سلسلة الجبال بدت مغموسةً في زرقة داكنة بشكل غير عادي، وأوراق سبتمبر تبرق بأخضر زمردي ممزوجٍ بالزرقة، ناشرةً عطرًا رطبًا.
في مثل هذا اليوم لم يكن لون الجبل ثابتًا على زرقة واحدة، بل بدا كلوحة متحركة؛ ألوانه تتغير قليلًا مع المطر والريح.
جانغ أون وو أنزل حِمل التراب الذي كان يحمله على ظهره عند مدخل المشغل، ثم احتضن كيسًا آخر من الطين الذي جلبه ودخل به إلى الداخل.
رَش… رَش…
قطرات المطر كانت تنزل مرسومةً كخيوط بيضاء رفيعة.
ومن خلال رذاذ المطر الرقيق الشبيه بالضباب، دخلت سيارةٌ سوداء فاخرة وتوقفت تمامًا بجانب شاحنة أون وو الصغيرة المكشوفة.
في داخل المشغل المعتم، كان أون وو يحدّق بوجه جامد نحو الخارج المضاء بضوء باهت، ثم حوّل نظره إلى ساعة الحائط.
الساعة 1:55 بعد الظهر. الضيف الذي وعد بالحضور اليوم وصل في الموعد تمامًا.
فورشة أون وو تقع في عمق الجبال، ومن يأتيها أول مرة يضيع في العادة ما لا يقل عن أربعين دقيقة.
لكن هذه المرة، جاء الزائر في الموعد المحدد بالضبط، بل قبل خمس دقائق.
طَق-
فُتح باب السيارة ونزل منه رجل من مقعد السائق.
كان رجلًا لافتًا للأنظار بشكل استثنائي. يرتدي بدلة سوداء فاخرة ببراعة متقنة، وقد صفّف شعره للخلف بالكامل ليضفي على حضوره جوًا طاغيًا مهيبًا.
فتح الرجل مظلةً كبيرة سوداء، ثم دار بها حول مقدمة السيارة ليغطي بها المرأة التي كانت تهمّ بالنزول من المقعد الجانبي.
بينما وضع أون وو كيس الطين الثقيل الذي كان يحمله عند باب المخزن الصغير الملاصق لغرفة نومه، ثم تقدّم بخطواتٍ ثابتة وأشعل المصباح.
في تلك الأثناء، دخل الضيفان إلى الورشة.
كانا ضيفين غريبين. لا، بل “ضيفين استثنائيين”.
يبدوان في أواخر العشرينات من العمر، طويلين القامة بأجسام متناسقة، وملامحهما من الجمال ما يخطف البصر. وكان الرجل خصوصًا طويلًا إلى حد أن قمة رأسه كادت تلامس إطار باب الورشة.
وفوق ذلك، كان واضحًا أنهما من الأثرياء الكبار. فالمرأة ترتدي طقمًا فاخرًا من الماركات العالمية، والرجل يرتدي بذلةً مصممة من علامات فاخرة.
ورغم أن كليهما اختارا اللون الأسود الذي يضفي شعورًا محايدًا، إلا أن الإحساس المنبعث منهما كان أشبه بالنار المتقدة…..أو بمياه عميقة وباردة.
طوى الرجل المظلة وأسنَدها بخفة عند مدخل الورشة. و ذلك التحرك القصير كان كافيًا ليأسر عيني أون وو.
لم يكن السبب ساعة اليد الزرقاء الباهظة التي كان يرتديها، بل لأن هالته نفسها كانت أشبه بـ “ظلام متحرّك”، فلم يستطع أن يصرف نظره عنه.
حينها، ابتسمت المرأة ابتسامةً رقيقة وفتحت شفتيها بالكلام.
“أنا لي سيان التي وعدتكَ بلقائكَ اليوم الساعة الثانية ظهرًا، هل أنتَ الفخّاري جانغ أون وو؟”
تلألأت عينا المرأة بلون التوباز تحت ضوء المصباح.
كان لون عينيها نادرًا ما يُرى، ومع تلاقي تلك الحدقتين المميّزتين بالنظرات، ارتجفت أنامله للحظة.
“نعم، صحيح.”
تهرّب أون وو من النظر إليها ولوّح بيده عشوائيًا نحو المشغل.
“سأغسل يدي وأخرج، تفقّدي المشغل قليلًا. ليس عندي سوى الشاي الأخضر، هل يناسبكِ؟”
“نعم، لا بأس.”
ما إن سمع أون وو ردّها حتى استدار مسرعًا نحو الحمام الملاصق لمخزن الطين وغسل يديه الملطّختين بالطين.
و ثبت نظره على الماء في المغسلة بينما أبقى سمعه موجّهًا نحو المشغل.
تك… تك…
كان يسمع وقع كعب حذاء واحد، لكن لم يكن يسمع أي صوت حوار. و بدت المرأة وكأنها تتفقد المشغل بصمت وحدها.
نفض أون وو الماء عن يديه ثم دخل إلى المطبخ الصغير ليُحضّر الشاي.
كان دائمًا يختار فنجان الشاي بحسب صورة الزائر، لكن بين الكمّ الهائل من الفناجين المرصوصة في الخزانة لم يجد ما يليق تمامًا بالضيفين.
بيببببب—
بينما كان محتارًا، غلى الماء في الإبريق. و استعاد في ذهنه صورة الضيوف الذين رآهم للتو.
كان الفنجان لا بد أن يكون مميّزًا، و قويًا، وفريدًا من نوعه.
تلك المرأة…..نعم، اسمها لي سيان. لها الفنجان الأزرق الغامق، داكنٌ لكنه صافٍ كالزجاج الشفّاف.
أما الرجل…..فقد اختار له فنجانًا أسود قاتمًا كظلمة منتصف الليل، ملبّدًا بإحساس مشؤوم.
حين خرج حاملًا صينية الشاي عائدًا إلى المشغل، وجد سيان واقفةً أمام جدار تتأمل معروضًا. كان العرض عبارة عن ألواح خزفية مربعة ومسطّحة رتّبت كألواح شوكولاتة.
شكلها كان كأرضٍ طينية في منتصف الليل، عبث بها مجنون بكلتي يديه تحت وابل من المطر والثلج، ولم يكن فيها سوى بضع لطخات حمراء وبيضاء متناثرة، بينما غلب عليها الأزرق الكئيب بالكامل.
كانت لا تزال عملاً غير مكتمل؛ إذ امتلأت أربعةٌ من بين ستة أرفف بألواح خزفية زرقاء، بينما بقي رفّان فارغان.
و كانت المرأة كانت تحدّق في تلك الألواح الزرقاء الغريبة والمريبة وكأنها تُسحب إليها.
أما الرجل المرافق لها فكان متكئًا على الحائط بذراعين متشابكتين، يتفحّص ظهر المرأة بعينٍ متمعنة. كان يلمسها بعينيه فقط، بحركة بؤبؤيه.
أهما حبيبان؟
لا…..بل أجواؤهما توحي بشيءٍ آخر…..ربما زوجان؟
فجأة، حوّل الرجل نظره نحو أون وو. وما إن التقت العيون على غفلة حتى ارتبك أون وو و وضع فناجين الشاي على الطاولة الصغيرة.
“تفضلا.”
فالتفتت سيان بخفة ثم اقتربت نحوه.
و من دون أن يُخبرها مسبقًا، جلست سيان في المكان المخصص لفنجانها الذي اختاره أون وو.
“أُعجبني هذا الفنجان. هل تبيع مثل هذه القطع أيضًا؟”
“خُذيه معكِ. فأنا في العادة أهدي الزائر الذي يأتيني لأول مرة فنجانًا.”
قال ذلك بملامح جامدة، فابتسمت هي ابتسامةً راقية.
“إنه هديةٌ جميلة، شكرًا لكَ.”
كانت امرأةً واضحة في كلامها، لا تُبهم العبارات ولا تُماطل، بل تقطع القول بحدّة.
عندما اتصلت لتحدد موعد اللقاء، ذكرت أنها تفكر في طلب مجموعة أوانٍ للطعام، ستة عشر طقمًا لتقديمها كهدايا.
وإن كان سيأخذ الطلب، فالأشكال لا بد أن تكون أنيقة، رشيقة، ورفيعة المستوى.
وفي هذه الأثناء، اقترب الرجل وجلس إلى جوارها.
لقد كانا زوجين حقًا، إذ كان كلاهما يضع خاتم زواج متطابقًا في الخنصر الأيسر.
الرجل لم يُعرّف بنفسه قط، لكن أون وو لم يأبه، فالزبونة الحقيقية كانت سيان.
ثم عادت سيان تُظهر اهتمامًا قويًا بالمعروض الخزفي الأزرق المعلّق على الجدار.
“إنه جميلٌ للغاية…..مربكٌ ومقلق، لكنه صافٍ بوضوح.”
على مدى أربع سنوات ظلّ ذاك العمل مُعلّقًا، وقد سمع عنه تعليقات كثيرة من زوّار متنوعين، لكن كلمة “صافٍ” أو “جليّ” لم تصدر من أحد قبلها.
بدت سيان مأخوذةً تمامًا بتلك الألواح الزرقاء حتى لم تستطع أن تصرف بصرها عنها.
“منذ متى بدأتَ هذا العمل؟”
“أول قطعة صنعتها قبل أربع سنوات. تلك التي في أقصى اليسار أعلى.”
“آه..…”
كان أون وو يحدّق فيها ببرود من عينَيه الثلاثيتَي الجفن، قبل أن يقطع الطريق عليها،
“هذا العمل غير معروض للبيع.”
كان صوته جافًا، يكاد يجرح، لكن سيان قابلته بابتسامة خفيفة.
“هذا مؤسف. إنه أكثر ما أعجبني هنا. هل يمكن أن أطلب شيئًا شبيهًا به؟”
“كلا. ذاك مجرد تنفيس عن حالتي الشعورية لا أكثر.”
“أربع سنوات كاملة؟”
“أُضيف اللوحات ببطء، واحدةً بعد الأخرى.”
“همم…..لكن اللوحة الرابعة تبدو حديثة. ربما…..قبل شهر تقريبًا؟”
كانت امرأةً ثاقبة النظرة. فاللوحة الرابعة عُلّقت بالفعل قبل شهر تمامًا.
ثم سألت باهتمام متزايد،
“هل هناك سببٌ لاختياركَ أن تكون الألواح ست قطع بالضبط؟”
ثبت أون وو بصره في عينيها المتلألئتين بلون التوباز ثلاث ثوانٍ، ثم أحسّ بحدة نظرة الزوج فصرف عينيه.
“لا، ليس هناك سبب.”
ردّه كان مختصراً، لكن سيان أومأت كأنها تقبل الجواب، ثم مضت مباشرةً إلى الحديث عن الطلب.
“أودّ أن أطلب من أعمالكَ المميّزة باللون الأزرق: ستة عشر طقمًا من أواني الطعام.”
كان طلبًا مخيّبًا. فقد كان يتوقع من هذه المرأة أن ترغب في شيء أعمق وأشد خصوصية…،،لكن ما طلبته الآن لم يكن إلا شبيهًا باختيار حقيبة من أكثر التصاميم شيوعاً في متجر للحقائب الفاخرة.
فسأل أون وو ببرود،
“ألستِ راضيةً عن لون الفنجان الذي تحملينه الآن؟”
“بل يعجبني. لكن هذا اللون سأستعمله لنفسي فقط.”
فأطلق أون وو عندها صوتًا قصيرًا،
“آه”.
كان جوابًا مبهجًا.
صحيح…..ما دام الأمر هدايا لعدد كبير، فاللون المميّز الأفضل أن يكون هو اللون الرئيسي.
ثم نهض أون وو فورًا، وأتى بقلم رصاص عالق به طين يابس مع ورق، ووضعهما على الطاولة. وأخذ يسجّل بدقة الملاحظات التي تبديها سيان، نقطةً تلو الأخرى.
وفيما كان أون وو يتحدث مع الزوجة، كان الزوج يتجوّل بصمت في أرجاء المشغل.
رمق بعينيه السوداوين القويّتين عجلة الفخّار، ثم حرّك بصره جانبًا يتفحّص أطباق الخزانة بلا مبالاة، قبل أن يثبت نظره طويلًا على الألواح الخزفية الزرقاء المعلّقة على الجدار، وأخيرًا توقف بصره عند مخزن الطين.
عشر ثوانٍ.
خمس عشرة ثانية.
زوج سيان لم يرفع عينيه عن مخزن الطين. فتظاهر أون وو بأنه لا يولي اهتمامًا، لكنه في النهاية اضطر أن يفتح حديثًا.
“هل تودّ بعض الشاي الإضافي؟”
“لا. يكفيني.”
كانت تلك أول مرة ينطق فيها الرجل. و كان صوته…..تمامًا كما تخيّل أون وو: عميقًا وجذابًا، وفي الوقت نفسه مشوبًا بقوة تبعث على القشعريرة.
ثم خدش أون وو قليلًا بطرف ظفره الطين اليابس العالق على القلم، و أنهى اللقاء،
“سأصنع أولًا طقمًا واحدًا من أواني الطعام لتجربة الهدية. وبعد أن تروا النتيجة، نتابع التنفيذ. وعندما يكتمل يمكنني إرساله بالشحن.”
“إن لم تمانع، سأعود بنفسي لاستلامه. فالشاي لديكَ لذيذ.”
ابتسمت سيان ابتسامةً رقيقة ثم أعادت نظرها إلى الألواح الزرقاء على الجدار.
“وأود أن أرى ذاك العمل مرة أخرى.”
***
لم يخرج أون وو من جيبه حزمة المفاتيح إلا بعدما تأكد تمامًا أن سيان وزوجها قد غادرا.
و أزاح الكيس الثقيل من الطين الذي كان يسند به باب المخزن، ثم فتحه بالمفتاح.
كييييك—
كان ما يُسمى “مخزن الطين” في الحقيقة جزءًا من الحمام، قُسّم بجدار. فالجانب الآخر يحوي المغسلة والمرحاض، وأما جهة المخزن ففيها حوض استحمام.
دخل أون وو إلى المخزن المظلم. و كان هناك شخصٌ ما ممددًا داخل الحوض الأبيض، غارقًا في نوم مخدّر بالدواء.
أمسك أون وو بكاحل ذاك الشخص الذي تدلّى إلى خارج الحوض، ودفعه برفق إلى الداخل.
طَق-
صم خرج بعدها من المخزن وأغلق الباب بإحكام، و وضع كتلة طين رطبة على عجلة الفخّار، وبدأ عمله من جديد.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 131"