سأل تيرينزيو فجأة، مقاطعًا حديث ألفيريل. كانت ألفيريل تتحدث طويلاً قبل أن تتوقف، رمشت بعينيها المتسعتين بضع مرات، ثم ابتسمت قليلاً. كان وجه الرجل الذي طرح عليها السؤال جادًّا إلى حدٍّ غريب.
“ما جوابك؟”
“لا، ليس كذلك. أشعر براحة أكبر عندما أتقبل العمل الموكل إليّ.”
كان تيرينزيو جالسًا في وضع غير مريح، ساقاه الطويلتان مثنيتان نصف ثنية، ومع ذلك لم يبدُ منظره غريبًا على نحو ما. حدّق فيها بصمت، ثم تمتم بصوت منخفض:
“لا أظن ذلك.”
لم تغضب ألفيريل من كلماته التي بدت كأنها تستخف بها، بل أجابت بهدوء تام
“أحاول بطريقتي الخاصة أن أحب حياتي. مهما كانت الأوقات التي مررت بها صعبة، إن ركزت على الحاضر فالماضي يُنسى.”
“…….”
“وإذا واصلت الصبر، فسينتهي الأمر في يوم ما.”
كانت كلماتها تحمل مسحة غريبة حين يتأملها المرء بعمق، غير أن ألفيريل التي نطقت بها ابتسمت ابتسامة صافية طيبة، محاولة تهدئة الأجواء، ثم سألت تيرينزيو من جديد
“شكرًا لأنك منحتني الغرفة البارحة. لن تطردني الآن بعد كل هذا، أليس كذلك؟”
لم يُعرف ما الذي غيّر مشاعر تيرينزيو في يوم واحد، لكنه أومأ برأسه دون أن ينبس بكلمة.
ولاحظت ألفيريل أنه لم تفح منه اليوم رائحة النبيذ. تُرى، هل كان ذلك سبب هدوئه الظاهر؟ فكّرت للحظة، ثم اكتفت بالرضا ما دامت سمعت الجواب الذي أرادته.
وانتهى لقاؤهما في ذلك اليوم من دون أي حدث يُذكر.
بعد أن تدفأت جيدًا، جمعت ألفيريل الفِطر السليم في السلة ونهضت. لاحظت أثناء ترتيبها للمكان أن تيرينزيو لم يضع في فمه شيئًا طيلة جلوسهم.
ولم يكن ذلك وحده المثير للريبة؛ إذ إنها حين عادت معه إلى سانت كالوميوم وأعادت النظر في مظهره، وجدته — رغم أناقته — مفعمًا بالغرابة.
كان يرتدي معطفًا رماديًّا داكنًا بدا وكأنه أُخذ على عجل، وتحتَه قميص خفيف القماش يشبه قمصان النوم أكثر مما يشبه ثياب الخروج.
كلما دققت النظر فيه، ازداد غموضًا.
ظنت ألفيريل أن انطباعه عنها لن يتغير بسهولة طوال فترة مكوثها هناك. وبينما كانت تعود إلى القصر، أخذت تستحضر في ذهنها مختلف وصفات الفطر التي تعرفها. كانت تتوق لرؤية ملامحه حين يتذوق طعامها لأول مرة.
لكن منذ ظهر ذلك اليوم، بدأت تشعر بقشعريرة غريبة في جسدها.
وما إن وصلت إلى غرفتها حتى شعرت بأن قواها تخور شيئًا فشيئًا. بدأ السعال يخرج منها، ورؤيتها تتشوش، وحرارتها ترتفع.
“لا يجب أن أنهار الآن…” تمتمت وهي تحاول أن تستعيد تركيزها، غير أن الصداع الذي يجعل رأسها يبدو كما لو كان سينفجر لم يهدأ.
أخيرًا قررت أن تغفو قليلاً لتستعيد طاقتها قبل أن تعدّ العشاء، فتمدّدت على السرير وسحبت اللحاف الكثيف حتى غطّى وجهها. لكن حلقها بقي جافًّا خشنا كأنها استنشقت غبارًا.
وبينما كانت على تلك الحال، أخذ الضوء من النافذة يخفت تدريجيًّا حتى حلّ الظلام. حاولت النهوض لكنها لم تستطع أن تجمع ما يكفي من القوة في ساقيها. أطلقت أنينًا خافتًا وتقلبت على الفراش.
تعلّقت خصلات شعرها الأسود المموج بخدّيها المبللين بالعرق. حاولت فتح عينيها عدة مرات دون جدوى، ثم غرقت في غيبوبة خفيفة، مدركة بوعي باهت أن وعيها يتلاشى.
حتى وهي مغمضة العينين، كان جسدها كله ينبض بالألم كأنها ضُربت من الداخل. شعرت بحرقة في حلقها، فحرّكت شفتيها يائسة بحثًا عن شيء يروي عطشها.
عندها، تسربت بضع رشفات من الماء البارد بين شفتيها.
“ألفي… هل تسمعينني؟”
كم من الوقت مرّ؟ كان حلقها يحترق أكثر، وآلام جسدها تضاعفت، فعرفت أن ساعات طويلة انقضت.
استمعت بانتباه لذلك الصوت الغريب الذي بدا كأنه هلوسة، وابتلعت الماء الذي انساب في حلقها الجاف. تجعّد حاجباها وهي تحاول تمييز صاحب الصوت الذي ما زال يهمس.
“لا… لا داعي لأن تجيبي. لا تقلقي… ستكونين بخير.”
كانت كلماته تتسلل مشوشة عبر حجاب الحمى. حاولت ألفيريل أن تحرك لسانها بصعوبة، ثم خرج من فمها صوت متشقق بالكاد يشبه صوتها.
“كال…؟”
وفجأة خيّم الصمت على الغرفة، وانقطع الصوت الذي كان يتحدث.
“كال، هل هذا أنت؟”
سألت بانفعال، مكررة الاسم الأول الذي خطر ببالها، لكن لم يصلها أي رد. لم يكن هناك سوى يد كبيرة باردة كانت تمسح برفق على جبينها المبلل بالعرق.
حاولت إبعاد اليد التي أزعجتها، لكن جسدها المنهك لم يستجب لإرادتها. فاستسلمت أخيرًا وأغمضت عينيها من جديد.
كانت تتمنى أن يغلبها النوم العميق فتجد الراحة، لكن الألم لم يسمح لها حتى بذلك. وبين أنينها المكبوت، دوّى فجأة صوت الباب يُغلق.
فتحت ألفيريل عينيها المعتمتين بصعوبة.
من الذي دخل الغرفة؟ صحيح… كان باسكال… لكن لا، لا يمكن أن يكون هنا. دار في ذهنها شريط متقطع من أفكار غير مترابطة، وعيناها الضعيفتان تتحركان ببطء.
كانت الغرفة غارقة في الظلام، على ما يبدو أن الليل قد حلّ.
وفجأة توقفت عن التفكير وحدّقت نحو الباب المغلق.
تسلل إلى أذنها لحن بيانو هادئ من مكان بعيد.
كان عزفًا ليليًّا شاعريًّا، يشبه ذلك الذي سمعته عندما وصلت إلى سانت كالوميوم لأول مرة. ورغم أنه بدا كأنه سيزيد من معاناتها في تلك الليلة المؤلمة، إلا أن النغمات جاءت هادئة وعذبة.
كانت أنامل الرجل الخشنة، حين لامست المفاتيح، أكثر رقة من أي شيء في هذا العالم. رمشت ألفيريل ببطء، ثم ما لبثت رموشها أن انخفضت وهمدت أنفاسها شيئًا فشيئًا.
***
استطاعت ألفيريل أن تنهض من فراشها في مساء اليوم التالي.
حين فتحت عينيها، بدا أن كل شيء أصبح أفضل بكثير. نظرت بعينين نصف مغمضتين من أثر النوم إلى الخارج، فرأت العالم غارقًا في الظلام. ثم أنزلت قدميها بحذر على الأرض.
كانت ساقاها ترتجفان، لكنها لم تكن عاجزة عن السير كما كانت بالأمس. يبدو أنها كانت منهكة جدًا حتى إنها لم تشعر بشيء طوال نومها العميق. اختلطت في رأسها ذكريات الحلم والواقع حتى أصابها دوار خفيف.
لفّت البطانية التي كانت تغطيها حول كتفيها كوشاح وبدأت تتحرك ببطء. كانت برودة الليل القارسة، وقد التصق العرق بجسدها، تضاعف إحساسها بالبرد.
فتحت الباب بأقصى ما يمكن من هدوء وألقت نظرة من خلاله إلى الممر. اطمأنت قليلاً حين رأت كل شيء ساكنًا، لكن ذلك لم يدم طويلاً، إذ شحب وجهها فجأة.
تسللت إلى أنفها رائحة احتراق غريبة.
“أهذا بسبب الحمى؟ هل أصابني خلل في حاسة الشم؟” تمتمت في قلق وهي تستنشق بعمق مرات عدة.
لكنها لم تكن تتوهم. كانت هناك رائحة احتراق حقيقية تعبق في أرجاء القصر.
التعليقات لهذا الفصل " 8"