كانت شمس أغسطس تغلي غليًا. بهذا الحر……الجميع يعاني.
الحر لا يطاق، وفوق ذلك جعلت شريحة حماية الخصوصية المثبَّتة على زجاج شرفة المنزل الداخلَ أكثر عتمةً قليلًا.
كان العجوز يعرج ببطء وسط غرفة المعيشة شبه المعتمة، يقطعها بساقيه الموجوعة من التهاب المفاصل.
أزعجه كون المنزل في حالة فوضى، لكن جسده العجوز لم يعد يقوى على فكرة الترتيب.
ففي هذا العمر، مجرد الانحناء لالتقاط شيء من الأرض صار أمرًا بالغ المشقة.
حتى الانحناء، وحتى الجلوس ثم النهوض، كم بات الأمر مرهقًا……
على أية حال، منذ رحيل زوجته كيم عن الدنيا، لم يعد هناك من يوبخه إذا رآه مبعثرًا.
“لماذا جئتُ إلى المطبخ أصلًا؟”
غطّى ضبابٌ رماديٌ ذهنه. و ظلَ يهيم في ذلك الضباب المزعج بلا هدف، لكن لحسن الحظ تذكر هذه المرة سريعًا.
“صحيح……جئت لأتفقد الغاز.”
عاد يعرج من جديد إلى المطبخ.
كانت زوجته كيم دائمًا تشدد على الحذر من النار.
كلما همّا بالخروج كانت تتحقق من موقد الغاز مرارًا، وإذا استعجلها للخروج كانت تجيبه دائمًا بنفس العبارة، “لا، لا بد من تفقد النار أولًا.”
ومنذ رحيل زوجته لم يعد هناك من يتأكد إن كان موقد الغاز مغلقًا بإحكام. لذلك أصبح هو من يقوم مكانها بتفقده بدقة.
سار بخطًى متثاقلة، وتأكد مرتين أن النار مطفأة تمامًا، ثم عاد إلى غرفة المعيشة.
هناك، وقف منحنياً قليلًا أمام درج السلم المؤدي إلى الطابق الثاني، و رفع بصره نحو الأعلى.
تُرى……ما حال كي شيك الآن؟
قبل أربعة أيام جاء ابن أخيه كي شيك إلى هذا البيت.
فمنذ أن تخرج من الثانوية وذهب إلى سيول، لم يزره قط إلا مرة خاطفة بعد جنازة زوجته كيم. لذا، كانت هذه الزيارة بعد أكثر من عشر سنوات على آخر لقاء بينهما.
وخلال تلك السنوات العشر تغيّر كي شيك كثيرًا، صار عصبي المزاج، فظًّا، سريع الغضب. حتى إن أول ما قاله حين رآن كان: “ها؟ أما زلتَ حيًّا إذاً؟”
‘كان طفلًا لطيفًا على الأقل في صغره……’
لكن منذ أن جاء قبل أربعة أيام، ظل حبيس غرفته في الطابق العلوي، و لم يتحرك منها قط. لم يأكل، ولم يشرب، وحتى حين يناديه لا يرد.
وأحيانًا، حين يلوح في الجو عبير دم، يخيل إليه أنه جريح……وربما مريضٌ أيضًا.
تردد قليلًا قبل أن يصعد إلى الطابق الثاني.
في مثل سنه، ومع معاناته من التهاب المفاصل، يحتاج صعود الدرج ونزوله إلى شجاعة كبيرة.
“هل تحتاج شيئًا؟”
طرق باب غرفة كي شيك وتحدثت بحذر، فجاءه ردٌ عصبي على الفور،
“لا، ارحل.”
لكنه لم يكن صوت كي شيك. فقطّب العجوز حاجبيه قليلًا.
الشخص الذي أجاب للتو لا بد أنه ضيف كي شيك الذي اقتحم البيت دون إخبار مسبق.
كان صوته من خلف الباب حادًّا وقاسيًا، يوحي بأنه ليس من النوع الجيد.
‘لماذ لا يصاحب إلا أشخاصًا خطرين كهؤلاء؟”
حتى في حياة زوجته، كان قلبها يعتل كثيرًا بسبب هذا الفتى، الذي كان بمثابة ابن لهم.
لم يكن كي شيك ضيفًا يرحب به العجوز حقًا، لكن بما أنه كان طفل زوجته المدلل، فإن طرده بعد كل هذه السنوات سيجعلها، حتى في العالم الآخر، تشعر بالخذلان.
استدار بصعوبة، وعاد ينزل الدرج ببطء حتى وصل إلى غرفة المعيشة في الطابق الأول.
كانت الغرفة خاليةً لدرجة أن الصمت فيها بدا موحشًا. ففكر في تشغيل التلفاز، لكنه لم يعد يعرف أين اختفى جهاز التحكم.
صحيحٌ أنه يحب هدوء المنزل، لكنه أحيانًا يفتقد ضجيج الماضي وصخبه بشدة.
‘كم كنت سعيدًا آنذاك……لكن، لا أظن أنني سأعود إلى تلك الأيام أبدًا.’
ألقى العجوز بجسده المنهك على الأريكة التي قضى مع زوجته معظم حياته جالسًا عليها إلى جوارها. و عاد رأسه ليغرق في ضباب كثيف من جديد.
تلك الفصول الأربعة التي عاشاها معًا على هذه الأريكة……الأيام الكثيرة التي كانت هي تشاهد فيها التلفاز، و هو يكتفي بالنظر إليها، صارت في هذه الأيام تتبدد كالدخان.
‘أنا أفقد الكثير……في هذا الصيف.’
بل، قبل أن ينقضي هذا الصيف، ستتلاشى من ذاكرته معظم تلك اللحظات السعيدة من الماضي.
“ماذا أفعل الآن يا زوجتي……يبدو أن الخَرَف قد أصابني.”
“لا تقلق، سأبقى إلى جواركَ حتى النهاية. لا تخف.”
لكنها……رحلت عن هذا العالم فجأة قبله.
أغمض العجوز عينيه المتعبتين.
كان مجرد صعوده مرةً واحدة من المطبخ إلى الطابق الثاني مرهقٌ حتى وهن جسده بالكامل.
وبعينين مغمضتين، تمتمت،
“عند الذهاب إلى المطبخ……لا بد أن أحترس من النار.”
فعندما ينظر إلى موقد الغاز و يتذكر ضرورة الحذر منه، فلن ينسى ذلك أبدًا……حتى آخر لحظة، تمامًا كما كانت تفعل زوجته.
***
دق… دق…
كان صمتُ غرفة فحص الأرواح شديدًا لدرجة بدت معها دقات قلوبهم جميعًا وكأنها مسموعة.
أما الرئيسة، الجالسة على كرسيها الكهربائي المتحرك، فكانت تحدّق بلا حراك في الزجاجة التي تمسك بها.
بل أدق، كانت تحدّق في الملصق الموضوع عليها، “خَتم أوتيس”، بعينين يختلط فيهما الغضب بالارتباك.
كانت تلك هي الزجاجة التي تحتوي على عفريت الأحلام، التي جلبتها سيان من أراضي الخلاص للسنابل، وتحديدًا من السرير الأسود الذي كان الزعيم يخفيها فيه.
ولوجود ختم أوتيس على تلك الزجاجة سببٌ واحد لا غير، هذا الكائن النادر والفريد كان قد أُسِرَ في الماضي على يد أوتيس، وأحدهم من داخل أوتيس سرّبه خفيةً إلى السنابل.
لم يخطر ببالهم قط أن يكون داخل أوتيس نفسها “أفعى جلجامش”.
حتى حين أطلقوا في ديسمبر الماضي عملية “0401 صيد الأفعى” بسرية تامة، كانوا في قرارة أنفسهم يهزون رؤوسهم مستبعدين فكرة وجود تلك الأفاعي في منظمتهم.
لذلك، حين وقعت أعينهم على ختم أوتيس على تلك الزجاجة، كان الشعور أشبه بانهيار الأرض تحت أقدامهم.
الصدمة والخذلان كانا أعمق وأشد برودة مما توقعوا، حتى أن الدم في عروقهم لم يزل متجمدًا.
ألقت سيان نظرةً حزينة نحو الرئيسة المتيبسة مكانها. أوتيس كانت كل حياتها……فكيف يمكن مواساتها من خيانةٍ كهذه؟
ومن بين الثلاثة الموجودين في غرفة فحص الأرواح—سيان، و جوون، والرئيسة—لم يتأثر إلا الزعيم وسيان، أما تاي جوون، الذي لم يؤمن بأوتيس أصلًا، فبقي وجهه خاليًا من أي انكسار.
صحيح……فقد سبق أن علىت بذلك،
“ألا تثق بأوتيس؟”
و ردّ على سؤالها بنبرة ساخرة،
“في النهاية……هي منظمةٌ يديرها بشر.”
بعد لحظات، حرّكت الرئيسة وجهها المتجمد، ودفعت كرسيها الكهربائي نحو الآلة الضخمة، ثم أدخلت الزجاجة في فتحة جهاز فحص الأرواح.
تشقّق……كيييِن-
مع صوت قصير، دارت الزجاجة نصف دورة، ثم انزلقت بسرعة إلى داخل الآلة كما لو جُذبت بقوة شفط.
ثم التفت سيان و جوون والرئيسة جميعًا في الوقت نفسه نحو الأسطوانة الزجاجية الضخمة القائمة في وسط غرفة فحص الأرواح.
كانت أسطوانةً من زجاج فائق التحمل، تتسع بسهولة لعشرين شخصًا معًا، وتشبه في شكلها حوضًا دائريًا فاخرًا لتربية الأسماك الاستوائية، كما قد تراه في مطاعم عربية فخمة.
لكنها في الحقيقة كانت مخصَّصةً للتحقق من الكائنات الأسيرة، أو لإلغاء الختم عندما يكون من الضروري التحدث معها.
تموّج-
بدأ دخانٌ أسود رقيق، كدخان السجائر، يتصاعد من قاع الأسطوانة، ثم اكتسب بسرعة ملامح واضحة ليتحوّل إلى هيئة بشرية، هيئة رجل.
أُطلق العنان للروح داخل الأسطوانة الزجاجية الضخمة.
وقد كان مطابقًا تمامًا للرسم الوصفي في دفتر رسومات كيم يون-وو—رجلٌ طويل يقترب طوله من مترين، ذو بنية جسدية قوية للغاية.
لكن……أين وجهه؟
رغم أن باقي جسده بدا واضحًا وحاد الملامح، إلا أن رأسه وحده كان يتلاطم ويتماوج بغرابة من دخان أسود كثيف.
تصفّحت سيان بسرعة، بعينيها المدربتين على القراءة الخاطفة، البيانات التي أخذت تظهر تباعًا عن هذا الكيان الروحي في أعلى الأسطوانة الزجاجية الضخمة.
عرفت اسمه، وقدراته، ومن هو فريق النجارين في أوتيس من قام بأسره، ومتى، وأين تم ذلك، وكل التفاصيل الدقيقة.
اتضح أنه روحٌ من فصيلة “الكوابيس” يغيّر ملامح وجهه، أثناء امتصاصه جوهر فريسته، ليتطابق مع “صورة اكثر شخصٍ يخافه” الذي يتخيله الضحية.
وهذا يعني أنه كان، في أصله، كائنًا بلا وجه.
وبما أنه بلا رأس، فهو كذلك بلا صوت.
في تلك الأثناء، دار الكابوس داخل الأسطوانة دورةً كاملة، متفحّصًا الثلاثة واحدًا تلو الآخر، قبل أن يثبت نظره على جوون وحده، معلقًا في الهواء. و جوون هو الآخر كان يحدّق فيه ببرود قاتل.
نعم……التشابه واضح.
أخذت سيان تتنقل بنظرها بين جوون و الكابوس.
لقد كان هناك لحظة، في تلك المنارة المهجورة بأراضي الخلاص، اختلط عليها الأمر وظنّت أن الكابوس هو جوون.
حينها شعرت بقشعريرة نفور……وهي نفسها التي عادت الآن.
فجوون، الواقف خارج الأسطوانة، وذلك الكابوس المحبوس بداخلها، كانا متطابقين إلى حد عجيب، كأنهما صورتان متقابلتان.
نفس الطول، نفس البنية الجسدية، ونفس الهالة القوية الباردة التي تثير القشعريرة.
ثم تحدثت سيان،
“كنت أشك بذلك حتى في الجزيرة……إنه شيطان الحمل. ذاك الكائن الذي لا نجده إلا في الأساطير والقصص الشعبية……لم أتخيل أن شيطان الحمل الشهير سيكون بهذا الشكل.”
إنه شيطانٌ يتسلل إلى جسد الزوج، أو يعتدي على عروسٍ في ليلة زفافها، لينجب منها طفلًا نصفه إنسان ونصفه روح.
ردّت الرئيسة على كلمات سيان المندهشة بصوت متماسك وحازم،
“إنه كابوسٌ يكاد يكون أقرب إلى الشيطان. أُسِر قبل واحد وخمسين عامًا، ومسجَّل أنه حُفِظ في منشأة احتجاز الأرواح من الدرجة الخاصة.”
فسألت سيان بصوت هادئ،
“ألا يمكن معرفة من أخرجه ومتى؟”
بالطبع يمكن.
فأوتيس مبرمجة بحيث تُرسل تلقائيًا كل بيانات موظفيها—من دخولهم وخروجهم من المباني، إلى نتائج عملهم وجداولهم، وحتى سجلات استخدام بطاقات الائتمان المخصَّصة للمهام—إلى النظام المركزي لأوتيس.
ذلك لأن عملاء أوتيس كثيرًا ما يختفون في ظروف غامضة، ولإنقاذهم بسرعة، كان لا بد من تتبع مكانهم وتحركاتهم في الوقت الفعلي.
لهذا السبب، فإن العملاء الذين يتسمون بطبيعة شديدة الخصوصية وتمردًا على النظام، كانوا أحيانًا يطفئون هواتفهم تمامًا أو يستخدمون النقود فقط.
لكن إخراج شيطان الحمل كان قد تم داخل مبنى أوتيس نفسه.
إذًا، لا بد أن السجلات موجودة.
بيب-بيب بيب-
ارتدت الرئيسة نظارة واقع افتراضي مزودة بتقنية التعرف التلقائي على قزحية العين، لتطّلع على ملفات سرية لا يمكن سوى لقائد أوتيس الوصول إليها.
ظلّت الرئيسة تتصفح الملفات السرية بوجه خالٍ تمامًا من الانفعال.
لم تبدِ أي دهشة، بل كان أقرب إلى شخص توقع الأمر مسبقًا.
وبعد نحو دقيقة من الصمت، خلعت النظارة وفتحت فمها لتتحدث.
“في مارس قبل تسعٍ وعشرين سنة، كان هناك عميل لقي حتفه في ذلك الوقت تقريبًا، وتشير السجلات إلى أنه أخرج شيطانالحمل قبل وفاته بأربعة أيام. أما الشخص الذي منح الإذن بإخراجه فهو……”
سكتت الرئيسة لحظةً قصيرة، ثم أكملت،
“كانغ وان كيو……رئيس أوتيس السابق قبلي هو من سمح بخروج شيطان الحمل.”
_________________________
يع من سمح له يطلعه؟ عسا ماشر وين المسؤوليه
جوون على هدوءه ذاه الظاهر وده يجيب فشار على ذا الي يصير قدامه 😂
المهم العجوز بداية الفصل عم كي شيك المجنون ذاك بس ياعمري عليه يومه يتذكر زوجته دمعت😔
Dana
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 114"