر إليه الجد وسيان باستغراب، لكنه لم يوقف ضحكه.
كان الأمر مضحكاً على نحوٍ غريب، أن يكون كل شيء تماماً كما كان في الماضي. فجدّه كان دائماً إذا طبخ شيئاً يقول له: “تذوّق هذا.”
ابتسم جوون وهو يلتقط شوكةً ويتذوق قليلاً من السلطة.
نعم، هذا الطعم الغريب، حتى هو بدا مألوفاً. فتعمد أن يعلّق بسخرية ملتوية،
“لماذا بحق تضع بيض السمك في السلطة، وفوق ذلك ترش العسل أيضاً؟”
رمش الجد بعينيه ثم بغتةً ترقرقت عيناه بالدموع فيما ارتسمت على شفتيه ابتسامة.
“هذه أول مرة تتدلّل فيها على الطعام.”
ثم التفت إلى سيان وتحدّث مازحاً بفرح،
“حين كان صغيراً، كان يأكل كل ما أقدّمه له دون أي تعبير. لذلك كنت أظن أن حفيدي وُلِد بلا حاسة تذوق.”
ابتسمت سيان بلطف وقد فهمت الموقف. فقد كان جوون قد شكا لها مرةً، حين تناولا معاً حساء رأس السنة، من طريقة طهو جدّه.
فتابعت سيان الحديث بصوتٍ حنون،
“الآن أصبح لديه ذوقٌ حقيقي. يعرف تقريباً كل المطاعم الشهيرة في البلاد.”
“إذاً، جوون صار يبحث عن المطاعم بفضلي أنا؟”
عند هذه الكلمات انفجر الثلاثة بالضحك معاً.
كان الجد مبتهجاً ومتحمساً بشكلٍ واضح. بدا وكأن مجرد جلوسه مع حفيده وجهاً لوجه هكذا حلمٌ تحقق، فكان غارقاً في سعادة بالغة.
ثم أخذ يتباهى بالسلطة،
“هذه سلطتي الخاصة، مزيج الحلو والمالح. في البداية يبدو الجمع بين بيض السمك والعسل غريباً بعض الشيء، لكن مع التذوق ستجده جيداً.”
“لا، ليس جيداً. لا تعدها أبداً.”
ردّ جوون باشمئزاز وحزم، فكانت ردة فعله مضحكةً إلى درجة أن سيان هي التي انفجرت ضاحكةً هذه المرة.
لم يكن يخطر بباله أبداً، قبل واحدٍ وعشرين عاماً حين غادر هذا البيت، أنه سيجلس مجدداً على هذه المائدة ليتناول الطعام هنا.
لكن لم يكن الهدف من الاجتماع الضحك والمرح. فتغيّر وجه جوون بصرامة،
“الليل قصير. فلنأكل بسرعة، ولنبدأ بالكلام.”
***
خرجت سيان إلى الفناء وأرسلت للرئيسة تقريراً موجزاً عن الوضع هنا، ثم عادت إلى الداخل.
كان جوون والجد قد أنهيا ترتيب المائدة وجلسا في غرفة الجلوس. وما إن دخلت حتى نهض الجد بهدوء ليعد لها فنجان قهوة خصيصاً.
لم يكن قد حضّره سلفاً، بل انتظر حتى حضرت ليسكبه لها وهو طازجاً. فالقهـوة حين تكون للتو محضّرة، يكون طعمها أطيب. ومن تلك اللفتة الدقيقة، كان واضحاً أصالة طِباعه.
كان رجلاً طيباً. وإضافةً إلى ذلك، كان ذكياً وصبوراً، ويملك حسّاً فكاهياً، مما جعل الحديث معه سهلاً ومريحاً، وكان هذا أمراً مطمئناً.
“شكراً جزيلاً.”
تلقت سيان الكوب الكبير بيدها.
نظرًا لأن جدّها يبلغ من العمر 86 عاماً، بدا أنه لا يظهر التعب، لكنه لا بد أنه متعبٌ جسدياً.
و لو كان هناك وقت، لكان من الأفضل أن يدعوه للراحة اليوم، لكن الساعة الآن التاسعة مساءً من يوم 12 أكتوبر، وحفل ليلة رجال الاقتصاد الآسيويين المقرر يوم السبت 13 أكتوبر سيقام غداً، فلم يتبق سوى حوالي عشرين ساعة فقط.
كان يجب الاستماع بسرعة لما يريد الجد قوله، ثم العودة إلى سيول للتحضير للعمليات.
وقد أبلغها جوون قبل قليل بأن هذا البيت خالٍ من أي أجهزة تنصت أو تصوير خفي، إذا قالت الكوابيس ذلك، فكان يمكن الاطمئنان تماماً.
فتحدثت سيان بنبرة أكثر لطفاً من المعتاد،
“السيدة التي قابلتها بعد الظهر في جامسيل..…”
“السيدة تشوي ليندا من مجلس السلام الأزرق.”
“اسمها الحقيقي تشوي دال سو.”
“آه.”
“قد يبدو لقاء اليوم صدفة، لكنه في الحقيقة كان مخططاً بعناية من تشوي دال سو لتسهيل لقاء حفيدكَ معكَ.”
“هل هي التي جعلت جوون يلتقي بي؟”
نظر الجد بدهشة، ثم أدرك بسرعة ما حصل وغير مجرى الحديث على الفور.
“آه…..هل أظهرتني لكَ يا جوون؟ بما أن علاقة جوون بتشوي دال سو لم تكن جيدة.”
لا شك أن كونه أستاذاً جعل عقله يدور بسرعة فائقة.
“إذاً قضية تعيين مدير المتحف أيضاً كانت محاولةً لاستخدامي، أليس كذلك؟”
“نعم. لقد استغلتكَ بذكاء، يا أستاذ. الآن سنطرح على الأستاذ تاي سوجون بعض الأسئلة.”
“من الأفضل أن تناديني ببساطة: جد جوون، أو مجرد الجد. كلمة أستاذ جيدة، لكن استخدام الاسم الكامل يخلق مسافةً معينة.”
“حسناً، أستاذ.”
غيّرت سيان لقبه طواعيةً.
“إذا استمعتَ أولاً إلى قصتنا، فإن المعلومات قد تختلط، لذا نود سماع قصة ولادة تاي جوون من دون أي معلومات مسبقة عن الموضوع، هل هذا ممكن؟”
“لماذا لا نتحدث عن تشوي دال سو الآن…..آه، هل تعنين أن تشوي دال سو مرتبطةٌ بولادة جوون؟”
“نعم.”
على إثر تأكيد سيان، تشددت ملامح الجد فجأة، ثم أومأ برأسه قليلاً كما لو بدأ يخمن شيئاً.
“هممم….ولادة جوون….نعم…..لكن القصة طويلة ومعقدة جداً، ولا أعلم من أين أبدأ.”
“احكِ كل شيء. لا تستثنِ شيئاً.”
مال جوون إلى الأمام مؤكدًا كلامه.
“ابدأ من البداية.”
“من البداية..…”
تمتم الجد بهدوء، ثم بدأ بالكلام ببطء.
“لقد طلّقتُ زوجتي.”
“….…”
“كنتُ في التاسعة والأربعين من عمري، وكان لدينا ابنةٌ جميلة تبلغ من العمر اثنتي عشرة سنة. عند الطلاق، ذهبت الابنة مع والدتها. وبعد تسع سنوات، ذات ليلةٍ فجأة جاءت الابنة لتزورني. وكانت شبه مكتملة الحمل، بجسم ثقيل تقريباً.”
“….…”
“كانت ابنتي شاحبةً كالغزالة المطاردة. شعرها أشعث، وجسدها متسّخ، وكانت تتلفت حولها بلا توقف. فسألتها ما الذي يحدث، فانهارت بالبكاء بلا وعي، وقالت كلماتها..…”
“ماذا قالت؟”
أخرج الجد تنهيدةً عميقة و أكمل، وهو يحدق إلى الأرض، و عاد بعقله إلى تلك اللحظة في الماضي، وكانت عيناه تغرق في نفس الألم الذي شعر به حينها.
ثم تمتم بهدوء،
“أبي….أنقذني…..هؤلاء الشياطين يحاولون قتلي وقتل طفلي.”
_________________________
ياناس يارب يطولون مومنتات مع الجد يجننننن🤏🏻
بس الحين توني استوعب دام بنته جايه طاقه وذيك الروح يوم شافوها وقالت سيان انه يشبه جوون….لايكون الروح ذاه ابو جوون😦 عشان كذا دال سو تبيه بعد
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات