حين أومأت ألفيريل برأسها كأنها مسحورة بذلك السؤال، ارتسمت ابتسامة خافتة على شفتي تيرينزيو. وفي اللحظة التي همّت فيها بتوسيع عينيها من الدهشة، قطّب حاجبيه وقال بنبرة حادة:
فزعت ألفيريل من صوته الجاف كعادتها، فانحنت بسرعة وهي تلفّ حولها المعطف الذي ناولها إيّاه. وفي تلك الأثناء، انحنى السيّد قليلاً نحو الكيس الذي تركه ترايدن.
وفي يده الطويلة الجميلة، أمسك بسيجار غليظٍ واحد وعلبة كبريت. راحت ألفيريل، وقد شعرت ببعض الدفء، تعبث بطرف المعطف الملقى على كتفيها بينما دارت عيناها الزرقاوتان نحوه.
“إن كنتِ تنوين تأنيبي لأجل هذا أيضًا، فدعكِ من ذلك.”
قال تيرينزيو بلهجة مقتضبة وهو يقطع طرف السيجار بسكين صغيرة حادة. يبدو أنه أدرك نظرتها الواضحة التي يصعب تجاهلها.
لكنها كانت مجرد سوء فهم. عضّت ألفيريل على لسانها مترددة، ثم فتحت شفتيها الممتلئتين قائلة:
“ليس الأمر كذلك. أردت فقط أن أسألك إن كنت تسمح لي بتجربة واحدة.”
“انسِ الأمر. هناك طرق كثيرة لإهلاك أعصاب المرء.”
جاء صوته حادًا على نحوٍ غير متوقّع، ثم حاول أن يرمي السيجار جانبًا قبل أن توقفه ألفيريل بسرعة. هل كان من الخطأ أن تتكلم أصلًا؟
“كنت جادّة. لطالما تساءلت لماذا يضع الناس هذا الدخان المرّ في أفواههم.”
“…….”
“ثم إنه بالتأكيد شيء ثمين، أليس كذلك؟ آسفة، كان عليّ أن أصمت.”
“خُذيه.”
ناولها السيجار، كأنه لم يعد يطق الاستماع أكثر. اقترب منها وهو يمسك عود ثقاب مشتعل، ملامحه لا تزال مشوبة بالشك.
أسفل أنفه المستقيم سقط ظلّ خفيف، والسيجار الذي كانت تمسكه ألفيريل ارتفع بيده. التهمت النار الطرف المقطوع حتى احمرّ متّقدًا.
لفح الدخان الكثيف حواسها، وسرعان ما اسودّ طرف السيجار المصقول. افترّ فم تيرينزيو قليلًا، وانطلقت من بين شفتيه نبرةٌ منخفضة:
“خُذيه في فمك.”
مثل جرو مطيع لأوامر صاحبه، تحرك جسدها قبل عقلها. أمالت رأسها للأمام وعضّت على السيجار الذي كان بيده. نظرته إليها كانت ثقيلة، تتابع وجنتيها المنخفضتين وهي تمتصّ الدخان.
قال بصوتٍ هادئ: “اسحبيه… هكذا. لا تبتلعيه.” ثم أدار السيجار ببطء في اتجاه عقارب الساعة. بدا الدخان المرّ وكأنه يتسلل إلى كل خلية في جسدها.
تحت نظرته، راحت شفتاها تتحركان ببطء، تفتحان وتغلقان كسمكة في حوض ماء. وكان تنفّسها العميق يختنق بين أنفاسه الثقيلة.
بعد لحظات، ابتعدت يده عنها. تولّت ألفيريل بارتباك إمساك السيجار، ثم خرجت أولاً إلى الرواق.
امتزجت في الهواء رائحة المطر الرطب مع انتعاشٍ غريب بعد العاصفة.
اقترب تيرينزيو منها وهو يخرج سيجارًا جديدًا، متكئًا على جدار القصر. كان الدخان ينساب من فمه مع كل شهيق وزفير، لكنها لم تسعل، رغم أنها أول مرة تمسك فيها بسيجار.
“ما رأيك؟”
سأل بصوت منخفض وهو يرمقها. فابتلعت ألفيريل ابتسامة لم تظهر على وجهها.
“إن كنت تنوين التدخين أحيانًا، فلن أمنعك.”
“ما زال فضولي كما هو. أظن أن أول وآخر تجربة لي في التدخين ستكون برفقتك يا سيدي.”
وحين التقت عيناهما، بدت على تيرينزيو علامات ارتياح واضحة. وعندما أدرك أنها لمحته، تمتم في ارتباك
“أحبّ سماعك تغنين. كنت فقط أخشى أن أفسد صوتك.”
“هل سمعتَ غنائي من قبل؟”
“رغم أنك لم تمكثي هنا سوى أيام قليلة، إلا أنك كنت تدندنين مقطعًا قصيرًا ذات مرة، أظن.”
جملته الصادمة قطعت عليها دهشتها التالية.
“سَمِعتَ ذلك؟ متى؟”
“سمعتُه ذات مرة.”
“يا إلهي، كنت متأكدة أن لا أحد حولي… متى كان ذلك؟”
“فضولك لا نهاية له. الأفضل أن تسرّعي في عملك الموسيقي بدلاً من الأسئلة.”
بضيقٍ غامضٍ، أسرعت بخطاها إلى الأمام. طَطَك ـ ارتطم نعلها المنزلي الرخو بالأرض وهي تتجاوز السيّد، في تصرّف ما كانت لتجرؤ عليه عادة.
ربما كانت تركض فقط لتحظى بلحظة حرية من حضوره المتسلّط. لكن تيرينزيو، بخطوات قليلة واسعة، قلّص المسافة بينهما من جديد دون أن يبدو عليه جهد.
كانت مطاردة غريبة.
ركضت ألفيريل المسافة القصيرة بكل ما أوتيت من طاقة، فيما سار هو بخطواتٍ بطيئة لكنها طويلة بما يكفي ليظل قريبًا منها — قاعدة غير منطوقة بينهما.
كانت تمسك بطرف المعطف الكبير عليها وهي تلهث، تتوقف ثم تركض من جديد. أحست بالعرق الدافئ يتكوّن على جبينها مع كل نفسٍ متقطع.
ضحكةٌ خافتةٌ من الرجل بدأت تتسلل إلى الفضاء بين أنفاسها المرهقة. شعرت أطراف قدميها داخل النعال الخفيف بالوخز كأنها لُسِعت بالنار.
ومع أن صوت خطواته خلفها لم يتوقف، إلا أنها لم تشعر بالخوف، بل بشيءٍ يشبه الاطمئنان. التفتت فجأة لتراه.
“هاه… آه!”
في اللحظة التي التفتت فيها، التوت كاحلها. فمدّ تيرينزيو يده بسرعة وأمسك بمعصمها. فزعت من لمسته المفاجئة وارتفع صوتها تلقائيًا.
لكنّ الصمت سرعان ما حلّ بينهما، وتلاقت نظراتهما. رفع تيرينزيو يديه متراجعًا وهو يقول:
“اللعنة، ظننتك ستسقطين.”
“هاهاها!” انفجرت ألفيريل ضاحكة بعد لحظة ذهول، منحنية وهي تكتم فمها لتخفي ضحكاتها المتقطعة وسط أنفاسها الثقيلة.
لم تعرف حتى من أين بدأ هذا الضحك، وكأنها تضحك بعد زمن طويل من النسيان.
بدت عاجزة عن السيطرة على جسدها، وكأنها تحوّلت لشخص آخر في لحظة. تراجعت بخطوات متعثّرة وهي تلهث بين ضحكاتها.
“أنا… هاا، آسفة. لكن معك يا سيدي… أشعر بطريقة ما بالأمان.”
وقبل أن تصطدم بشيءٍ خلفها، مدّ تيرينزيو يده ليمنعها. راقبها بصمت وهي تنحني من جديد وتضحك، ثم تمتم بأسى خافت:
“على حدّ علمي، لم يكن ذلك سوى سيجار عادي.”
“وأنا أيضًا لا أعرف… لماذا… هاها، آسفة… لا أعلم ما الذي…”
“أنا…”
“كنت أعلم، أنك لن تضحكي بغير هذه الطريقة، أمام شيء كهذا.”
تحرك شيء خلفها — لم يكن جدارًا ثابتًا، بل الباب الذي كان تيرينزيو يضع يده عليه. انفتح المقبض في يده بسلاسة، فابتعدت ألفيريل عن الطريق. اصطدمت خصلات شعرها بصدره القوي.
رفعت بصرها نحوه، ثم نحو ما خلف الباب المفتوح.
كانت دفيئة مغطّات بقماش داكن، لم تدركه فورًا. رمشت مرتين، كأنها لا تصدّق ما ترى.
إنه ربيع متجمّد.
جماله ساحر، وكأنّ فصلاً كاملاً قد توقّف هناك إلى الأبد.
نسيت حتى أن تعتذر لأنها اصطدمت به. تقدّمت بخطواتٍ بطيئة، يملؤها الذهول. أزهار حقيقية بالوان خافتة تزهر في الداخل بلا نسمة هواء واحدة.
كانت رائحة الزهور تمتزج بالهواء البارد ليلاً، وتنتشر في سكون مهيب.
نظر تيرينزيو إلى وجهها المتجمّد في الدهشة، ثم خفَض عينيه.
“لم أتوقع أن ينجز رجالي هذا العمل على هذا النحو الباهر.”
كان من الصعب على ألفيريل أن تفهم معنى كلماته في الحال، فاستدارت نحوه بعينيها تسأله بنظرة حائرة.
قال تيرينزيو بلهجةٍ لا مبالية
“أتحدث عن بستانيي سانت كالوميوم.”
“هل مضى عشر سنوات كاملة؟ حتى أنا لم أزر هذا المكان منذ زمن طويل.”
“ولماذا؟ إنه مكانٌ مفعمٌ بالبهجة.”
قالت ذلك وهي تلمس بحذر بتلات زهرة زنبق النيل التي تفتحت بأزهى لونها قرب قدميها.
“صحيح.”
أجاب بنبرة خفيفة تنطوي على شيء من القلق، ثم بدأ يمشي بخطى بطيئة قبل أن يشير بذقنه نحو اتجاه معين، فتبعته ألفيريل.
كانت حديقة وردٍ تفوح منها رائحة زهور متفتحة بلون برتقاليٍّ ساطع. ابتسمت ألفيريل ابتسامة خافتة أمام ذلك الجمال، لكن ما لبثت أن لاحظت في يد تيرينزيو مقصّ بستانيٍّ لم تعرف متى التقطه.
“قلتِ إنك لا تحبين هذا القصر. لعلّ بضع زهراتٍ في غرفتك تجعلك تكفّين عن التذمّر.”
صارت ألفيريل قادرة الآن على تمييز اللطف الخفي في صوته الفظّ من دون أي تردد. كأنها ترى في سلوكه طيبة عجوزٍ يحاول إخفاء حنانه. كادت أن تضحك، لكنها قالت بقلق خافت
“لا أدري، فمهارتي في هذا المجال متواضعة جدًّا، ولا أظنني أستطيع تزيين الغرفة كما ينبغي.”
“هل عليّ أن أفعل كل شيء بنفسي؟ كفّي عن القلق الفارغ واختاري شيئًا بسرعة.”
كانت تلك عبارة طريفة بالنظر إلى أنها خرجت من أشهر عازف بيانو في المملكة وخارجها. وبينما كانت ألفيريل تغوص في حيرتها، كان تيرينزيو يحثّها بنبرته الجازمة.
ثم خمدت المناوشة القصيرة بينهما، وجلسا معًا أمام حقل الورود.
“هل هناك زهرةٌ تعجبك؟ هذه مثلاً؟”
“همم، لا. ما دمت ستقطفها، فلتكن زهرة ناضجة تمامًا.”
استقرت عيناها على وردة كبيرة فاتنة سحرت بصرها. وبينما كان يمدّ يده ليقطع ساقها الشائك دون قفاز، رمقته ألفيريل، ثم فجأة شهقت دهشة.
توقفت يده في منتصف حركته حين قبضت أصابعها على ساعده السميك، توقفًا غريزيًّا.
“آه.”
حتى هي بدت مذهولة من ردّ فعلها الفوري، فأطلقت يده على الفور. لم تكن قبضتها قويّة أصلاً، بالكاد يمكن القول إنها أمسكته. كان ساعدًا مرّ بالكثير من الجراح والآلام حتى بدا كأنه يحمل ذاكرة ثقيلة.
ساد صمتٌ لم يعد يبدو غريبًا كما كان من قبل، فخفضت ألفيريل حاجبيها وقالت بتردد وارتباك:
“خشيتُ أن تؤذيك أشواك الوردة… فقد سمعتُ أنك حتى لا تطيق ماء الحمام ساخنًا، خوفًا من ألم الحروق القديمة.”
كانت تراقب ردّ فعله بخوف بينما خفضَت نظَرها، لكن ضحكة قصيرة خفيفة اخترقت التوتر. كانت صادرة من تيرينزيو الجالس على ركبتيه أمامها. تلاقت نظراتهما عبر مسافة قصيرة لا تتعدّى شبرًا واحدًا.
رأت الدهشة في عينيه، لكنه لم يتوقف عن الضحك. رفع ساعده الأيمن بعد أن طوى كمّ قميصه، وأخفى نصف ابتسامته المنحرفة فيه. كان لصوته الرخيم وقعٌ مدهش في الأذن.
كان طريق العودة يحمل بين ذراعي ألفيريل باقة من الورود البرتقالية الزاهية، ومع ذلك بدا الطريق قصيرًا على نحو غريب.
كأنها تمشي على الهواء. كانت خطواتها تتمايل بخفة إلى جوار تيرينزيو وهي تعود عبر الحديقة، المدخل، ثم الممرات، حتى بدا كل موطئ قدمٍ بعيدًا عن الواقع.
دَغ! لم تدرك أين كانت حتى سمعت باب غرفتها يُغلق خلفها. رمشت بعينيها، تتلفت حولها. كانت في غرفتها. لم تستطع أن تتذكر بوضوح كيف وصلت إليها.
استدارت ببطءٍ نحو المرآة عند جانب السرير، والتقت نظراتها مع انعكاسها فيها. كانت هناك شابة في العشرين من عمرها بملامح غريبة عنها، كأنها تراها لأول مرة.
بدت لها غريبة المظهر. وضعت باقة الورود إلى جانبها بتردد، ثم مدت إصبعها لتسحب زاوية فمها إلى الأعلى والأسفل ببطء، كما لو كانت تختبر وجهها.
اهتزّ المعطف الذي لا يزال معلقًا على ذراعها في تلك الحركة. لماذا لم تُعده له بعد؟ تساءلت في ذهولٍ لثانيةٍ قبل أن ينزلق المعطف الواسع من كتفيها ويسقط إلى الأرض بصوتٍ خافت.
كانت بشرتها البيضاء تكاد تشعّ تحت قماش القميص الرقيق، بينما انسكب ضوء القمر من النافذة على جسدها.
وحين وقعت عيناها على عظم كتفها البارز، تجمّد الدم في عروقها.
كانت هناك ندبةٌ متوسطة الحجم تعبر ظهرها العاري — أثرٌ تركه يومٌ قاسٍ حين أمسك الدوق بنفسه بالسوط. لم تعد تذكر السبب حتى الآن.
“يا إلهي…”
لكن أحيانًا، تكون تلك المرة الواحدة هي المفتاح الأخير الذي ينتزع من الروح ما تبقّى من رقتها.
“يا إلهي… يا إلهي… يا إلهي…” همست الأجافانثوس وهي تتهاوى أرضًا، تتنفس بصعوبةٍ كأن أنفاسها تنقطع. كان صوتها المتزن وسط الانهيار أكثر رعبًا من البكاء نفسه.
لم أفعل ذلك لأنني أردت… كنت مجرد قِنة بائسة حالفها الحظ فلفتت نظر سيدها، وكان عليّ أن أكون مطيعة…
دوّى الصدى القديم في أذنيها كاللهيب، حتى شعرت بأن رأسها يشتعل. كتمت شهقة مكتومة وهي تكافح الغثيان الذي اجتاحها.
لقد رآها. لقد رأى هذا بنفسه.
ابن الدوق رأى هذا الندب بعينه.
“أنا أحب سماعك تغنين.”
“هل هناك زهرة تعجبك؟”
هل كنتُ مخدوعة؟ هل كان ما سكرْتُ به ليس دخان السيجار الغريب ولا عبير الزهور، بل شفقةٌ رخيصة؟ لا… لا، أنا…
شهقت ألفيريل نفسًا ثقيلاً، غارقةً في الخزي والضياع.
هل كنتُ أرجو حقًا… أن تبقى شفقته تلك مجرد شفقة لا أكثر؟
–
الفصول القادمة ستُنشر أولًا وحصريًا على قناة التلجرام 💌 لا تفوّتوا الأحداث! الرابط في التعليقات
التعليقات لهذا الفصل " 15"