الغيوم السوداء والعاصفة الثلجية التي غطّت السماء بالظلام انقشعت تمامًا، فكشفت عن سماءٍ خريفية في سبتمبر صافيةٌ وزرقاء على نحوٍ استثنائي، كأن شيئًا لم يحدث.
ارتجاف الأرض أيضًا توقّف، لكن بدله دوّى صدى غامض أخذ يهزّ الأجواء.
غوووووو…
كان أشبه بصوت السماء وهي تموج، أو كأنها أنفاسٌ خافتة لمخلوق عظيم من حقبةٍ سحيقة لم يرَ البشر مثله من قبل.
المدينة بدت في حالة سكونٍ غريبة.
السيارات المكسوّة بالثلج الأبيض كانت كلها متوقفةً في الطرقات. بينما خرج الناس من مركباتهم، يتلفّتون بقلق ودهشة، يتأملون هذه الظاهرة الجوية الغامرة.
حتى أولئك الذين احتموا في ملعب المدرسة القريب كانوا يخرجون الآن ببطء، جماعاتٍ من سبعة أو ثمانية أفراد.
و ما زالت وجوه معظمهم شاحبةً من الذهول، لكنهم وكأنهم نسوا للحظة أمر جانغ أون وو، فراحوا يرفعون هواتفهم لالتقاط هذه الظاهرة التي يستحيل تفسيرها علميًا.
الشيء الوحيد الذي ظلّ يتحرك بشكلٍ مألوف كانت حافلةً صفراء تابعة لمعهد الفنون، تشقّ طريقها فوق الثلج تاركةً خلفها آثار العجلات، مبتعدةً بسرعة عن موقع الحدث.
أون وو، وقد التحف ببطانية، و جلس متخفّيًا بين الحوامل وإطارات اللوحات في الحافلة، وعيناه لا تنفكان عن مطاردة ألسنة اللهب العاتية التي كانت تشتعل بين المباني، تظهر وتختفي من بين الفجوات.
في البعيد، كان مبنى النادي سرّي يحترق بشدّة، شاهدًا صارخًا على هذه الكارثة.
كان اللهب يرتفع في دوامةٍ ضخمة، يلتفّ متصاعدًا نحو السماء كأنه تنّينٌ من نار، متألّقًا، عنيفًا، جميلًا حدّ السحر.
داخل تلك النيران كان يرقد ختام حياة جانغ أون وو. ففي مثل هذا الحريق الهائل، لن يعثر أحدٌ على جثته أبدًا.
“الآن انتهى كل شيء.”
كما قالت لي سيان…..النهاية.
وأمام دوامة اللهب التي وصلت الأرض بالسماء، وضع أون وو النقطة الأخيرة لرحلة انتقامٍ استغرقت ست سنوات.
***
ما إن وصلوا إلى مقرّ أوتيس حتى بادر جانغ أون وو بلهجة باردة يأمر بحلّ مشكلة الفيديو أولًا.
كان من الواضح أن إصاباته بحاجةٍ إلى علاج سريع، لكن بما أنه رجلٌ لا يستمع للنصح، شرعت سيان في تنفيذ المطلوب فورًا.
من بين الستة الذين قتلهم جانغ أون وو، كان “E” قبل سبع سنوات قد أرسل—في دردشةٍ مع معارفه وهو يحكي قصص الماضي—فيديو لموك يي جين قائلًا: “سأريكم شيئًا ممتعًا.”
أربعةٌ منهم أغلقوا الفيديو وهم يسبّونه، بينما حمّله اثنان آخران على حواسيبهم الشخصية وحفظوه في مخزنهم السحابي.
وبين مجموعةٍ من المقاطع المشابهة التي تعود لأناس عاديين، ظلّ فيديو موك يي جين موجودًا هناك.
أمام عيني جانغ أون وو، قامت سيان أولًا بمسح النسخة الأصلية للفيديو، ثم عرضت عليه كيف تُحذف الملفات المنسوخة تباعًا. و بعد ذلك فجّرت الخادم السحابي بأكمله.
“لم يُرصد أي أثر لنسخٍ إضافية حتى الآن، لكنني أعدكَ بمتابعةٍ دقيقة وحازمة بلا انقطاع.”
قالت سيان ذلك بلهجة مقتضبة حازمة.
“بخصوص الفيديو يمكنكَ الاطمئنان تمامًا الآن.”
لو أن الراحلة موك يي جين سمعت هذه الكلمات لكان أفضل بكثير…..
ثم شرحت له بإيجاز المستجدات حول الوضع الحالي.
فبفضل إذنٍ خاص من الرئيسة بكشف محادثات القتلى الستة، تشكّلت لدى الرأي العام صورةٌ أوضح عن سلسلة الجرائم البشعة التي ارتكبها الفخّار جانغ أون وو، وانقسمت الآراء بنسبة ستين مقابل أربعين.
المحادثة التي كُشف عنها تعود لثلاثة عشر عامًا مضت، حين اغتصب الستة موك يي جين وصوّروا الجريمة بالفيديو، ثم ابتزّوها قبل زواجها طالبين خمسين مليون وون لقاء السكوت.
ولهذا السبب حدث ما حدث…..
ستون بالمئة من الناس قالوا: “لقد تخلّص من نفايات المجتمع. أحسن صنيعًا حين هشّمهم حتى الموت. لو لم يقتلهم، لكان هؤلاء الستة صنعوا ضحيةً أخرى وما زالوا اليوم ينعمون بالحياة والراحة.”
لكن الأربعين بالمئة الآخرين اعترضوا: “مع ذلك، القتل يبقى قتلًا، والقانون قانون. إن سمحنا لكل إنسان أن ينتقم بنفسه، فسينهار النظام ويغرق المجتمع في فوضى. الانتقام لا يجوز القبول به أبدًا. فبمجرد أن ينتقم المرء، يزول حق الضحية، ويغدو مساويًا للجاني.”
وهكذا اشتعل الجدل واحتدم النقاش.
ثم…..
كانوا قد أعدّوا مسبقًا “أعضاء جسدية مزيّفة” مستندين إلى سجلات أسنان جانغ أون وو، لكن حريق النادي السري كان عاصفًا لدرجة جعلت حتى فحص الحمض النووي أمرًا مستحيلًا، فلم يعودوا بحاجة إليها.
وربما كان هذا أفضل.
أما والدا جانغ أون وو، فقد أُخبرا سرًا وباختصار أن “ابنكما ما يزال حيًا.”
طوال سماعه لكل هذه التفاصيل، لم يتغيّر تعبير وجه جانغ أون وو مطلقًا. بدا بلا أي اضطراب عاطفي، ولا يُتوقَّع منه تصرّفٌ طائش.
تفقّدت سيان الوقت، ثم أنهت اللقاء لليوم، وعرّفت أون وو بالشخص الذي سيتكفّل به من الآن فصاعدًا.
“من هذه اللحظة، سيتولّى هذا الشخص كل ما تحتاجه.”
انحنى المسؤول عن الرعاية النفسية بابتسامة مهذّبة.
ثم تابعت سيان بنبرة هادئة،
“الطابق الأوسط في مبنى أوتيس مخصّصٌ لإقامة الموظفين، وهو على هيئة فندق. لقد حجزنا غرفةً لكَ، لكن يمكنكَ اختيار أخرى إن شئتَ. لن تشعر بأي ضيق في المعيشة.”
فردّ أون وو ببرود،
“هذا يعني أنني أستطيع التنقّل كما أشاء؟ لن تحتجزوني إذاً.”
وقبل أن تجيبه سيان، قاطعه جوون ساخرًا،
“يبدو أنكَ من هواة مواقع التواصل، بما أنكَ تتمنى أن تُحبس.”
في لحظةٍ خاطفة، تبادلت عينا الرجلين نظرةً حادّة كمعركة صامتة.
كان جوون لا يفوّت فرصةً ليستفزّ جانغ أون وو، بينما الأخير يظلّ على حذر شديد منه، فكأن العلاقة بينهما غير منسجمة.
ومع ذلك، كان هناك إحساسٌ مبهم بأنها ليست علاقةً سيئة تمامًا.
كانت تحيةً صادقة، خرجت من قلبٍ يتمنى حقًا أن يهنأ هذا الذئب الجريح الوحيد بالسلام أخيرًا.
فحدّق جانغ أون وو في عينيها اللامعتين بلون التوباز بضع ثوانٍ، ثم مدّ يده ببطء ليصافحها.
لكن قبل أن تكتمل المصافحة، اندفع جوون فجأة، وأمسك يد أون وو بقوة ثم أفلتها، وكأنه يقول: “كيف تجرؤ على لمس يد زوجتي؟”
فرمقته سيان بنظرةِ جانبية، لكنها لم تنبس بكلمة.
على أية حال، كان يكفي أن يصافحه أحدهم.
“من الأفضل أن تتلقى العلاج أولًا، ثم ترتاح لبضعة أيام. هناك الكثير من الأمور التي نود سؤالكَ عنها بخصوص الأفعى، ثم إن رئيسة أوتيس تنتظر لقاءكَ بفارغ الصبر.”
ابتسمت سيان بخفة وهي تحيّيه.
“حسنًا.”
***
بعد أن عولجت جراحه وجُبّرت يداه وساقاه، اقتيد إلى الغرفة.
كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة ليلًا؛ فقد استغرقت المعالجة وقتًا طويلًا. و حتى مع المواظبة على إعادة التأهيل، أخبروه أن احتمالية أن يظل يعرج بساقه اليمنى مرتفعة.
لم يبالِ. و رفض الكرسي المتحرك، كما رفض العكازات.
وبعد أن غادر الموظف المكلّف بإيصاله إلى الباب مودّعًا، ظلّ أون وو واقفًا في مكانه بلا حركة.
أطفأ الأنوار أولًا، ثم بقي واقفًا عند الباب في صمت قرابة عشر دقائق.
أنصت لما يدور في الخارج، فلم يبدُ أن هناك مراقبة…..ولم يكن ثمة كاميراتٍ خفية أيضًا.
عندها فقط بدأ يتفحّص المكان الذي سيعيش فيه من الآن.
وجد الأجهزة المنزلية جميعها، والملابس الداخلية والثياب بحسب الفصول، والجوارب والأحذية والحقائب، وأدوات النظافة والمناشف—كل شيءٍ أُعدّ بعناية.
وكانت الغرفة تطل من شرفةٍ زجاجية واسعة على جبل شاهق. و خالجه شعورٌ أن سيان هي من اختارت له هذه الغرفة بالذات.
في الخارج كان قمر منتصف سبتمبر يسطع بضياءٍ كامل، وعلى الشرفة الفسيحة وُضع كرسيٌ هزّاز وحيد.
خرج أون وو إلى الشرفة، وأسقط جسده المنهك على الكرسي كأنما انهار. وأخيرًا وجد موضعًا ليستريح فيه جسده المرهق.
“هـووف..…”
زفر نفسًا طويلًا، فاندفعت موجةٌ من الإعياء عبر كيانه.
نزع حذاءه ببطء، ومدّ ساقه المتصلبة المؤلمة بامتدادٍ متأنٍ. و كانت قدماه، اللتان لم ترتاحا لأيام، متورمتين من الإجهاد.
ثم رفع بصره نحو الجبل المظلم المقابل.
الجبل…..والنار. ذلك كانا ما أبقاه حيًا حتى الآن.
كان يشعر أن الجبل يسمع دائمًا صرخاته الصامتة، وصدى نداءاته المدوية في صدره. وكان يشعر أيضًا أن النار تحرق عنه، في كل مرة، غضبه المشتعل وحزنه الفادح.
وثمّة أيضًا…..غزالٌ لم يخبر به أحدًا قط.
حين قال أنه سيبني ورشة على الجبل ويعيش هناك مستخرجًا الطين بنفسه، مازحه أستاذه الفخاري،
“إذاً ينبغي أن تقدّم هديةً لروح الجبل. عادةً ما يحتفظ المرء بالأعمال الجيدة أو يبيعها بثمن غالٍ، لكن من الأفضل أن تترك واحدةً أو اثنتين لروح الجبل. نوعٌ من…..ضريبة الطين، إن شئتَ.”
لذلك، وضع أون وو أجمل فنجان شايٍ صنعه فوق صخرة كبيرة في المكان الذي كان يستخرج منه الطين.
لم يفعل ذلك عن قصدٍ ذي معنى، كان مجرد فنجان لا أكثر. إن أكلته الريح والمطر فليكن، وإن تحطّم فليكن كذلك.
تركه هناك، وفي أحد الأيام ظهر غزالٌ أمهق ناصع البياض من بين الأدغال.
كان غزالًا بالغ الجمال. غزالٌ أبيض مهيب، إلى حدٍ جعل أنفاسه تنحبس للحظة، إذ تقدّم بخطواتٍ لا صوت لها على التراب حتى وقف أمام الصخرة يتأمل الفنجان.
ظنّ أون وو أنه عطشان، ففكّر أن يعطيه ماءً.
ومع أنه حيوان سيشرب منه، إلا أن أون وو غسل الفنجان أولًا. ثم ملأه بماء شاي دافئ، وسكبه على الأرض ثلاث مرات ليطهّره، ثم أعاد ملأه بشايٍ أخضر طازج.
بينما تابعه الغزال بعينيه الرماديتين المائلة إلى الزرقة، يراقب كل حركة دون أن يرمش.
وحين وضع أون وو الفنجان، وقد ملأه إلى ثلثيه، فوق الصخرة العريضة، مدّ الغزال أنفه إليه، كأنه يتشمم عبير الشاي، ثم لحسه حتى أفرغه.
جلس أون وو في المقابل فوق التراب، وارتشف حصته من الشاي.
لم يقترب منه، و لم يحاول لمسه، و لم يكلّمه. بل كان يلقي إليه نظرةً عابرة، ثم يصرف وجهه إلى منظر الطبيعة من حوله.
ومنذ ذلك اليوم صار الغزال الأبيض يظهر من حينٍ إلى آخر، دائمًا في اللحظات التي يولد فيها عملٌ فني عظيم.
ولذلك لم يكن أون وو يبيع تلك الفناجين المميّزة، بل يأخذها إلى مكان الطين ويقدّم منها الشاي لذلك الغزال.
كانا يحتسيان الشاي في صمت، فإذا التفت أون وو فجأة وجد الغزال قد اختفى، وأحيانًا وجده باقٍ يحدّق فيه بهدوء.
تلك اللحظات القصيرة كانت واحات سلامٍ وسط ست سنواتٍ عذّبته كأنها حريقٌ يأكله حيًا.
شووو—
هبّت ريحٌ جبلية من بعيد، فالتفّت حوله برفقٍ ومضت، تمنحه راحةً مطمئنة، كأنه عاد إلى تلك اللحظات مع الغزال.
ألقى أون وو رأسه على ظهر الكرسي الهزّاز بخفة.
مريح…..
كرسي أوتيس كان مريحًا على نحوٍ غير متوقع، حتى أنه شعر أنه قادرٌ على الجلوس طويلًا.
أطبق جفنيه، وقد اجتاحته غفوةٌ ثقيلة.
كانت نومةً بلا ألم، بلا غضب، بلا حذر، تغمره بعد ست سنواتٍ من الحرمان.
“أون وو، ما رأيكَ أن نجعل هذه الصحون أوانيَ طعامنا الزوجية؟ إنها تناسب لون ستائر بيتنا الجديد، أليست جميلة؟”
قبل أن يستسلم تمامًا للنوم، انبثق في ذهنه مشهدٌ قديم بوضوحٍ حيّ.
كان أون وو جالسًا على أرضية غرفة المعيشة يفرغ صناديق الشحن، فالتفت إلى يي جين التي جلست أمامه مرتديةً فستانها الأصفر الفاتح الذي تحبّه.
وبمجرد أن وقعت عيناه على مجموعة الأطباق الظاهرة على شاشة الهاتف، وافق مباشرة.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات