كان خائفًا من عودة ذلك الرجل والمرأة الطويلين مع كلبهما في أي لحظة. و كلما فكر بهم، ازداد قلقه حتى كاد قلبه العجوز يؤلمه.
عندما يموت الإنسان، تختفي آثاره أسرع مما يتوقع المرء. فما إن تمر أيام قليلة حتى يصبح الميت ماضيًا.
أولئك الذين بكوا بحرقة في الجنازة، ما يلبثون أن يأكلوا ويناموا ويعملوا، فيدفنوا الراحل سريعًا في ذاكرتهم.
و الآن لم يبق في هذا العالم من يتذكر دفء جسد السيدة كيم غيره هو.
“أيها الصغير، ستذوب عيناك من كثرة البكاء. كفّ عن البكاء. إذا واصلت البكاء هكذا، فكيف ستذهب السيدة كيم إلى السماء مرتاحة البال؟”
وبسبب كثرة ما قالت صديقتها، لم يعد يبكي بصوت عالٍ، لكنه لم يستطع أن يدفن السيدة كيم في قلبه ولا في ذاكرته.
فالأشياء التي لمستها، ونظفتها، وجلست عليها، وارتدتها ما زالت موجودة في هذا العالم، بينما هي وحدها اختفت.
لم يستطع تقبّل ذلك أبدًا، وكان من العسير عليه احتماله.
وفوق ذلك، ومع أن ذاكرته تتآكل يومًا بعد يوم بسبب الخرف، كان يخشى أنه إن اختفت أشياءها من هذا البيت فسوف ينسى السيدة كيم سريعًا.
‘سأدفنها في ذاكرتي مثل الآخرين.’
لا، لا يمكن.
كان يتلوّى من القلق ويتحرك في مكانه بلا هدوء، ثم نهض ببطء من على الأريكة ليتفقد الموقد كما اعتادت السيدة كيم أن تفعل دائمًا.
فكلما همّت بالخروج كانت تتأكد مرتين أو ثلاثًا من إغلاق الغاز، ثم لا تلبث أن تمشي عشرين مترًا حتى تقول له،
“هويا، هل أغلقتُ الغاز حقًا؟”
ولهذا صار يرافقها عند خروجها، يريها بعينيها أن كل شيء مُحكم، و يؤكد لها أن الغاز مغلقٌ جيدًا.
عندها كانت تبتسم ابتسامةً رقيقة وتلمس وجهه بكفها.
‘ذلك اللمس…..’
حين يتذكر دفء يد السيدة كيم وحنانها، كان يعرج في مشيته لكن ساقه المصابة بالتهاب المفاصل لم تكن تؤلمه.
توجه ببطء إلى المطبخ، و راجع الموقد مرتين أو ثلاثًا رغم أنه لم يعد هناك من يستخدمه، ثم عاد بخطوات واهنة وجلس على الأريكة.
أسند رأسه المتعب إلى الوسادة التي كانت تخص السيدة كيم، وثبّت بصره على الباب.
كان ضوء أغسطس المتماوج يغمر نافذة المدخل. ضوء جميل…..فرفع إليه قلبه كأنه يتمنى أمنية.
‘عودي…..عودي…..عودي….’
كان يعلم أن السيدة كيم لن تعود أبدًا، ومع ذلك كلما نظر إلى الباب انتابه وهمٌ بأنها قد تعود في أية لحظة.
كانت أوهامًا عقيمة.
‘أنا لست غبيًا.’
فقد رأى بأم عينيه السيدة كيم وهي تُحمل خارج هذا الباب جثةً بلا نفس، ومنذ تلك اللحظة لم تطأ هذا البيت مرة أخرى.
ومع ذلك كنت ما يزال هنا، ينتظر. ينتظر لمسة يد السيدة كيم.
ذلك الدفء الحنون ليدٍ أفتقدها بشدة.
‘كنت أود فقط…..لمرة واحدة، لمرة وحيدة بعد، أن أشعر بها من جديد.’
وكلما أحرقته تلك المشاعر في قلبه، كان يميل ببطء و يفرك خده بوسادتها.
لكن وسادة السيدة كيم المتهالكة لم تحتفظ بذرة من دفئها. ولا حتى عطرها بقي عليها.
‘أنا وحدي…..تمامًا وحدي.’
كان يراقب شاردًا أشعة الشمس وهي تميل نحو الغروب.
الصباح يصير نهارًا، والنهار يصير مساءً، والليل يحل مظلمًا، واليوم يطول بلا نهاية. فمنذ رحيل السيدة كيم، لم يعد قلبه يسير مع زمن هذا العالم. و لم يعد يميز الفصول.
زمنه توقف ولم يعد يتحرك.
‘كم كان سيكون جميلًا لو متنا معًا، كما عشنا مهاً.’
***
كانت الرئيسة تحدق بوجه جامد في صورة تحتفظ بها دائمًا داخل محفظتها.
رغم أنها كانت تعتني بالصورة بحذر شديد، إلا أن مرور الزمن جعلها تبلى وتبهت ألوانها شيئًا فشيئًا، ولم تستطع أن تمنع ذلك.
كانت الرئيسة تحدق بثبات في صورة زوجها، دون أن يطرف له جفن.
“حبكَ غامرٌ أكثر مما ينبغي.”
قالت لزوجها ذلك يومًا وهي تدلّل حديثها معه بابتسامة حنونة متذمّرة.
“أحيانًا تبدو شديد التعلّق بي، حدّ الجنون. حبكَ أعمى…..ماذا ستفعل لو متُّ قبلكَ؟”
“ماذا عساني أن أفعل؟ سأموت معكِ.”
فضحكت ضحكةً صافية،
“أرأيتَ؟ كنت أعلم أنكَ ستجيب هكذا!”
ثم مدّ يديه بكل دفء، يحتضن وجنتيها و يداعبهما برفق.
“إن حبي لكِ لي يفور…..إنه يرهقكِ، ويربكني أنا أيضًا.”
“….…”
“لذلك سأحاول أن يكون حبنا حبًّا يشبه الربيع…..ربيعًا، ربيعًا، ربيعًا. دفئه بقدر كافٍ، لا أكثر.”
ششش—
هبت نسمة أغسطس الثقيلة الرطبة، تناثر معها شعرها في الهواء، وانعكست بين خصلاتها شذرات ضوء متمايلة.
كانت الرئيسة تحدق في تلك الذرات المتلألئة التي انسكبت فوق صورة زوجها، كمن يبهرها بريقها، ثم تمتمت بصوتٍ خافت كأنها تكلّم نفسها.
“لو كنتَ هنا، لكانت حياتي كلها ربيعًا لا ينتهي.”
لكن بعد رحيل زوجها، تلاشى من حياتها ذلك الفصل وحده. و باتت الفصول الأربعة كلها قاسية.
بردٌ قارس ينهش العظم، حرارة تلتهب، وبرودة تسري في الجسد، دون أن تتمكن يومًا من استرجاع الدفء السعيد الذي كانت تشعر به حين أحبها.
“عطركَ…..ما زلت أستطيع أن أستحضره بوضوح حتى الآن.”
مرّ الوقت، وتعاقبت الفصول، واهترأت حتى الصورة، لكن الحب وحده ظل ثابتًا كما هو.
حبّ كان متعباً…..ولعنةً سعيدة.
جلست الرئيسة في كرسيها الكهربائي كعجوزة مريضة فقدت قوتها في ساقيها، ثم ضمّت ببطء الصورة البالية إلى صدرها.
***
“هووه..…”
تنفّست سيان بعمق وهي تترك نسمات البحر تعبث بخصلات شعرها.
كان جسده حاراً كما لو أنها خرجت للتو من غرفة ساونا.
قضت أربعة ساعات كاملة تقلب بيت الرئيس السابق المغلق النوافذ تحت وطأة الحرّ الخانق. وكانت رائحة الدم الكثيفة التي ملأت المكان تخنقها لدرجة أن رأسها دار في النهاية.
ومع كل ذلك العناء، كان ليهون عليها إن وجدت شيئًا…..لكن لم يكن هناك أي غنيمة.
فالبيت من الداخل خالٍ من أي فائدة، وفي الفناء الخلفي لم يكن الوضع مختلفًا. و لم تجد سوى أثر رصاصة فضية غاصت في جذع شجرة سميكة قائمة خلف نافذة الحمام مباشرة.
القاتل الذي اغتال الرئيس السابق كان حريصًا بما يكفي ليجمع حتى تلك الرصاصة الفضية.
وبحسب قول جوون، فقد تظاهر وكأنه انتحر في الحمام فقط ليسترد تلك الرصاصة التي كان محفورًا عليها رقم العميل.
مرّرت سيان يدها خلف رقبتها لتمسح العرق المتصبب.
“تفضلي، آيس كريم.”
قال جوون ذلك وهو يناولها مخروطًا أبيض من الآيس كريم وجلس بجانبها على المقعد.
فترددت سيان قليلًا، ثم أخذته.
“آيس كريم وليس قهوة مثلجة؟”
“رأيت آلة الآيس كريم، فخطر في بالي وجهكِ، فاشتريت لكِ واحدًا. لا يعجبكِ؟”
“لا، ليس كذلك.”
فقط لأنه مضى زمنٌ طويل منذ آخر مرة تذوقت فيها آيس كريم.
حين كانت صغيرة، كانت الرئيسة تشتري لها الآيس كريم أحيانًا، لكن منذ أيام الثانوية توقفت عن شراء مثل هذه الأشياء.
قضمت هي الطرف المدبب من مخروط الفانيليا.
ناعم…..بارد….منعش….وحلو.
“لذيذٌ فعلًا.”
“نعم، لذيذ.”
وافق جوون، وقضم قضمةً كبيرة من آيس كريمِه. وبدا واضحًا أن الحرّ يرهقه، فقد فكّ زرًا آخر من قميصه.
ششش—
صوت الموج كأن أذنًا التصقت بصدفة بحرية. بينما اندفعت الأمواج الزمردية ثم تكسرت إلى زبد أبيض.
جلس الاثنان متجاورين، يبرّدان نفسهما بنسمات البحر الرطبة وهما يتذوقان آيس كريم باردًا.
“هل نلتقط صورةً نحن أيضًا؟”
قال جوون ذلك مبتدئًا الحديث. وفهمت فورًا أي صورة يقصد…..لا بد أنه يتحدث عن تلك الصورة السعيدة التي جمعت الرئيسة وزوجها والرئيس السابق.
فأومأت سيان موافقةً بلا تردد.
“ربما في الخريف أو الشتاء؟”
لأن قلب الرئيسة الآن لا بد أنه مثقلٌ بالألم، وحتى لو ابتسمت فلن تكون ابتسامةً حقيقية.
ولم تدرك سوى اليوم أنه لم تكن هناك أي صورة تجمعها بالرئيسة حتى الآن. أما مع جوون، فلم يكن هناك أصلًا سببٌ لالتقاط صورة.
لكن ربما بسبب تلك الصورة التي رأتها للتو، راودها فجأة شوق لأن تمتلك هي أيضًا صورةً تجمعهم ثلاثتهم معًا. كما في يوم مايو حين شووا اللحم وأكلوه.
الرئيسة، و جوون، وهي…..يتبادلون الأحاديث الصغيرة، ويضحكون ببهجة صافية، لحظة فرح مشعة كشمس أغسطس، لا ظل فيها ولا غيمة.
حينها، رمشت سيان ونظرت إليه، و لم يمهلها وقتًا لتقول شيئًا، بل انحنى وقضم الجزء الذي كان يذوب من الآيس كريم.
لو كان شخصًا آخر، لكانت تجاهلت الأمر تمامًا، أو أطلقت تنهيدة قصيرة وانتهى الأمر…..لكن سيان تظاهرت بالاعتراض، بنبرة هادئة أقرب إلى الدلع،
“إنه آيس كريمِي.”
“من يأكل أولًا هو صاحبه.”
“تلك قاعدة البرية. أما في المجتمع المتحضر فلا تسري مثل هذه القوانين.”
“ليس بالضرورة. فالمجتمع المتحضر ما هو إلا همج يرتدون بدلات رسمية.”
“آه….هكذا ترى الأمر إذاً.”
تظاهرت سيان ببرود وهي تمازحه بخفة.
“لكننا لسنا كذلك. يبدو أنكَ وحدك يا تاي جوون من عجزت عن التطور لتصبح متحضراً.”
فجأة أخذ جوون يقلد حركة إنسان بدائي، محاولًا أن يخطف قضمة أخرى، فضحكت سيان وسحبت يدها خلف كتفها.
كانت الشمس تلتهب في السماء، والريح الحارة تكاد تخنق الأنفاس، والبحر يلمع ببريق مذهل، بينما يختلط المشهد بأصوات ضحكهما.
ولغرابة الأمر، كان هذا المشهد البسيط يمنحها سعادةً عجيبة، فضحكا معًا كطفلين.
كان وجه جوون غارقًا في وهج النور؛ و أشعة الشمس تتلألأ في بؤبؤيه، وأهدابه تلتمع بخيوط ذهبية.
فمدّت سيان يدها إلى عنقه، وجذبته نحوها. و ثبّتت عينيها الشفافتين بلون التوباز في عينيه، ثم قضمت من آيس كريمِه، وفي اللحظة نفسها تقريبًا طبعت شفتيها على شفتيه.
عبق الفانيليا الغامر أدار رأسها بسُكرٍ مدهش. وملأت قضمة كاملة من الآيس كريم فمها بحلاوة باردة ترتجف معها.
“لهذا سرقتَ قضمة، أليس كذلك؟”
همست سيان فأجاب جوون بصوت أجش، وهو يقبّلها من جديد،
“من الآن فصاعدًا…..هكذا فقط يجب أن نأكل الآيس كريم.”
وتعانقا في قبلة أخرى أطول.
طَخ-
و في غفلة سقط مخروط الآيس كريم من يدها إلى الأرض. فأحاط خصرها بكفيه العريضتين، وضمّها إليه.
____________________
المؤلفه تعشق الاحزان اجل بداية الارك كانت كلمات زوج الرئيسة؟😭 بكييييت
المهم سيان وجوون وهم يضحكون سوا يجنوووون بس الكفار مشكلة يعني ليه مايضمون بعض وخلاص؟ ادري بلا بوسات بس يضحكون😭
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات