في تلك اللحظة المظلمة التي بدت وكأن الزمن قد تجمد فيها، رأت رجلاً شبه عارٍ طويل القامة واقفاً في ساحة القاعة الكبرى.
فأسرعت تهز رأسها بقوة، وسط المطر المنهمر على وجهها، ثم أعادت النظر مرة أخرى نحو ذلك الاتجاه……
لا، لقد كانت مخطئة. لابد أن البرق والرعد أوهماها.
فالذي كان واقفاً في ساحة القاعة الكبرى لم يكن هو، بل كان هناك رجالٌ آخرون.
كان تشوداي تو يترنح خارج القاعة الكبرى، متكئاً على ذراعي رجلين يرتديان ثياباً صفراء.
وكان يحتضن بكلتا ذراعيه ذلك “الصندوق الأسود” الذي رأته من قبل. وبدا أن ذراعيه بلا قوة، حتى أن الصندوق كاد أن ينزلق من بين يديه.
لكن الرجلين ذوي الثياب الصفراء أسرعا بفزع للإمساك به، ثم أعاداه بالقوة إلى حضنه وأحكما قبضته عليه.
وقد كانوا شاحبين من الخوف وهم يتجهون إلى مقر الزعيم.
هل ينبغي أن أستولي على ذلك الصندوق الأسود؟
غيّرت سيان وضعيتها بينما كانت قطرات المطر تتساقط من ذقنها.
ثلاثة رجال……يمكنها بالتأكيد إسقاطهم بهجومٍ مفاجئ. لذا إن وضعت ملفاتها جانباً مؤقتاً وأخذت الصندوق فقط……
“مهلاً، لماذا تعيدونه مجدداً؟! الزعيم أمر بأن يُجلب بعنايةٍ فائقة!!”
حين لمعت عينا سيان بحدة وهي تضع الملفات جانباً قليلاً، نزل من مقر الزعيم رجلان بملابس صفراء كانا في نوبة الحراسة. و كلاهما كان يحمل بندقية صيد.
صرخ الرجال بالملابس الصفراء وسط المطر المنهمر،
“أعيدوه بسرعة! هذا الشيء لا يجب أن يُترك في الخارج أبداً، لقد بقي خارجاً وقتاً طويلاً جداً!”
“لكن……نحن لا نعرف حتى أين يجب أن نضعه.”
“السيد تشوداي تو سيخبرنا. هيا! ادخلوا إلى الداخل!”
‘ما هذا……أين الزعيم؟’
يا للأسف……كان عليها أن تتخلى عن الأمر.
فالمواجهة ضد خمسة رجال، اثنان منهم يحملان بنادق صيد، لن يكون الفوز فيها سهلاً.
ذلك “الصندوق الأسود” من الواضح أنه قلب سرّ هذه الجزيرة، لكن لا يمكنها المخاطرة بفقدان خاتم الأفعى أو الملفات السوداء التي حصلت عليها بشق الأنفس.
شدّت سيان الملفات إلى صدرها بقوة، واستدارت بسرعة، متجهةً نحو جنوب القرية.
وحين وصلت بالقرب من السكن رقم 11، رأت أمامها فستاناً أبيض شاحباً وساقين تقفان في الضباب. كانت إحدى النساء السبع اللواتي تلطخت أيديهن ونصفهن السفلي بالدماء القانية.
وفي وسط المطر الغزير، تحركت تلك الساقان الشاحبتان ببطء نحو حقل السمسم البري.
فارتجفت سيان لوهلة، لكنها لم تكن ممن يهربون من الأشباح، بل تبعت ذلك الشبح بلا تردد.
“هاه، بحق! كيف لم تستطيعا الإمساك باثنين فقط؟”
ما إن دخلت حقل السمسم البري حتى سمعت أصواتاً صاخبة تأتي من الجهة التي توقفت فيها المرأة. فخفضت سيان جسدها بسرعة وجلست، مصغيةً بانتباه شديد.
“قبل قليل بدا لي أن فريق التتبع لا يضم أحدًا سوانا، مع أن الزعيم أمر بذلك بصرامة، فأين ذهب الجميع وماذا يفعلون؟”
“هل تعرّضوا لهجوم؟ فالرجل هناك، كان ضخم البنية جدًا.”
“كفّ عن الهراء! لو كان الأمر كذلك لكنا سمعنا على الأقل أصوات قتال، لكن لم يحدث أي شيء من هذا القبيل! من المؤكد أنهم مختبئون في مكان ما يتسلّون، ونحن فقط من يظل ساهرًا طوال الليل! وسط الإعصار!”
كانوا من الذين يطاردون جوون.
شَهقت سيان بصمت في غمرة ارتياح مكتوم، فلو واصلت التقدّم في ذلك الاتجاه لوقعت في أيديهم، لكن لحسن الحظ نجت.
المُنهَكون بفعل الرياح العاتية والأمطار الغزيرة كانوا يتحدثون بانفعال، وقد علت أصواتهم. و ظلوا يفرغون غضبهم وهم يخطون بتثاقل في اتجاه القاعة الكبرى.
أما سيان، فقد التصقت بالأرض بين نباتات السمسم القصيرة، وظلت تنتظر حتى مرّت الثياب الصفراء من أمامها، ثم غادرت القرية في اللحظة نفسها.
***
رش-! رش-!
كانت مياه المطر تتناثر حتى الركبتين، وقطراته العاتية، الحادة كزجاج مهشّم، تنهمر بقوة على جسدها.
أخذت سيان تركض بسرعة وسط الظلام العاصف، مستعيدةً في ذهنها صورة الرجل الذي لمحَته في ساحة القاعة الكبرى.
رجلٌ طويل بلا وجه، ضخم البنية، نص عارٍ، كان يقف وسط المطر والرياح المرعبة، يحدّق نحوها هي، نحو سيان، بثباتٍ مروّع.
غير أن رؤيتها له لم تدم إلا لحظة خاطفة، لثانيتين؟ أو ثلاث على الأكثر.
حتى أنها ما إن رمشت بعينيها حتى تلاشى كالوهم، وحلّ مكانه تشوداي تو وأصحاب الثياب صفراء يحملون “الصندوق الأسود”.
فهل كان ذلك مجرد وهم للحظة؟
لكن……حتى لينكون وقف كل شعرة في جسده وهو ينظر بحدّة.
لم يكن وهمًا، بل كان “روحًا” حقيقية. روحًا خطيرة مختومة داخل الصندوق الأسود.
تلك الروح هي نفسها التي انتزعت في لحظة كوابيس جوون.
ومن المؤكد أنه كائنٌ غريب مرتبط بجنين التوأم في الرحم……
لكن ما هي تلك الروح المشؤومة بحق؟ ما الذي كانت عليه حقًا؟
وما الذي يختبئ في هذه الجزيرة بالضبط؟
***
“لنلتقي عند الفجر في المنارة الجنوبية الغربية.”
هذا ماوعدت به جوون.
وما إن بدأت المنارة تلوح صغيرةً في الأفق، أمرت سيان لينكون بالحراسة. و إذا دخل أي شخص إلى مسافة 500 متر، فعليه أن يأتي ويخبرها فورًا.
ثم هزّ لينكون ذيله مرتين أو ثلاثًا قبل أن يبدأ عملية التمشيط.
أما هي، فشقت طريقها وحيدةً وسط المطر المنهمر، تخطو بخطى واسعة نحو المنارة.
بحسب إحساسها، كان الآن وقت الفجر، لكن الظلام ما زال دامسًا حتى أنها لم تستطع أن ترى ما تحت قدميها بوضوح.
تُرى، هل وصل جوون؟
بناءً على ما تنصّتت عليه من حديث قبل مغادرتها القرية، بدا أن حاله مطمئن……
عندما وصلت إلى المنارة، تفحّصت محيطها بحذر قبل أن تدخل إلى الداخل. ثم أمسكت بحاجز السلم بإحكام، وبدأت تصعد بحذر الدرجات المعتمة.
طنين… طنين… طنين…
كان الدرج الحديدي الحلزوني ضيقًا للغاية، وفي أثناء الصعود كانت أمواج البحر الغاضبة ترتطم بلا توقف بجدران برج المنارة الخرسانية محدثةً دويًا هائلًا.
صوت الأمواج العاتية هذه كان يكاد يصمّ الأذنين.
وأخيرًا وصلت إلى أعلى البرج، إلى الشرفة التي تضم المصباح البحري.
هووووووو…
كانت الرياح البحرية العاتية، الممزوجة بقطرات المطر، تعصف بشعرها بعنف. فأمسكت بخصلاتها كي لا تتطاير، لكنها توقفت فجأة عن التقدم، وقد حبست أنفاسها.
كروووم… كروووم… كرااااااك-!
ضرب البرق البحر، وفي لحظة واحدة انمحى بصرها إلى بياض ثم عاد إلى سواد دامس.
نور……ثم ظلام.
وفي تلك اللحظة الخاطفة، انطبعت صورة رجل على اتساع حدقتي سيان، كأنها وُشمت فيهما.
كان ظهر رجل يقف وسط ظلام أزرق داكن، يحدّق في البحر الهائج المزمجر.
جوون كان ذلك تاي جوون.
كانت تعرف ذلك، لكن لماذا يا ترى؟ للحظة واحدة، انتابها شعورٌ مروّع، وكادت تخلطه في ذهنها بذلك الرجل، أو الروح الذي رأته في ساحة القاعة الكبرى.
هل لأن هذه الجزيرة لا يوجد فيها رجلٌ آخر بذلك الطول وتلك البنية القوية؟
لا……ليس هذا السبب. بل إن الجو، أو بالأحرى الإحساس الخاطف، كان متشابهًا إلى حدٍ أثار قشعريرةً في جسدها.
وكأنما شعر بقدومها، استدار جوون نحوها، ورفع طرف شفتيه بابتسامة.
“آنسة سيان.”
***
في البداية، بُنيت المنارة لغرض المراقبة والحراسة، لكن مع مرور الزمن فقدت فائدتها، ويبدو أنه مر وقتٌ طويل دون أن تتم صيانتها.
كانت الغرفة الصغيرة داخل برج المنارة فارغةً وكئيبة، لا طعام فيها ولا ماءٌ للشرب. ولحسن الحظ كان هناك غطاء سرير قديم مغطى بالغبار.
و حتى ذلك الغطاء لم يكن سوى قطعةٍ واحدة فقط.
خرجت سيان إلى الرواق في المنارة، ونفضت الغطاء بقوة، ثم مدّته نحو جوون.
“انزع رداءكَ وارتده بسرعة.”
“أنا بخير، الأفضل أن تستخدميه أنتِ يا سيان……”
“حتى القميص، هيا.”
قالت سيان ذلك بلهجة حازمة، ثم واصلت كلامها.
“أين معطف المطر؟ لماذا كنت تتجول تحت المطر هكذا؟ كم ساعةً قضيت على هذا الحال……؟”
“لم أشعر بالبرد حقًا.”
لم يشعر بالبرد؟
حين سلّمته سيان خاتم الأفعى وحزمة الملفات السوداء، لامست أطراف أصابعه يدها للحظة، فارتجفت من شدة برودتها.
لقد كان جسده متجمّدًا كما لو أنه خرج لتوه من ثلاجة بعد مئة يوم.
“قلت، انزع رداءكَ حالاً.”
أمرته سيان بصرامة، فهزّ جوون كتفيه قليلًا ثم بدأ يخلع ثيابه العلوية ببطء حتى سقطت على الأرض مبللة.
ثم لفّت جسده بغطاء السرير وأجلسته على الفراش، و عصرت ثيابه المبتلة بقوة وعلّقتها عند طرف السرير.
بعدها راحت تفرك جسده الملفوف بالغطاء جيدًا.
كانت البرودة تتسرب بقوة من جسده إلى راحتيها……فجسده المبتل وشعره المبلول كانا باردين كالجليد.
فهو قد قضى نحو تسع ساعات تحت المطر في العراء دون أي مكان يحتمي فيه……
أما سبب تخليه عن معطف المطر، فكان مفهومًا؛ إذ ربما كان بريقه كالهدف الواضح، مما يزيد خطر تلقيه رصاصة.
“أحسنتَ في الهرب، ألم تخض أي قتال؟”
“بالطبع، فأنا سيئ جدًا في القتال الجسدي، لذا ركضت بكل ما أملك من سرعة.”
“سعيدةٌ لأنكَ عدت سالمًا.”
قالت ذلك بصدق.
“لقد تعبتَ حقاً.”
ابتسم جوون ابتسامةً خفيفة، ثم ابتسم مرة أخرى وكأنه راضٍ.
و مدّ يده يلامس برفق خصلات شعرها المبتلة، ثم انزلقت أطراف أصابعه على وجنتها المبللة بماء المطر.
“أنتِ باردةٌ أيضًا يا سيان.”
“أنا بخير.”
“كذب……جسدكِ كله مغطى بالقشعريرة. وحرارتكِ……منخفضةٌ جدًا.”
تتبعت أنامله نبضها المتسارع بسرعة، منزلقًا إلى عظمة ترقوتها.
“لنجفف أجسادنا معًا.”
خفض صوته بنبرة عميقة.
“أظن أن ذلك سيكون أكثر فعالية.”
ربما كان محقًا. فهي أيضًا تخلّت عن معطف المطر ووقفت تحت السماء، حتى ابتل جسدها كله.
و تبادل الدفء معه كان بلا شك الطريقة الأسرع لاستعادة الحرارة.
لكن……
“لماذا؟ هل تخافين؟”
سألها جوون بنبرة مستفزة. و ابتسم نصف ابتسامة، ثم واصل كلامه بنبرة مازحة.
“أنا……أشعر ببعض الخوف، من أن تنقضي عليّ فجأة يا سيان.”
“هُـوه……”
زفرت سيان نفسًا قصيرًا، ثم نهضت وسحبت ذراعيها من الغطاء.
______________________
احب شخصيتها لاعصبت عشان جوون 😭
المهم يخوف لايكون المجانين يخلون النسوان يحملون من روح؟
بسرعاااااه متى نخلص ذا الارك المقرف ولا سحبت على الروايه😭
Dana
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 106"
اوعي تسحبي علي الروايه دي تحفههه هزعل جدا و بعدين الارك خلاص قرب يخلاص كمليي!!