كان متيبسًا كأنه قد لُعن بأن يتحول إلى صخرة طوال حياته. حاولت ألفيريل مرارًا أن تتملص وتصرخ من جديد، لكنها لم تستطع أن تجرؤ على لمس جسد تيرينزيو.
“سيدي! النار، النار! سيدي…”
عندها فقط، بدا وكأنه شعر بحرارة الأرض، فدفع كتفيها اللتين كان يمسك بهما دفعة مفاجئة.
أخيرًا، بعدما تحررت من قبضته القاسية، ترنحت ألفيريل وارتطمت بجدار الردهة.
كانت إيماءة متوترة لكنها غير مؤلمة. تنفست ألفيريل بعمق وهي تحاول أن تستعيد توازنها وقد خيّم عليها دوارٌ خفيف. رفعت رأسها ببطء، لكن عقلها لم يكن قد استوعب الموقف بعد، فكل شيء كان يدور أمام عينيها.
تلك النيران التي بدت قبل لحظات وكأنها ستبتلعها لم تتجاوز في الواقع مستوى ركبتيها.
لكن النار التي تندلع داخل المنزل في الشتاء تكون خطيرة مهما كان حجمها. عضّت ألفيريل على شفتَيها الشاحبتَين وهي تنظر إلى السيد الشاب الذي ظلّ واقفًا بلا حراك بعدما دفعها جانبًا.
كان متصلبًا كمن سُحر أو تملكه طيف. وبينما حاولت ألفيريل أن ترفع صوتها المرتجف وتقترب منه، حدث الأمر فجأة.
“……!”
بخطوات تنمّ عن عادةٍ راسخة من الانضباط، خلع تيرينزيو معطفه وألقاه. غطى القماش السميك النيران الصغيرة، وسُمع بعدها على الفور صوت تفتت الزجاج تحت الأقدام.
حبست ألفيريل أنفاسها وتراجعت خطوة. بدأ دخانٌ خانقٌ يتصاعد من بقايا اللهب التي خمدت سريعًا، وتيرينزيو أخد يلهث بأنفاسٍ متقطعة بعد أن أخمدها.
وفي العتمة التي عادت من جديد، التقت نظراتهما. حاولت ألفيريل أن تتكلم وسط الارتباك، لكن فجأة دوى صوت الباب وهو يُغلق بينهما بعنف، على بعد خطوات قليلة.
واختفى مع ذلك آخر ما تبقى من رماد ودخان.
رمشت في ذهول، وهي تشعر وكأنها استيقظت من كابوسٍ غير واقعي. وفجأة، اخترق جدار الخشب صوتٌ مرتجف، كأنه همهمةٌ خافتة. تساءلت المرأة بدهشة:
“……ماذا؟”
“اخرجي.”
“ماذا؟”
“اخرجي! غادري هذا القصر حالاً!”
وفي اللحظة التالية، جاء من خلفها صوتُ ريح حادة كأنها تشقّ الهواء.
كانت النوافذ ترتجف بصوتٍ عالٍ تحت أنين الطبيعة الباكي، ثم ما لبث أن عمّ السكون. كان ذلك الصخب يشبه ما كانت تشعر به في داخلها. قبضت ألفيريل قبضتها الصغيرة وبدأت تطرق الباب بعنف.
“سيدي، إن أغلقت الباب هكذا، سيتسرب الدخان إلى الداخل، وستختنق.”
“…….”
“أرجوك، أرجوك سيدي، اعفُ عني لمرة واحدة فقط. لقد أخطأت. سامحني.”
كانت نبرتها ثابتة رغم يأسها. غرست أظافرها في جلدها وهي تنتقي كلماتها. لم تكن تعترف بذنوبها بقدر ما كانت تسأل سؤالاً يائسًا.
“لقد كسرتُ الشمعدان…”
ربما لم يكن هذا سوى خطئها الوحيد.
لكن سواء كانت هي المسؤولة أم لا، فلن يغيّر ذلك شيئًا. كانت تعرف جيدًا طباع النبلاء الذين يتساهلون مع أنفسهم ويقسون على غيرهم. ومع ذلك، لم يكن ما حدث أمرًا عاديًا حتى بالنسبة لها.
في الحقيقة، كان كل ما جرى منذ الأمس كذلك. بللت ألفيريل شفتيها بطرف لسانها ونظرت إلى النافذة التي انفتح جزءٌ منها تحت وطأة الرياح. لم يكن الوقت مناسبًا للتفكير في الكبرياء.
“ليس لي مكان أذهب إليه الآن. العربة التي جئت بها عادت من دوني. أرجوك، اسمح لي بالبقاء حتى في المخزن فقط، أطلب منك الرحمة.”
كان القصر الإقطاعي في الشتاء قاسي البرد. وحتى لو مشت ساعة كاملة، فكل ما ستبلغه قد يكون ما يزال من أملاكه.
هل يمكنها أن تصمد ليلة واحدة إن غطت نفسها بكل ما تملك من معاطف وأقمشة؟ بينما كانت تحسب ذلك في ذهنها، صدر صوتٌ خفيف من أمامها. فُتح الباب ببطء، وانبثق من خلاله ظلٌّ ضخمٌ مهيب.
تنفس الرجل بعمق كأنه يريد الاعتراض على شيء، لكن ما خرج من فمه لم يكن سوى صوت مبحوح متكسر.
“اذهبي إلى آخر الغرفة في الجناح الأيسر.”
ولمّا همّت برفع رأسها نحوه، دوى صوت الباب مجددًا وهو يُغلق بإحكام. نظرت ألفيريل إلى الباب المغلق ثم إلى نهاية الممر الأيسر.
كان بعيدًا. تلك أول فكرة خطرت ببالها.
هل كان يفعل ذلك لأنه لا يريد أن يراها بالقرب منه، أو لا يثق بها؟ ضبطت ألفيريل تعبير وجهها بصعوبة، رغم أنها كانت وحدها، أمام وضوح هذا الرفض. لم يكن مفاجئًا، لكنها شعرت به مختلفًا حين اختبرته بنفسها.
“شكرًا لك.”
قالت الكلمة بصوتٍ خافتٍ متعب، ثم غادرت ببطء، مبتعدة عن الباب الصامت.
غمغمت وهي تغمض عينيها من وهج ضوء القمر المنعكس، مطرقة الرأس. ما زالت الرياح تعصف، ومن خلفها كان الباب يهتزّ في الردهة.
على الأقل، لم تُطرد خارج القصر الليلة. لكن غدًا؟ ماذا عن الغد؟ كم يومًا آخر ستقضيه خائفة هكذا؟ أخذت ألفيريل تسير وهي تغوص في أفكارها.
هل كان سيتغير شيء لو أنها أمسكت بالشمعدان بإحكام أكبر؟ لا، الأهم من ذلك—لماذا؟
لماذا نظر إليها بذلك الوجه؟ لماذا بدا وكأن روحه قد استُبدلت بروح أخرى؟ لم تفهم.
وتذكرت عزفه في النهار.
ذلك العزف لم يكن مما يمكن أن يصدر عن شخص مثله.
أن يكون عازف بيانو بقدرة تهزّ أرواح مستمعيه، ومع ذلك يرفض التواصل مع الناس—يا له من تناقض.
فتحت ألفيريل متاعها في الغرفة التي سمح لها بها الرجل. لم يكن لديها ما تُخرجُه فعلاً، لكنها فعلت على أي حال، ثم اندست داخل اللحاف السميك. لم تعرف إن كانت تشعر بالراحة أو بالقلق.
لكنها كانت متأكدة من أمرٍ واحد: أنها لن تستطيع النوم بسهولة.
في ظلمة السقف، خُيّل إليها وجه باسكال الخشن يطفو ويختفي. شعرت أن صوتَه الأخير الذي سمعته قبل مغادرتها القصر لن يُمحى من ذاكرتها ما حييت.
‘باسكال مولر.’
“……”
“كال، استيقظ قليلاً، أرجوك، لن آخذ من وقتك إلا لحظات.”
عادت إلى ذاكرتها لحظةُ الفجر قبل رحيلها، حين تسللت إلى الإسطبل الذي كان أفراد أسرته يُقيمون فيه.
“……ألفيريل؟”
كان صوته مشوبًا بالنعاس، وفيه حنانٌ لم تعهده منه من قبل. ومع ذلك، وضعت إصبعها على شفتيه قائلة: “هشش”. اهتزّت عيناه خلف ملامحه القاسية.
“ليس لدينا وقت. عدني أنك لن تصرخ، عندها سأُبعد يدي.”
أومأ باسكال ببطء، فرفعت إصبعها عن فمه، وتنفسا معًا بعمق.
“سأرحل.”
“ماذا؟”
ارتفع صوته رغم الوعد الذي قطعه. “كال!” تمتمت ألفيريل بحدة، فخفض صوته قليلاً، لكنه لم يخفِ قلقه:
“هل جننتِ؟ أتهربين؟ لن يمضي أسبوع حتى تقعي في يد لصوصٍ أو قطاع طرق!”
توقف فجأة، كأنه تذكر شيئًا يؤلمه. فهمت ألفيريل السبب وابتلعت ابتسامة مرة؛ لا بد أنه تذكّر والدها الذي قُتل أثناء محاولته الهرب.
“لم أفكر يومًا في الفرار يا كال. لقد تلقيت أمرًا من السيد.”
“…….”
“هل سمعتَ بسانت كالوميوم في الغرب؟ هناك يعيش عازف البيانو العبقري تيرينزيو هيرون. أرسلني السيد إليه لأعتني بأخيه الأصغر. ربما أعمل خادمة بين خدم القصر.”
سألها باسكال بصوت مرتجف متوسل:
“أتمزحين؟”
هزت ألفيريل رأسها نفيًا. تمتم باسكال بمرارة كأن اللعنة تسقط من فمه. “ولكم من الوقت؟”
“عامٌ واحد.”
وحين سمع الرقم، أطلق شتيمة مكتومة تسللت إلى أذنيها.
ثم سمعت صهيل حصان من بعيد. خشيت أن ينزعج السائق المجهول من تأخرها، فنهضت مسرعة تجمع أطراف ثوبها المرفوع.
“جئت لأودعك. اعتن بنفسك في غيابي، وإن استطعت، فاكتب لي…”
لكن باسكال وثب من مكانه وسط القشّ وضمّها إلى صدره.
تصلّبت ألفيريل في البداية، ثم أحست بحرارة أنفاسه تلامس عنقها العاري، فرفعت يدها ومسحت على ظهره العريض. كان فراقًا مبللاً بدموع شخص واحد.
ذلك الدفء الذي ظلّ عالقًا في ذاكرتها جعل صوتَ السيد ليوبولد البارد يبدو وكأنه يغرق في مكان بعيد من جسدها. وفجأة، اشتاقت إلى وجه والديها اللذين لم تعرفهما قط. حرّكت الغطاء بتوتر.
لم يكن الفراش الغريب غير مريح كما ظنت، بل بدا أكثر دفئًا وطمأنينة من الغرفة التي كانت تسكنها في قصر الدوق. وحده قلبها هو الذي لم يجد راحته.
وكلما حاولت إغماض عينيها، كان القلق اللجوج يتسلل إليها من جديد. لذلك لم تحاول طرد أفكارها، بل استسلمت لها. وهكذا، لم تُطبق جفونها أخيرًا إلا حين بدأت شمس الصباح الزرقاء تشرق من بعيد.
***
حين فتحت جفنيها المثقلين، كان أول ما رأته الشمسُ اللامعة على قمة التل. نهضت ببطء وتقدمت نحو النافذة.
تذكرت أن لا أحد بعد الآن سيجلب لها ماء الغسل، فسرّحت شعرها المبعثر على عجل.
كانت الغرفة واسعة أكثر مما تستحقه خادمة، لكنها توقفت لحظة تتأملها. الغبار الذي لم تمسحه بالأمس تراكم في الزوايا.
تنهدت وهي تتفقد القصر العتيق الذي ما زال يحتاج إلى الكثير من التنظيف رغم أن نصف يومٍ مضى في ترتيبه. حفظت في ذهنها الأماكن التي تحتاج إلى عناية خاصة، ثم تابعت خطواتها.
إذا لم يرضَ العازف عنها، فلا حيلة لها.
بعد نوم قصير، أحست وكأن كل أفكارها المعقدة قد انجرفت بعيدًا. عرفت أخيرًا ما عليها فعله هذا اليوم. تمتمت بصوت خافت لا يسمعه سواها:
التعليقات لهذا الفصل " 6"