حين سكب أون وو الماء في حوض المستودع الطيني، امتزج بالدماء، مكوّنًا فقاعات صغيرة أخذت تغلي ثم تدور كدوامة قبل أن تُبتلع داخل مصرف المياه.
كان يرتدي قفازات رمادية، ويمسح الحوض بعناية شديدة مستخدمًا محلولًا مطهرًا من الكلور.
رغم حرصه الدائم، إلا أن بقعًا من الدم قد تلطخت على بلاط الجدران البيضاء. فجثا على ركبتيه وانحنى للأمام، ليزيل حتى الخيط الرفيع من الدم العالق بين فواصل البلاط، دون أن يترك أثرًا واحدًا خلفه.
وقد ساعده الضوء الساطع القوي، الذي يكاد يؤذي العينين، على التقاط كل قطرة دقيقة من الدم.
وحين أنهى التنظيف بإتقان تام، فتح باب المستودع على مصراعيه للتهوية، ثم اتجه نحو الفرن الملاصق للمشغل.
كان الفرن، الذي تبلغ مساحته أربعة أمتار مربعة، قد بُني في باحة الورشة بعد أن حُفر عمق نصف متر في الأرض،
وأقيمت أربعة أعمدة خشبية فوقه مع سقف بسيط. أما الحطب، فقد رُصّ على الجوانب الثلاثة كجدار، مما أضفى ظلالًا خافتة داخله.
وقف أون وو أمام الفرن المشتعل، حيث كانت النيران البيضاء تتصاعد بحرارة تصل إلى ألفٍ ومئتين وخمسين درجة مئوية.
تلك النار البيضاء التهمت اللهب الأحمر، لتزداد توهجًا وضراوة.
النار. منذ وقت ما، صار قادرًا على استشعار حرارتها. يعرف إن كانت النار ترقص بمرح، أو تفقد قوتها وتخور، أو أنها في لحظة جنونها القصوى.
أخذ أون وو يتأمل النيران بلا أي انفعال ظاهر، ثم خرج من الفرن وألقى بنظره بعيدًا نحو الجبال.
لقد كان آخر الصيف، وبداية الخريف حيث تستعد الأشجار لتجفيف أوراقها. و قريبًا، ستتطاير أوراق يابسة كنسيج الكتّان في أرجاء الجبال.
ضاقت عيناه قليلًا، إذ أحس بقشعريرة في عنقه. فمنذ مدة، تكررت لديه الهواجس بأنه مراقَب.
من المستبعد أن يترصده أحد في أعماق الجبال هذه، فلا أحد يملك سببًا للاختباء هنا…..ومع ذلك.
مسح المكان بنظرة حادة، ثم تأكد من عمل المولد الشمسي قبل أن يدير ظهره سريعًا ويدخل الورشة من جديد.
***
• “أختيييي!”
• “أختيي، أختي مين سارا!”
كان أطفال الخلاص يصرخون بحماس. فابتسمت سيان برفق، وحدّقت في كل طفل منهم على شاشة الهاتف واحدًا واحدًا.
كان الأطفال الستة يثرثرون جميعًا دفعةً واحدة، حتى بدا الضجيج كافيًا لإخراج الروح من الجسد.
وما لبثت الشاشة أن أخذت تهتز بعشوائية، حتى لم يعد يُرى الأطفال بل المشهد المحيط بهم.
الكبار كانوا يضحكون من شدة لطافة الصغار. ومن بين أولئك الكبار و الأرواح ظهرت والدة تلك الطفلة، التي وعدتها سيان سابقًا بأنها ستنقذها من أراضي الخلاص،
وبما أن طفلتها كانت برفقتها، فقد كانت أول من تخلّى عن زيّ السنابل الأخضر بين الكبار.
• “ركبنا الحصان الدوّار يا أختي! وأكلنا غيووومًا حلوة!”
كان الأطفال في قمة الحماس بعد عودتهم من مدينة الملاهي.
فقد قامت الرئيسة باستئجار مدينة ملاهٍ صغيرة مغلقة يوم عطلتها، لدع عشرة من أطفال جوقة الترانيم يمرحون لبعض الوقت.
وبما أنها كانت المرة الأولى لهم مع الألعاب الترفيهية، فقد عادوا بوجوهٍ يملؤها الانبهار والفرح كأنهم زاروا التعيم حقًا.
وكانت ماري تحديدًا ـ التي كانت تعاني من مرض رئوي ـ قد أشرق وجههغ بالمرح بعد نجاح عمليتها الجراحية، حتى صارت مشاكسةً خفيفة الروح.
أما سيان، فكلما كانت ترى أطفالًا في خطر، كان يتداخل أمام ناظريها وجه شقيقتها رِيان التي قُتلت بفظاعة، فتغمرها مشاعر القلق والحزن.
لكن هذه المرة، فوق صور الأطفال السعداء، انطبعت في ذهنها صورة رِيان وهي تلوّح لها بابتسامة مشرقة: “إلى اللقاء، أختي سيان.”
فارتسمت ابتسامةٌ هادئة على وجهها، وبعد أن أنهت مكالمة الفيديو التي استمرت عشر دقائق، نزلت من سطح المبنى إلى الطابق الرابع.
كانت خطواتها تكاد لا تُسمع، ومع ذلك أشار جوون، من غير أن يلتفت عن شاشة الحاسوب التي يراقبها، بحركة خفيفة من يده كأنه يقول: “تعالي إلى هنا.”
“أكاد أظن أن لديكَ عينًا في ظهركَ.”
ثم اقتربت منه وجلسَت مائلة على حافة مسند الكرسي.
“وماذا عن جانغ أون وو؟”
“دخل الفرن قبل عشرين دقيقة.”
ثمزأدار جوون الحاسوب نحوها لتتمكن من رؤية ورشة أون بوضوح.
كان المكان يبدو في غاية السكينة. فخلال الأيام الأخيرة، قضى جانغ أون وو وقته وسط هذا المشهد الهادئ في حياة منتظمة:
يستيقظ عند الثالثة فجرًا ليهوّي الورشة وينظفها، ثم يعمل فيها طوال اليوم، وعند السابعة مساءً يخرج لممارسة الرياضة ثلاث ساعات تقريبًا قبل أن يعود مجددًا.
لكن أسلوبه في الرياضة كان غريبًا جدًا…..كان يرتدي قميصًا أسود ضيقًا وبنطالًا عسكريًا، ثم ينطلق راكضًا بخفة في الغابة. لم يكن جريًا عاديًا، بل أشبه باندفاع شرس.
وكان، وهو يميل بجسده قليلًا للأمام، يقفز بخفة فوق جدول عرضه متران كأنه يحلق في الهواء. ولتلك اللحظة بالذات كان يبدو كذئب أسود ضخم.
ربما بسبب تلك الحركات الخطرة تحديدًا، أصبح جوون يُظهر اهتمامًا به، وهو الذي لم يبدِ يومًا أي فضول تجاه أي هدف آخر.
بل إنه كان يراقبه مباشرة عبر الفيديو الحي.
“ها هو خرج أخيرًا.”
أشار جوون بعينيه نحو الشاشة.
كان جانغ أون وو ينتقل من الفرن عائدًا إلى الورشك. بدا كأنه يحمل عملًا أنجزه للتو، والشيء الذي بيده هو…..
“لوحٌ خزفي أزرق؟”
ذلك اللوح الخزفي الأزرق تحديدًا هو العمل الذي ظل جانغ أون وو يصنعه كهواية منذ أربع سنوات دون أن يعرضه للبيع لأحد.
ومن أصل ستة ألواح خزفية مخصصة لتزيين الجدار، كان قد أتمّ أربعة، وها هو الآن يضيف الخامس.
***
علّق أون وو اللوح الخزفي الأزرق الخامس أسفل الأربعة السابقة.
كان عملًا مريبًا، يوحي بجنونٍ يصرخ ويعصف بثلوج منتصف الليل. وتناثرت فيه لمسات من النحاس المؤكسد، حمراء لامعة كقطرات دم صافية.
حرّك أون وو بصره من اللوح الأول نزولًا حتى الخامس.
واحد… اثنان… ثلاثة… أربعة… خمسة…
و بدأ يستعيد ملامح وجوه الذين قتلهم واحدًا تلو الآخر، حتى توقف عند الحامل الأخير.
بقيت قطعة واحدة فقط لإنهاء المجموعة. وعندها، تكتمل الألواح الخزفية الزرقاء الستة.
حدّق في الحامل الفارغ، وفي ذهنه ارتسمت عينا امرأة…..عينان عسليتان شاحبتان بلون التوباز النادر.
“لا أريد…..أريد أن أنتهي من هذا.”
صورة خطيبته المرتجفة ما زالت حيّة أمام عينيه، وهي تحدق فيه تحت المطر، تتراجع ببطء نحو حافة الجرف.
وعينا لي سيان تلك، كانتا النسخة ذاتها من عيني خطيبته المتوفاة، وهما ترفعان النظر إليه وهي ملقاةٌ فوق الطين الأسود المضمّخ بالدم.
و لم يلتقِ أون وو يومًا بمن يملك تلك العيون الفاتحة سوى خطيبته التي ماتت في الجبال قبل ست سنوات.
“لي سيان..…”
تمتم بصوت منخفض، ثم شغّل الحاسوب المحمول الثقيل المخصص للتخييم. فلم يكن يستخدم الهاتف مطلقًا، فكل أعماله يتولاها عبر البريد الإلكتروني.
فتح صندوق الوارد، فرأى بين رسائل الاستفسار وطلبات المقابلة رسالتين من والدته. لكنه لم يفتحها، إذ كان واثقًا أن مضمونها لا يتعدى: “أطلب الرجاء من أجلك يا بني.”
ثم كتب رسالةً قصيرة ومباشرة إلى لي سيان.
أخبرها أنه أنهى الحرق الأولي لطقم أوانٍ، ويسألها إن كانت تود التحقق بنفسها من حجمها ووزنها.
لم يكن عملًا مكتملًا، ولا يستحق أن يشق أحدٌ طريقه إلى أعماق الجبال لمشاهدته…..لكن مع لي سيان، كان لديه شعورٌ غريب بأنها قد تأتي.
هل ستأتي هذه المرة بمفردها؟
لا، الأرجح أن زوجها سيرافقها ثانية. ذلك الرجل المهيب لن يرسل زوجته إلى مكان ناءٍ كهذا وحدها.
وإن عاد زوجها إلى هذه الورشة…..
أدار أون وو نظره ببطء في أرجاء المكان.
كما فعل زوج لي سيان تمامًا: نظر إلى عجلة الفخار، وتفحّص الخزفيات في الخزائن بلا اهتمام، ثم توقف قرابة عشر ثوانٍ أمام الألواح الزرقاء المعلّقة على الجدار…..ثم ثبت بصره على مستودع الطين.
لم يكن في الورشة ما يثير الريبة على الإطلاق. لكن زوج لي سيان، وكأنه قد أدرك شيئًا، ظل يحدق بثبات في باب مستودع الطين المغلق.
هذه المرة أيضًا، سيجول زوجها بعينيه الحادتين متفحّصًا هذه الورشة.
‘هل أدعو لي سيان أم لا…..’
ضيّق أون وو عينيه متردّدًا، ثم أرسل إلى لي سيان بريدًا إلكترونيًا مضمونُه “تعالي”.
***
ززز… ززز.
ما إن اهتزّ الهاتف حتى أخرجت سيان جهازها من جيب بنطالهغ، ومسحت الشاشة بإبهامها.
“وصلني بريدٌ من جانغ أون وو.”
“وماذا يقول؟”
“يقول أن الأواني التي طلبناها قد أُحرقت حرقًا أوليًا. وقبل أن يحرقها مرةً ثانية ويُكمل العمل، يدعونا إن شئنا لنتفقد الحجم والوزن. صحيحٌ أن الوقت الآن الخامسة والعشرون بعد الخامسة مساءً، وهو وقت محرج قليلًا…..لكن أظن أن عليّ الذهاب اليوم.”
“المرة السابقة ذهبنا بسيارتي، فلنذهب اليوم أيضًا بسيارتي.”
وافق جوون وهو يلتقط مفاتيح السيارة الموضوعة بجانب الحاسوب المحمول.
هذا أفضل فعلًا. فجانغ أون وو صاحب حدس قوي وبصيرة نافذة. ليس لأنه فنان، بل لأن لديه ما يشبه الغريزة الحيوانية، شيء شديد الحساسية.
حتى أوتيس، وهو يراقب مشغل أون وو من مسافة عدة كيلومترات بمنظار بعيد المدى، كان يلحظ أحيانًا أن أون وو يتلفّت حوله وكأنه يشعر بأن أحدًا يراقبه.
وحين همّت سيان بالنهوض من مسند الكرسي، بادر جوون إلى رفعها بين ذراعيه، وجلس بها على فخذيه العريضين.
ثم سألها بنبرة يفيض منها الترقب الواضح،
“هل سترتدين التنورة اليوم أيضًا؟”
فابتسمت سيان بخفة، ثم ردّت بإغراء،
“نعم، سأرتديها.”
ثم ابتسم جوون برضا، وقبّل عنقها.
كان التصرّف على خلاف الطبع يثير الشكوك، لذا فهي تتصرّف كما هي في طبيعتها، فيما يبدوان للناس كزوجين متخفيين.
لكن، لا تعلم حقًا هل يراهما ذلك الخزّاف شديد الحساسية زوجين بالفعل أم لا.
مرّرت سيان أصابعها فوق عنقها مرة، ثم أفلتت من بين ذراعيه.
“سأرسل ردًا إلى جانغ أون وو أني سأصل بحلول السابعة مساءً.”
________________________
طيب عشان سيان تذكره بخطييته لايكون يبي ذمها هي بعد🥰
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 134"