أخذت ألفيريل أدفأ معطف فرو تملكه، وسارت في الطريق ذاته الذي سلكته بالأمس. كان الثلج قد تراكم خارج القصر.
كانت آثار الأقدام مختفية، والثلج عميق إلى درجة أن كاحليها كانا يغوصان فيه في كل خطوة. احتضنت جسدها المرتجف بذراعيها، وشدّت قبضتها على سلة خشبية كانت تحملها.
كانت وجهتها الغابة القريبة من القصر، تلك التي رأت أطرافها من نافذة غرفتها. كانت متأكدة من أنها ستجد هناك بعض أنواع الفطر الشتوي اللذيذ.
قررت أن تؤجل تنظيف القصر الكبير قليلاً، وأن تركز أولًا على إعداد وجبة دافئة كل يوم.
صحيح أن عزمها الأكبر كان على استمالة قلب السيد الشاب، لكن لم تستطع أن تتجاهل صورة تيرينزيو النحيل التي لم تفارق ذهنها.
هي نفسها عانت من الجوع أيامًا كثيرة حين كانت تخطئ في الغناء أو الأداء على المسرح. لذلك حاولت أن تفهم حساسيته قدر المستطاع.
لابد أنه كان يشعر بوحدة شديدة. رؤية شخص جديد بعد غياب طويل لا بد أنها كانت غريبة عليه، ويبدو أنه لم يتناول طعامًا متوازنًا منذ زمن. طبيعي إذن أن يصبح طبعه حادًا.
شاءت أم أبت، فهذا المكان سيكون مأواها لعام كامل آخر. وليس في محاولة كسب محبته ما يضيرها. كانت ألفيريل دومًا تتعامل مع الحياة بهذه الفكرة لتتحمّلها.
كان مدخل الغابة الشتوية مغطى بأغصان شجر التنوب المثقلة بالثلج، واضطرت إلى شق طريق بينها. كان المكان محاطًا بأشجار كثيفة لم تمسّها يد إنسان، فبدا كأنه يخفي سرًّا.
وما إن خطت خطوات قليلة داخلها، حتى وجدت كما توقعت فطرًا صالحًا للأكل ينمو بين الصخور الكبيرة. لم تسمع صوت حيوان بريٍّ واحد، وكانت السكينة تامة.
انحنت ألفيريل على ركبتيها، وأخذت تلتقط الفطر الصالح للأكل بأطراف أصابعها المحمرة من البرد، واحدًا تلو الآخر.
واستغرق ملء السلة حتى صارت ممتلئة بالكامل نصف نهار تقريبًا.
كانت شمس الشتاء الضعيفة تلوّن الثلج بظلٍّ أحمر باهت. احتضنت ألفيريل سلتها التي أثقلت ذراعيها، واستعدت للنزول من المنحدر الزلق.
“آه!”
في تلك اللحظة بالذات فقدت توازنها إثر خطوة خاطئة.
إذ داسَت على حجر مخفيّ تحت الثلج العميق فانزلقت ساقها فورًا. أطلقت صرخة قصيرة وبدأت تتدحرج على المنحدر الحاد.
كانت رؤيتها تتقلب بسرعة مؤلمة، وعبثًا حاولت أن تتشبث بشيء، لكن يديها العاريتين من القفاز زادتا انزلاقها بدلاً من إيقافها.
شعرت برعب لا يُحتمل من أن تصطدم بشيءٍ في أي لحظة. وفي اللحظة التي أغمضت فيها عينيها مستسلمة للقدر، شعرت فجأة بقبضة قوية تمسك بمعصمها وتشدّها.
حدث ذلك بسرعة خاطفة. وبعد بضع ثوان فقط أدركت ألفيريل أنها توقفت عن التدحرج لأن أحدهم أمسك بها.
تساقط الثلج المحيط بها بصوت خافت، وفتحت عينيها.
“سيدي الشاب؟”
نطقت بدهشة كأنها رأت شيئًا لا يُصدق.
كان تيرينزيو هيرون.
أنفه محمرٌّ من البرد، أما بشرته الشاحبة التي لم ترَ الشمس طويلاً فبدت مزرقة في المقابل. كانت رقائق الثلج على رموشه الطويلة وشعره الأحمر القاني تبدو كحبيبات سكر.
يبدو أنه لاحظ أن نصف جسدها السفلي غارقٌ في الثلج، فشدّ يدها التي كان يمسك بها منذ البداية كما يفعل الفلاح حين يقتلع جزرة من الأرض، ليحررها من الثلوج.
كانت ألفيريل مندهشة إلى حد لم تدرك معه كرم تلك اللفتة، فتمتمت متلعثمة:
“ما الذي أتى بك إلى هنا؟”
نظر إليها تيرينزيو دون أن يجيب، ملامحه توحي بالذهول. خجلت ألفيريل من مظهرها، فبادرت إلى ترتيب شعرها المبعثر وتفقد المكان حولها.
لم يكن الطريق الذي سقطت فيه وعرًا كما ظنت أثناء انزلاقها، ولم يكن فيه ما قد يسبب أذى كبير. ربما لو لم يظهر في الوقت المناسب، لكانت شعرت كما لو أنها انزلقت على زلّاجة خشنة لا أكثر.
لكن مقبض سلتها كان قد انكسر قليلاً، والفطر الذي جمعته طوال النهار تناثر هنا وهناك. ضحكت بخجل مصطنع وقالت:
“يا للأسف، لقد تلفت السلة، ماذا عساي أفعل الآن؟”
لم يجبها، بل نظر إلى يديها المتورمتين من البرد. عندها فقط لاحظت خفة لباسه غير المناسبة للتنزه في هذا الطقس، والجراب الكبير الذي كان يحمله.
“أنا…”
نطق أخيرًا، بصوت عميق بدا كأنه على وشك أن يلقي جملة من مسرحية مهيبة. حبست ألفيريل أنفاسها انتظارًا لما سيقول.
“أنا… أنتِ…”
لكن يبدو أن عقله تجمد من البرد، إذ تعثر ولم يستطع إتمام الجملة، بخلاف ما كان عليه بالأمس. انتظرت طويلاً ثم مالت نحوه وسألته:
“هل كنت في طريقك للصيد؟ تبدو وكأنك أحضرت الكثير.”
عندما رأته متجمّد في مكانه، مدّت يدها وسحبت الجراب من يده لتراه بنفسها. كان ثقيلًا كما بدا من حجمه.
ولم تستطع كبح فضولها، فمدّت يدها إلى داخله تتحسس محتواه. بقي تيرينزيو واقفًا بلا حركة.
رفعت حاجبيها عدة مرات وهي تكتشف أشياء لا علاقة بينها.
زجاجة نبيذ، رغيف خبز يابس، قطعة جبن، بعض الأطعمة المختلفة كأنها التُقطت من المخزن، وكيسٌ صغيرٌ بدى أنه يحوي كتاب صغير الحجم أو كتيب قصص مصوّرة.
هل كان ذاهبًا للتبرع بهذه الأشياء لكنيسة قريبة؟
ما إن خطر لها هذا، حتى عبثت بأصابعها بقلقٍ وهي تراقب ملامحه، تخشى أن تكون قد قاطعته دون قصد في أمرٍ مهم، فتزيد من كرهه لها.
ساد الصمت فترة طويلة، حتى بدت الأجواء محرجة. وأخيرًا قالت ما خطر ببالها، وقد أنهكها الوقوف على ساقيها المرتجفتين:
“لقد أنهكني السير… ما رأيك أن نتناول شيئًا من هذا الطعام؟”
لحسن الحظ، لم يعتبر اقتراحها وقاحة. بل على العكس، بسط الكيس على الأرض تحت شجرة مجاورة ليجعل منه بساطًا، وبدأ يزيح الثلج بحذائه.
“سيدي، دعني أفعل ذلك.”
لم تتوقع ألفيريل منه أن يتحرك بنفسه، إذ كانت تظنه من أولئك النبلاء الذين لا يحرّكون أصبعًا. تابعت نظراته بذهول وحذر.
“لا داعي.”
“إذن، هل أجمع بعض الحطب…؟”
“لا حاجة، اجلسي فقط.”
كان صوته باردًا كريح الشتاء. خافت أن تثير غضبه كما حدث بالأمس، فأطبقت شفتيها وجلست بصمت كما أمرها.
جمع تيرينزيو بعض الأغصان الصغيرة، ورتّبها فوق بعضها، وأشعلها بعود ثقاب مخصص للسيجار. نظرت ألفيريل بدهشة إلى مهارته وسألته:
“هل خدمتم في الجيش من قبل؟”
“لا.”
آه، صحيح… إنه مريض. ألقت السؤال دون تفكير، إذ جرت العادة أن أبناء النبلاء غير الشرعيين يلتحقون بالجيش حين يبلغون سنًّا معينة.
خشيت أن تكون قد ضايقته من جديد، فصمتت. جلسا معًا أمام النار الصغيرة المتقدة، دون أن يتبادلا كلمة.
مدّت يديها المرتجفتين إلى الدفء، وشعرت بالراحة وهي تستعيد الإحساس بأصابعها… لكن فجأة أحست بملمس دافئ غريب على بشرتها.
مدّ تيرينزيو يده بهدوء وأمسك بيديها مشابكا أصابعهما كما لو كان أمرًا طبيعيًا. اتسعت عينا ألفيريل من الذهول، فنطق بصوت منخفض ثابت:
“حتى لو كان الأمر مزعجًا، تحمّلي. إن قربتِ يديك أكثر، قد تحترقين بشرارة طائشة.”
بدلاً من ذلك، احتضن يديها كما لو أنه يريد أن يشاركها دفء جسده. أمام تلك اللفتة التي لم تتوقعها أبدًا، بقي فم ألفيريل مفتوحًا من الدهشة لبرهة، ثم قررت أن تتحلى بالشجاعة وتستغل الفرصة لتسأله:
“ألن تخبرني حقًا بما جاء بك إلى هذا المكان؟”
“هل أنا ملزم بأن أقدّم لك تقريرًا عن ذلك؟”
كانت نبرته تخلو من أي لطف، ومع ذلك لم يكن يبدو عليه أي انزعاج أو غضب. تساءلت ألفيريل في نفسها إن كانت تتوهم ذلك، ثم رفعت بصرها إليه وسألته من جديد:
“هل ظننتَ أنني كنت أهرب؟”
“…….”
“لقد بدا أنك تفاجأت. عندما وجدتني قبل قليل، لم تتمكن من الكلام.”
أدار تيرينزيو رأسه نحوها وهو لا يزال ممسكًا بيدها بإحكام، ليقابل نظراتها مباشرة. شعرت ألفيريل بالحرج من تلك النظرة المباشرة، فسارعت إلى تغيير الموضوع في محاولة لتلطيف الجو.
“على أي حال، إن دقّقنا في الأمر، فلم يكن ذلك هروبًا بقدر ما كان طردًا من القصر، أليس كذلك؟”
“لماذا تقولين هذا؟”
“لقد قلتَ لي بالأمس أن أغادر هذا القصر.”
سألها الشاب بنبرة توحي بأنه لا يعرف عمّ تتحدث، فأجابت ألفيريل بتردد:
“لحسن حظي، إن كان ما ظننته صحيحًا، فبدلاً من أن تتبعني بنفسك، كان يمكنك أن تأمر أحد الخدم بتعقبي… آه، صحيح. لا يوجد أحد هنا أصلاً.”
“لا، لا يزال بعض الخدم يقيمون في سانت كالوميوم.”
سرّها سماع إجابته الصادقة أخيرًا، فابتسمت بخفة، ثم زاد سرورها حين استوعبت مضمون كلامه. في تلك الأثناء، كان تيرينزيو يغمس قطعة من الخبز في النبيذ ثم يناولها إليها.
“هذا خبر سارّ. كنت أتساءل كيف يمكنني إدارة هذا القصر الكبير بمفردي.”
ترددت ألفيريل قليلاً، ثم أخذت الخبز منه. بدأ دفء لطيف ينتشر في جسدها شيئًا فشيئًا. عضّت قطعة صغيرة من الخبز المبلول وقالت متابعة:
“اطمئن، يا سيدي. ما دمتَ لا تنوي حقًا طردي، فلن أفكر بالهرب أولاً. فآخر ما أريده هو أن أتعرض للأذى على يد لصوص في الطريق.”
التعليقات لهذا الفصل " 7"