2
أقسم بأن لا داعي لأن تخافي. لديّ خطيبة، ولا نية لي في لمسك.
ارتجفت ألفيريل ورفعت رأسها. كان النبيل ذو الشعر الأحمر، الذي ارتدى بذلة رسمية أنيقة، قد غادر الرواق بخطوات واسعة تناسب طول ساقيه الطويلتين.
من الواضح أنّه فعل ذلك لئلا يضطر حتى إلى سماع جوابها. أخذت ألفيريل تتنفس بعنف بعد أن كانت تحبس أنفاسها طوال الوقت. دَنغ، دَنغ… بدأت الأجراس تعلن حلول منتصف الليل.
كان ذلك إشارة إلى أنّ وقت عودة المشيّعين قد حان. هي أيضًا، بصفتها واحدة من وجوه أسرة هيرون، كان عليها أن تُسرع إلى الباب لتوديعهم. لم يُمنَح لها حتى الوقت لتهدئة قلبها المضطرب.
لا نية لي في لمسك.
تصديق تلك الكلمات والاطمئنان إليها، كان تصرفًا أحمقًا. فهي ليست سوى خادمة، بينما هو وريث أسرة هيرون العريقة. حتى لو زار غرفتها وفعل بها ما يشاء، لم يكن لها الحق في الاعتراض.
فكرت ألفيريل بذلك وهي تُصافح من يمدّ لها يده في قاعة الاستقبال. بعض النبلاء كانوا يرمقونها بنظرات مريبة، ويضغطون على يدها أكثر من اللازم، أو يقتربون من جسدها عمداً.
ربما لم يكن بوسعها أن تتفادى ذلك في النهاية. تلك الفساتين الباهظة، والحُليّ، وتكاليف الزينة، ودروس الموسيقى، والإتيكيت، وفن المحادثة… مبالغ فلكية صُرفت من أجلها وحدها.
على عكس الدوق الراحل الذي كان ذا ذوق فني رفيع، لم يكن السيد ليوبولد يجد في تلك الأمور أي متعة. بالنسبة إليه، كل تلك الكماليات التي تبقي حياته على حالها ما هي إلا تبذير لا طائل منه.
***
لم تتمكن ألفيريل من العودة إلى غرفتها إلا بعد ساعة كاملة. كانت تقع في نهاية الممر، باردة في الشتاء، خانقة في الصيف، ومع ذلك فوجودها في مثل هذا المكان كان ترفًا كبيرًا بالنسبة لخادمة.
خلعت فورًا الفستان الذي كان يخنقها طوال المساء. غسلت وجهها بالماء البارد الموضوع دائمًا في زاوية الجدار، ومسحت المكياج الزاهي عن عينيها، لتكشف عن ملامحها الصافية.
استندت إلى حائط السرير لترتاح قليلاً، فسمعت دقات الأجراس الأخيرة لذلك اليوم تتلاشى في الأفق. كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية فجرًا.
هل أذهب فعلا؟ … لا بد أن أذهب.
لم يكن هناك خيار اسمه العصيان. رفعت ألفيريل جسدها المستسلم، وتوجهت نحو الخزانة لتأخذ رداء نوم خفيف، ثم وضعت فوقه معطفا سميكا كدرع واقٍ.
فتحت باب غرفتها القديم الذي أطلق صريرًا خافتًا. وبعد أن تأكدت مرارًا من خلوّ الممر من الناس، صعدت السلالم المؤدية إلى الطابق العلوي، حيث تقع أعلى غرفة في القصر.
ماذا يريد مني؟
ما الذي يمكن أن يطلبه رجل يملك العالم كله من امرأة وضيعة؟
رفعت طرف معطفها ونظرت إلى ما تحتها بخزي. امرأة قذرة! كأنها سمعت صراخ زميلاتها ينعتنها بذلك. أخذ لون شفتيها الوردي يتلاشى تدريجيًا.
طَرق، طَرق…
دقات متزنة ومنتظمة أصابت باب غرفة السيد ليوبولد. تساءلت إن كان سيغضب لأنها جاءت في هذا الوقت تحديدًا، لا قبله ولا بعده. لكنّ قلقها تلاشى سريعًا، إذ فُتح الباب في اللحظة التالية.
كانت تلك الغرفة لا يُسمح بالدخول إليها إلا لقلة من الخدم والوصيّ. غرفة ليوبولد كانت أكثر الأماكن خصوصية وسرية في قصر أسرة هيرون الذي لم يكن يمتلك سيّدة.
قال بصوت هادئ:
“جئتِ؟”
بدأت عيناه الزرقاوتان تتفحّصانها بهدوء. المثير للدهشة أنّ الغرفة من الداخل بدت عادية تمامًا، خالية من الزخارف. كانت فسيحة، لكنها لم تكن دافئة أو مريحة.
بدت كأنها تخلو من أي أثرٍ للحياة البشرية، حتى الأرض الباردة تحت قدميها كانت توحي بالجمود.
دخلت ألفيريل مترددة، ثم سمعت صوت الباب يُغلق بإحكام خلفها. ارتجفت واستدارت، فرفع السيد ليوبولد يديه مهدئًا ليطمئنها.
“لو علم أحد بلقائنا هذا، فسيكون الأمر مزعجًا، أليس كذلك؟ اجلسي هناك.”
“لكن كيف لي أن أجلس بينما أنت واقف، سيدي؟”
“ألفيريل.”
“اجلسي.”
صوته، كعادته، خرج مستقيمًا وواثقًا. ارتبكت ألفيريل قليلًا من هيبته، ثم جلست بتردد على الكرسي خلف الطاولة.
وبالرغم من توتر الموقف، كان الكرسي الفاخر يمنحها شعورًا غير متوقع بالراحة. نظر إليها ليوبولد وهو يبتسم بخفة، متأملاً المعطف السميك الذي ارتدته فوق ثيابها.
“لقد غطّيتِ نفسكِ بإحكام.”
“آه…”
“لا أوبّخكِ على ذلك، بل أشكركِ. يبدو أنكِ تساعدينني على ألا أقع في إغواءٍ آثم.”
إغواء آثم؟
إذًا فالأمر الذي كانت تخشاه لن يحدث؟
غير أنّ نظرات ليوبولد ابتعدت عن وجهها المفعم بالأمل. استند إلى الحائط محاولاً الحفاظ على مسافة فاصلة بينهما. حاولت ألفيريل أن تتجنب النظر إلى الغرفة الخالية بشكل غريب، ولعقت شفتيها الجافتين.
ساد صمت ثقيل، يزعجها وحدها. وما إن شعرت بقليل من الارتياح لكونه لا يقترب، حتى فتح ليوبولد حديثًا غريبًا للغاية.
“كما تعلمين، لديّ شقيق.”
اهتزّت عينا ألفيريل الهادئتان للحظة. فالكلمات التي تفوّه بها الآن، هي سرّ يعرفه الجميع لكن يُفترض ألا يذكره أحد. كان ذلك السرّ لا يخص الدوق الراحل وحده، بل المملكة بأسرها.
كان ذلك في أبريل عام 789.
حينها كانت الملكة ألكسندرا مورغنشتاين ترغب في تزويج الدوق الراحل، الشابّ الجادّ في نظرها، من أصغر بناتها، الأميرة إرني مورغنشتاين.
ولأن الدوق لم يستطع رفض رغبة الملكة، تزوجا بعد لقائين فقط، في زواجٍ سياسي بحت. لكنّ زواجهما الذي تم وسط بركات المملكة كلها، انتهى بفشلٍ ذريع.
فالأميرة المدللة، التي لم تعرف شيئًا عن الحياة، لم تستطع التأقلم مع أجواء بيت الدوق الجافة، بينما لم تكن لدى الدوق نيّة في تدليلها منذ البداية، فبدأ يقضي وقته خارج المنزل.
كان الاثنان أسوأ شريكين يمكن جمعهما معًا. وحتى بعد أن حملت الأميرة بوريثه المنتظر، لم يتحسن الوضع.
وفي اليوم الذي وُلد فيه ابنه الشرعي، حدث ما صدم الجميع: فقد جثا الدوق عند قدمي زوجته، وأقرّ بأنه أنجب ولدًا من امرأة أخرى.
لم يكن امتلاك عشيقة أمرًا مستغربًا بين النبلاء، لكن الدوق تجاوز الحدود. إذ أعلن أنه يحب تلك الأجنبية المجهولة بصدق، بل وصرّح بنيّته أن يمنح ابنها لقبًا ونسبًا.
لم تستطع الأميرة المتكبّرة احتمال تلك الصدمة بعد آلام الولادة، فأغمضت عينيها إلى الأبد بعد شهر واحد فقط.
“أندم على لقائك.”
بهذه الجملة القصيرة أنهت حياتها. عندها فقط أدرك الدوق خطأه. بعد ذلك، صبّ كل مشاعره في تربية ابنه منها، ذلك الذي يقف الآن أمام ألفيريل — ليوبولد.
أنشأ الجمعيات الخيرية والحفلات والمسرحيات تخليدًا لذكرى زوجته الراحلة، وأرسل الابن غير الشرعي، الذي وُلد بعد عام، إلى قصرٍ بعيد في ضواحي الغرب تحت رعاية مربية.
وهكذا انتهت القصة المعروفة للجميع عن مأساة الدوق والأميرة.
كانت مأساة الدوق والأميرة، لا أكثر.
لكن ما جعل القصة أكثر إثارةً هو ما دار من شائعات حول ذلك الابن غير الشرعي الذي لم يهتم به أحد. فالحقيقة أنّ الدوق لم يندم طويلاً كما ظنّ الناس.
فلم يمض وقتٌ طويل حتى عاد ليتخذ لنفسه عددًا من العشيقات سرًا، ولم يُخفِ إعجابه بجمال ألفيريل الصغيرة وموهبتها المتفتحة. فمن الواضح أنه لم يكن رجلاً يحتفظ بالوفاء أو الرومانسية في قلبه.
أما الابن المهمل، ابن الأميرة الراحلة، فقد طغى عليه شهرةُ أخيه غير الشرعي. لم يعش في الخفاء كابن غير شرعي لفلاحة، بل اشتهر اسمه في أرجاء القارة كلها.
إنه تيرينزيو هيرون، العبقري التعيس. كان أشهر عازف بيانو لا في المملكة فحسب، بل في القارة بأسرها.
حتى الملك، الذي أعلن صراحةً أنه لا يهوى الموسيقى، كان يزور قصر الرجل في الضواحي ليستمع إلى عزفه.
كل القصص التي دارت حوله كانت تُروى لا كحكايات فنان، بل كحكايات قديس:
قيل إنّ الابن الكفيف لأحد النبلاء استعاد بصره حين سمع افتتاحيته، وإنّ أميرةً من دولة مجاورة تركت بيتها لأجل حبٍّ آثم، فهداها عزفه إلى طريق الصواب.
شائعات مبالغٌ فيها إلى حدٍّ سخيف، لكنها وجدت من يصدقها.
كان سببُ معرفة ألفيريل بهذه القصة هو أنّها هي أيضًا قد أولت اهتمامًا عابرًا لتلك الشائعات من قبل.
فهي تعيش حياة قريبة من عالم الموسيقى، لذا كان من الصعب عليها أن تتجاهل مثل هذا الإطراء غير المسبوق.
ثمّ فجأة خطر ببال ألفيريل فرضيّةٌ منطقية للغاية، لكنها بدت مستحيلة في الوقت نفسه.
كانت تخمينًا للسبب الذي جعل ليوبولد يسألها قبل قليل في الممرّ عن مهارتها في عزف البيانو.
“من المؤسف أنّه لم يتمكّن من حضور حفل التأبين الليلة، لكن ثيو…”
قالها وكأنه يطرق مسمارًا حادًّا في مكان ما: “أخي الصغير.”
ابتسم ليوبولد برفق حين لاحظ الاضطراب في عيني ألفيريل.
“صحيح أنّ لديه جانبًا غريبًا بعض الشيء، لكنه شابٌّ طيب.”
ارتسمت على وجه ألفيريل ملامحُ تضييق طفيفة بين حاجبيها عندما سمعت اللقب الودّي الصادر منه.
غريبٌ بعض الشيء؟! تيرينزيو هيرون كان مشهورًا بعبقريّته الهائلة بقدر ما كان مشهورًا بطباعه المتقلّبة والمتهوّرة.
فمنذ أن بلغ الثامنة عشرة، اختفى لقب العبقريّ التعيس بهدوء، وحلّ محلّه لقب الابن العاقّ المتغطرس.
القصة الأشهر عنه كانت عندما حضر ذات يومٍ حفلاً ملكيًا وهو ثملٌ تمامًا، فعزف على الفور مقطوعة مهداة إلى الملك.
لكنّ الذين حاولوا انتقاد وقاحته لم يتمكّنوا من العثور على أيّ خطأ في عزفه، فازدادت سمعته سوءًا.
حتى ألفيريل نفسها، تتذكّر أنّها صادفته مرة من بعيد أثناء جولة أوبرا كانت تشارك فيها.
كانت تجلس في صفّ الانتظار البعيد، بحيث لا يمكنها حتى رؤية وجهه بوضوح، ناهيك عن التحدث إليه أو سماع عزفه مباشرة.
كانت تنتظر بروح متحمّسة أن تسمع تدريبه في قاعة شبه خالية، لكن لم تمض سوى بضع ثوان حتى رأته—وقد ثار غضبًا لأنّ صوت الضبط لم يعجبه—يحطّم البيانو السليم بكرسيّ في مشهد صادم.
هربت ألفيريل من المكان مذعورة، وما زال صدى ذلك الصوت العنيف يتردّد في ذهنها حتى الآن.
بينما كانت ألفيريل غارقة في ذكرياتها، مسح ليوبولد شفتيه بإصبعه كما لو كان يفكّر بعمق.
“أنا قلقٌ عليه. فالأوضاع تغيّرت بعد وفاة والدي، وإن أظهرنا ودّا علنيّا بيننا، فقد تتعقّد مسألة الوراثة خلافًا لرغبتنا. هو وأنا… لدينا أعداء كثيرون في الداخل والخارج، كما تعلمين.”
خفضت ألفيريل عينيها لتخفي نظرتها المرتابة.
فمن خلال ما رأته منه من بعيد طوال تلك المدة، لم يكن ليوبولد الرجل الذي يليق به أن يتحدّث بمثل هذه المودّة عن أخيه غير الشقيق.
ظلّ ليوبولد صامتًا، وكأنه ينتظر ردّها.
“…لماذا؟”
“هم؟”
“لماذا تروي لي كلّ هذا، يا سيّدي؟”
كان ما يحدث متتابعًا وغريبًا على نحوٍ مقلق.
فقد استدعى فتاة متواضعة لا معرفة له بها إلى حجرته في ساعة الفجر، ثمّ بدأ يبوح لها بأمورٍ لا بدّ أن تثير الضيق في نفوس الجميع.
حرّكت ألفيريل أصابعها الصغيرة بارتباك.
“إن لم يكن الأمر ممتعًا، فأعذريني.”
اعتذارٌ خرج من فم ليوبولد مباشرة جعل قفا ألفيريل يبرد فجأة.
لم تكن تتوقّع هذا الردّ مطلقًا، فهزّت رأسها بعنف، بينما رسم الرجل ابتسامة صغيرة.
“ألفيريل، بصراحة… لا أعرف ما الذي ينبغي أن أفعل بك.”
رفعت رأسها تنظر إليه مذهولة حين سمعت اسمها يُلفَظ على نحوٍ مباشر.
“فكّري بالأمر، أنا لا أهتمّ بالمجتمع أو بالموسيقى، بينما أنتِ لا تجيدين سوى هذا.
إن لم أجد لكِ نفعًا واضحًا، فسيصبح وجودكِ عبئًا عليّ.”
اقترب ليوبولد منها بخطوات بطيئة.
امتدّت يده الكبيرة بارزة العروق نحوها فجأة، تطرق بخفّة زخرفة الكرسيّ الذي تجلس عليه.
أصبحت ألفيريل وكأنها محصورة بين ذراعيه.
“ومع ذلك، فكّرتُ أن أمنحكِ فرصة واحدة على الأقل.
لقد كان والدي يحبّكِ كثيرًا، وظننتُ أنّه سيحزن لو طُردتِ من بيت الدوق بهذه الصورة.”
اتّسعت عينا ألفيريل.
كان صوته هادئًا كالعادة، لكنّ كلماته حملت صدمة جارفة.
لقد استدعاها وهو يخطّط لطردها منذ البداية!
“أوه، لا تخافي كثيرًا. قلتُ لكِ إنّ الأمر يعتمد على ما تفعلينه.”
تمتم وهو يراقب جسد ألفيريل المرتجف وقد شحب لون وجهها حتى صار أشبه بالرماد.
ارتسم ظلّه القوي فوقها، ورأت ملامح باسكال تومض في العتمة داخل ذهنها.
“…سأفعل أيّ شيء، حتى لو لم أستطع الغناء أبدًا بعد الآن!
أرجوك، يا سيّدي، فقط لا تطردني!
يمكنني العمل في الإسطبل أو في تنظيف الحظائر، أنا…”
قاطعها ليوبولد بابتسامة امتزجت فيها الشفقة ببرود غامض.
“لا داعي لذلك يا ألفيريل. الموهبة هبةٌ من الله، وإهمالها يُعدّ خطيئة.
أريدك أن تبقي هنا، في بيت الدوق هذا، وتُغنّي لنا كما كنتِ دائماً.”
حلّ صمتٌ ثقيل كأنّه يجمد الهواء.
“طبعًا… إن لم ترفضي طلبي الصغير.”
ما إن حرّك شفتيه حتى بادرت ألفيريل بهزّ رأسها بسرعة، قبل أن ينهي كلامه حتى.
كان صوته يحمل سلطة لا تترك مجالاً للرفض؛ لم يكن طلب، بل أمر.
فماذا يمكنها أن تفعل إن غادرت هذا المكان؟
ابتسم ليوبولد برضا، وقد ارتسمت على شفتيه ملامحُ هدوء متقن.
حدّقت ألفيريل فيه بقلق تنتظر ما سيقوله بعدها.
وبعد لحظة صمتٍ طويلة، حرّك شفتيه أخيرًا وقال:
“ألفيريل، تزوّجي أخي.”
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى
Chapters
Comments
- 2 - عرض الزواج منذ يومين
- 1 - طائر الدوق الأليف 2025-10-29
التعليقات لهذا الفصل " 2"