5
“كونت بالزاك، أم مركيز فلوبير؟ كنت أظن أن هذا المزعج لن يعود للتطفل من جديد.”
“لو أنك تعترفين بكل صراحة، لتركتك تذهبين من دون ألم.”
ارتجفت يدها التي تمسك بالصينية، وكان من المعجزة أنها لم تسقطها.
شعرت بوضوح ببرودة فوهة المسدس الموجهة إلى بشرتها النقية.
“أوه…”
“تكلّمي.”
تماسكت ألفيريل بالكاد كي لا تفقد وعيها.
لو كان جادًّا في قتلها كما تشهد سمعته حول عنفه، لكان ضغط على الزناد منذ زمن.
حاولت أن تضبط صوتها المرتجف قائلة:
“أرجوك دعني. لست قاتلة مأجورة ولا لصّة.”
“حقًّا؟”
ردّ الرجل بنبرة باردة كبرودة فوهة المسدس التي تقترب منها، كأنما يسخر من دفاعها البائس.
كانت ألفيريل تتلوى في مكانها محاولة تثبيت قدميها المتخاذلتين، فلم ترد أن تبدو كمن يتكئ على صدر الرجل الذي يهمّ بقتلها.
“الدوق ليوبولد… هو من أرسلني إليك. أقسم بذلك.”
ساد الصمت لحظة طويلة.
بللت شفتيها الجافتين بينما بدا أن الزمن يتباطأ مع كل ذوبان لقطرة من الشمع.
“هل لديك ما يثبت ذلك؟”
“في الجيب الأيمن من معطفي. هناك رسالة طلب مني إيصالها إليك.”
تراخت وضعيته التي كانت تحاصرها من الخلف، لكن فوهة المسدس عادت لتضغط على مؤخرة رأسها، فيما غاصت يده الخشنة داخل معطفها تبحث عن الرسالة.
تسارعت أنفاسها.
كانت لمسات يده باردة، لكنها لم تكن فاحشة،
بل أشبه بتفتيش حذر يتأكد من خلوها من سلاح.
ثم أخرج أخيرًا ظرفًا أبيض ناصع من جيبها.
أشعل عود ثقاب بصوت طفيف، ونقل اللهب إلى شمعة على الطاولة.
تراقصت الشعلة الخافتة في العتمة، فأظهرت ختم عائلة هيرون المنقوش على شمع أحمر بصورة فهد.
كان صوت تمزيق الختم بالنسبة إليها أجمل موسيقى سمعتها تلك الليلة.
ورق يتقلب بخفة، ثم صمت.
لم تكن تعرف ما في الرسالة التي تحملها، فاستحال الانتظار عليها من القلق.
ثم فجأة، خفّت قبضته عنها.
تدثرت بذراعيها المرتعشتين والتفتت إلى الوراء.
تيرينزيو، وكأنه أدرك خوفها، تراجع خطوة إلى الخلف وقطّب حاجبيه.
“اللعنة، لو أنكِ قلتِ منذ البداية إنك تحملين رسالة، لكنت تجنبت هذا الموقف. هل تتوقعين مني ألا أرتاب بامرأة تتسلل إلى قصر مظلم كقطة سارقة؟”
عضّت ألفيريل باطن فمها كي تخفي ارتباكها وهي تراه من جديد، لكن جسدها ظلّ يرتعش،
فمدّ يده وعبث بشعره بعصبية خفيفة، كأنه يحاول صرف التوتر عن كليهما.
“لم تتح لي فرصة الكلام. أعتذر…”
“ضعي الصينية واجلسي.”
قطع كلامها بإشارة من رأسه، وقد لاحظ بخاره المتصاعد من تحت ذقنها وارتجاف أصابعها.
تحسست بعناية الظلام من حولها حتى بلغت الطاولة، ثم وضعت الصينية عليها.
كان الرجل أمامها أشبه بوحش بريّ مروّض نصف ترويض، تنبعث منه رهبةٌ لا تُخطئها الحواس.
“لكن…”
قالها فجأة، كأنه يخترق الهواء بكلماته.
كانت نبرة الشك في صوته كافية لتجمّد حركتها.
تأملها بنظره البارد وقد ألف العتمة، بينما ظلت واقفة، لم تجرؤ على لمس الكرسي.
“ألسنا قد التقينا من قبل؟”
كان صوته واهنًا، أقرب إلى همسٍ مع نفسه.
تصلبت شفتاها قبل أن تتحركا بالكاد.
لولا أنه هو من قالها، لبدت جملة مغازلة رخيصة.
تذكرت الشائعات التي تلاحقه حول النساء،
وأجابت بحذر كمن يروض وحشًا بلا قيد:
“ربما تتذكرني من نصف يومٍ فقط، سيدي.
قبل ذلك، أعذرني، لم أتشرف برؤيتك.”
“نصف يوم؟”
رفع حاجبيه متفاجئًا.
لم يفهم ما تقول، فأعادت شرحها، وقد بدا على وجهها حرجٌ أشدّ من ذي قبل.
“ألا تذكر؟ لقد عزفتَ مقطوعة نوكتورن لسيلفستر، ووجهت إليّ سؤالًا بعد انتهائك.
ثم… سقطت فجأة مغشيًّا عليك، فـ…”
“ذلك كان حلم.”
“ماذا؟”
“حلمٌ بثلاث كؤوس من الويسكي الرخيص…”
تمتم بكلمات غامضة لا تُفهم، وكان وجهه مزيجًا من شحوب وجنون.
ارتعدت ألفيريل، فقد علمت أن عزلته بدأت قبل ثلاث سنوات، ومنذها وهو يعيش في هذا القصر الموحش بلا خدم ولا بشر.
أفليس الجنون نتيجة طبيعية لذلك؟
شعرت بثقل المهمة التي أُنيطت بها أكثر من أي وقتٍ مضى.
كتمت انزعاجها وأكملت:
“لم يكن حلمًا، يا سيدي. كان واقعًا تمامًا. ولهذا أنا…”
رمقت مسدسه بطرف عينها.
تنهد بعصبية ومسح شعره بيده، ثم وضع السلاح على الطاولة.
“ولهذا…”
“اللعنة… بماذا كان يفكر ذاك الرجل حين أرسلك إليّ؟”
قالها وهو يلتقط زجاجة خمر أخرى من مكان لا تدريه.
حدقت به في ذهول.
“لِمَ… تشرب الآن؟”
“ربما تعود إليّ الذاكرة التي تبحثين عنها إذا ثملت ثانيةً.”
حين رفع الزجاجة إلى فمه، استسلمت ألفيريل تمامًا لفكرة أن الرجل الذي ستخدمه
سكيرٌ غريب الأطوار، ذو مزاج متقلب وعقل مهترئ.
قررت أن تنهي هذه المعاناة لكليهما، فأخذت الصينية التي وضعتها سابقًا لتستعد للمغادرة.
كان واضحًا أنه لا نية له في الأكل.
ستعود غدًا حين يصحو من سُكره؛ ربما يكون الحال أفضل.
وبينما كانت تجمع الأواني، جاء صوته أكثر ليونة هذه المرة:
“لابد أن العثور على أوان سليمة في هذا المكان لم يكن سهلاً.”
“بما أنك ذكرت ذلك، أودّ أن أسأل:
أين الخدم؟ القصر كله فوضى، ولا أثر لأي بشري”
سألته بنبرة حذرة وهي تراقب رد فعله.
فكر لحظة ثم أجاب ببرود ساخر يختبئ خلف صوت عميق آسر:
“قبل عامين، طردتهم جميعًا.
تلك الخادمة الساذجة من الريف حاولت تسميمي، أما الخادم الذي جاء متملقًا باسم الإخلاص لعائلة هيرون، فدخل غرفتي ليلاً ممسكًا بخنجر.”
قالها كما لو كان يروي أمرًا عاديًّا تمامًا.
كان هو الابن غير الشرعي لعائلة هيرون،
يعيش في قصر بعيد عن العاصمة، فريسة مثالية لألعاب السياسة.
والآن فقط أدركت ألفيريل سبب حذره الشديد وتوجسه المستمر.
توقفت عن جمع الأواني لحظة، عابسة بخفة.
كان غريبًا أنه حريصٌ إلى هذا الحد على الابتعاد عن الناس، بينما يهمل صحته بلا مبالاة.
“حتى دون ذلك، عندما أؤلف الموسيقى، أفضل الوحدة. ضجيج البشر يفسد الألحان.”
“لو أخبرت الدوق، لاتخذ إجراءً ما. إنه يقلق عليك كثيرًا يا سيدي الشاب، حتى إنه أرسلني بنفسه للاطمئنان عليك.”
ربما كان ضوء القمر المنعكس على شعره الأحمر هو السبب، لكنها وجدت نفسها تقول كلامًا لا تفهمه هي ذاتها، ثم ارتبكت وسكتت فجأة.
“ما الذي قلتِه الآن؟”
انبعثت منه ضحكةٌ قصيرة وهو جالسٌ على الكرسي بإهمال.
أغمضت عينيها واعتذرت بأدب جمّ:
“أعتذر إن تجاوزت حدودي. قلت ذلك لأنني ظننت أنكما قطعتم الاتصال منذ زمن.”
“ليس ذلك… ماذا ناديتِني قبل قليل؟”
“السيد… الشاب؟”
رفع نظره إليها، مبتسمًا دون أن يخفي اتساع شفتيه.
كانت ابتسامة لا تشبه قسوته السابقة، ولا تتفق مع الرجل الذي كاد يطلق النار عليها قبل دقائق.
بالفعل، لم يكن صغيرًا كما يُفترض بـ شاب نبيل، ولم يكن لقب السيد الشاب يليق به البتة.
شعرت ألفيريل بأن عينيها التقتا عينيه وسط الظلام الدامس.
“…سيدي العازف؟”
“حتى بعد قدومك إلى هنا، لم تسمعي اسمي بعد؟”
“أمثالي من الأقنان لا يجرؤون على التلفظ باسم السيد الشاب.”
كان واضحًا أنه ثمل.
في نبرته مزيج من الألفة الوقحة والحدة الجافة جعل ألفيريل تبحث في ذاكرتها بارتباك.
هل يعرف من تكون لذلك يتصرف بهذه الطريقة؟ لم تكن واثقة.
ثم تذكرت فجأة أنها لم تقدم نفسها قط، ولا حتى ذكرت أصلها الاجتماعي.
أرسلت نظرة جانبية نحو الرسالة الموضوعة على المقعد في الركن.
التقط تيرينزيو تلك النظرة بعينيه الحادتين،
ودفع الرسالة المجعدة نصفها نحوها، في إيماءةٍ تعني: يمكنك قراءتها.
ترددت ألفيريل قليلًا؛ فهي تعرف أن لمس متعلقات السيد دون إذن يُعد وقاحة بالغة،
لكن فضولها تغلّب عليها في النهاية.
تناولت الرسالة، وقرأت سطورها القليلة مستعينة بضوء القمر الخافت المتسلل من النافذة.
“إلى ثيو، كيف حالك؟
هذه الفتاة ستعتني بك لبعض الوقت.”
انتهى الأمر عند هذا الحد.
لم تصدق ألفيريل أن ثلاث جمل قصيرة كانت كل ما في الرسالة، فقلبت الورقة.
لكن كما توقعت، كان ظهرها أبيض ناصع.
تسلل صوت الرجل ساخرًا خلف ملامح وجهها المذهول:
“يبدو أنك ارتكبت خطأً لا يُستهان به حتى يطردك شقيقي الأكبر على هذا النحو.”
“أعتذر، لكن ليس الأمر كما تظن.”
كانت ألفيريل مترددة، تزن كلماتها بحذر حتى لا تثير مزاج سيدها الثمل.
لم يخطر ببالها أي مآل جيد لو أغضبته.
“لا بأس، دعي الحديث للغد. لا بد أنك مرهقة من السفر الطويل. يمكنك الانصراف.”
لحسن الحظ، أنهى الكلام من تلقاء نفسه وهو يلتقط الزجاجة من جديد.
بل إنه سمح لها بالبقاء في القصر، اطمأنت ألفيريل إلى أنها لن تُطرد هذه الليلة على الأقل، ورفعت الصينيّة.
لكن سرعان ما أدركت أنها أمام مشكلة جديدة.
لم يكن لديها شجاعة كافية للنزول عبر الدرج الحاد في ظلامٍ دامس، ولا شمعة واحدة تُضيء لها الطريق بعد أن انطفأت أنوار الغروب كليًّا.
نظرت إلى الشمعدان الفارغ بجوار اللهب الصغير على الطاولة، عضّت شفتها ثم تمتمت بخفوت:
“أعذرني يا سيدي، هل لي أن أستعير شمعدانًا؟”
رفع تيرينزيو رأسه قليلاً وأومأ بلا مبالاة.
اقتربت بخطوات حذرة لتنقل اللهب من الشمعة إلى أخرى، فيما اكتفى هو برشف شرابه دون أن يعبأ بحركتها.
أو بالأحرى، بدا كأنه فقد اهتمامه بها تمامًا.
عيناه الفاترتان تحدقان في البعيد، كأن وجودها لا يعني شيئًا أكثر من غبارٍ عابر.
ذلك التجاهل، مع مرور كل لحظة زاد طمأنينة ألفيريل، وبينما كانت تنقل اللهب من شمعة لأخرى،خفت خفقان قلبها المتسارع تدريجيًّا.
كانت تخشى أن تنسكب عليها قطرات الشمع الساخن، فتصلبت أناملها وهي تركز في نقل النار بعناية.
انعكس على وجهها الصغير المتوتر نورٌ دافئٌ متراقص.
وحين أنهت إشعال أربع شمعات من أصل ست،
ألقت نظرة سريعة على الغرفة التي أضاءت قليلًا، رافعة الصينية بيد واحدة.
ظل وجه الرجل جانبيًّا، مهيبًا حتى في لا مبالاته.
ترددت لحظة بين البقاء والانسحاب، ثم قالت بهدوء:
“شكرًا لك، يا سيدي الشاب. ليلة سعيدة.”
رفع تيرينزيو رأسه نحو صوتها، وفي لحظة قصيرة تلاقت نظراتهما.
كان الأمر طبيعيًّا، عابرًا…
حتى لاحظت عينيه.
كان لونهما كلون الضباب — رماديًّا مخضرًّا، قويًّا وغامضًا في آن.
انخفضت حاجباه الكثيفتان قليلاً، ثم تقاربتا، قبل أن تتجمدا فجأة.
لم تدرك مغزى تعبيره حتى التفتت نحو الباب لتغادر.
دوّى صوت ارتطام عنيف — كوووم!
وعاد كل شيء إلى ظلام دامس.
لم تفهم ألفيريل ما حدث في اللحظة الأولى.
تبع الارتطام صوت مدوٍ لتحطم معدن،
ثم أدركت أنها أسقطت الشمعدان من يدها.
في الوقت نفسه، قبضت يد الرجل القوية على كتفها.
دُفعت فجأة إلى الردهة خارج الغرفة،
واتسعت عيناها محاولة استيعاب الموقف.
لمعت في ذاكرتها صورة تيرينزيو وهو ينهض من مقعده قرب النافذة، قبل أن يندفع نحوها بخطوات واسعة وعنيفة.
قَبض عليها، فارتدت إلى الوراء.
تراجعت بخوف وهو يتبعها، بخطى سريعة وغير عقلانية.
لماذا؟
لم يدم السؤال طويلاً.
من تحت قدميها المفروشتين برخام بارد تصاعدت حرارةٌ مفاجئة.
كانت النيران تشتعل من الزيت المتساقط من المصباح المكسور، والريح القادمة من النافذة تؤججها في اتجاههما.
عبثًا حاولت التحرر من قبضته، لكنها شعرت كأنها محبوسة داخل صخرة ثقيلة.
كان وجهه غارقًا في الظلال، لا يُرى إلا ملامحه القاتمة، فارتعدت وهي تصرخ بصوت مرتعش:
“يا… يا سيدي!”
“…”
“سيدي الشاب!”
كان عليها أن تسأله: “هل أنت بخير؟”
لكن الكلمات علقت في حلقها، واستبدلها سعالٌ حادٌّ وهي تحاول طرد الدخان من صدرها.
وحين انقشع الضباب عن عينيها، لمم ترَ مشهد حريق هائل كما ظنت، ولا متسللا أضرم النار في القصر، ولا سيدًا مريضًا يحترق داخل الغرفة…
بل كان المشهد أمامها ببساطة مذهلة:
“آه، استيقظتِ أخيرًا؟”
تيرينزيو نفسه، يمسك قدرًا احترق قاعه بالكامل، يتصاعد منه دخانٌ كثيف، وهو يحدق إليها بوجه عابس بين الغضب والارتباك.
Chapters
Comments
- 5 - الشمعدان المكسور منذ 6 ساعات
- 4 - عازف البيانو المنكوب منذ يوم واحد
- 3 - السوناتا الليلية تصدح في منتصف النهار منذ يوم واحد
- 2 - عرض الزواج 2025-11-06
- 1 - طائر الدوق الأليف 2025-10-29
التعليقات لهذا الفصل " 5"