لم يُعرف بالضبط من أين بدأ سوء الفهم هذا، لكن على الأقل كان هناك حقيقتان واضحتان تمامًا.
أولاهما أن صوت الرجل المجهول كان عاليًا بما يكفي ليهز أرجاء القصر بأكمله، وثانيهما أن السيّد الصغير كان قد أمضى الليل بأكمله يعمل على النوتة الموسيقية، ولم يكد يغمض عينيه منذ لحظات فحسب.
وما إن وصلت ألفيريل إلى ذلك الحد من التفكير، حتى توقفت عن التردد وتصرّفت فورًا.
اندفعت يدها الصغيرة بقوة أدهشتها هي نفسها، لتكمم فم الرجل.
بدت الدهشة جلية في عينيه الكهرمانيتين المتسعتين، وكأنه لم يتوقع مثل هذه المقاومة المفاجئة. وفي الخلفية، دوّى صوت الرعد مرة واحدة، مضيفًا مشهدًا عبثيًا إلى الموقف الغريب.
رمقتها ألفيريل نظرة تحذير، ثم بدأت تتراجع بخطوات هادئة. فكرت أنه ربما، إن تمكّنت من الخروج من بهو المدخل المظلم إلى القاعة الرئيسية الأكثر إضاءة، فسيزول هذا الالتباس من تلقاء نفسه.
كانت واثقة من أن مظهرها وحده يكفي لدحض فكرة أنها لص.
وفي تلك اللحظة، أضاء خيطٌ ناعم من ضوء القمر وجهها بلطف.
هزّت رأسها إشارة إلى الرجل: هل تفهم؟ أنا امرأة ضعيفة وصغيرة، لستُ البتة من ذلك النوع الذي تظنه.
ويبدو أنه فهم المعنى بشكلٍ تقريبي، إذ هزّ ذقنه صعودًا وهبوطًا بإيماءة سريعة.
تنفست ألفيريل زفرة قصيرة ثم أزاحت يدها عن فمه.
لكن ما إن فعلت ذلك، حتى دوّى صوتٌ آخر — أعلى من سابقه — في أرجاء القصر.
“يا صاحب السعادة! هنا امرأةٌ فاتنة الجمال تحاول تهديدي! لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن لامرأة بهذا الجمال أن تمارس اللصوصية بهذا الشكل المروّع…!”
“ماذا؟! أنا لست لصّة! قلت لك هذا بالفعل!”
صرخت ألفيريل بانفعال جعل ملامحها تبدو مزيجًا من الدهشة والغيظ.
ومع أن الجو كان فوضويًا، فإن صوتها الصافي، صوت السوبرانو الطبيعي الخاص بها، ملأ القاعة وسيطر على الموقف كله.
“أ… أنتِ تتحدثين؟ على الأقل يتضح أنكِ بشر!”
“وماذا كنت تظن إذن؟! لست لصّة، ولا مخلوقًا غريبًا! وإن سألت أحد المارة الآن مَن يبدو أكثر ريبة في هذا الموقف، فسيشير الجميع إليك أنت!”
كانت ألفيريل تلهث قليلاً بعد أن رفعت صوتها بهذه الحدة لأول مرة منذ زمن.
أما الرجل، الذي بدا عليه الارتباك، فقد تمتم قائلًا:
“إذًا أنتِ…”
“أنا… أعمل هنا، كخادمة نوعًا ما… آه، بحق السماء، انظر، الأرض كلها مبتلّة الآن.”
“هل تحاولين تغيير الموضوع؟”
وكيف يمكن تفسير الأمر بطريقة أخرى؟ فكّرت ألفيريل وهي تزيح نظرها جانبًا بانزعاج خفيف.
الرجل أمامها كان ذا شعر ذهبي باهت تتخلله خصلٌ بنية داكنة، يتدلى حتى ما تحت كتفيه.
كان وجهه وسيمًا بطريقة دقيقة قد تدفع من يراه لأول مرة إلى الظن أنه امرأة قوية البنية، لكن ما جذب انتباهها أكثر كان مجموعة البراميل الكبيرة والأكياس الضخمة الموضوعة خلفه.
وحين لاحظ نظرتها، بادر بخطوة حذرة إلى الخلف ليحمي أمتعته كما لو كانت كنوزًا.
تنهّدت ألفيريل قليلاً ثم تابعت:
“أنا حقًا أعمل هنا. بأمر من الدوق ليوبولد، أساعد السيد الشاب في شؤونه. لا أعرف تحديدًا ماذا يُسمّى هذا المنصب، لكن هذه هي الحقيقة.”
وعندما طال الصمت، نظرت إليه من جديد باستغراب.
وبعد لحظة قصيرة من التردد، التقت عيناه بنظرتها البريئة، فانكمش وجهه الجاد فجأة وتحوّل إلى ابتسامة ساخرة.
“السيد الشاب…؟ هاها! السيّد الشاب، حقًا؟!”
الرجل الذي كان يضيّق عينيه في شك قبل لحظات فقط، انفجر الآن ضاحكًا بصوت عالٍ، حتى كاد يترنح من شدة الضحك، ثم مسح دموع عينيه قائلاً
“لكن، يا آنسة، الدوق لم يعد مجرد دوق. إنه الآن صاحب السمو الدوق الأكبر!”
“عفوًا؟”
“ليوبولد تاسيلو شولمان فيلكتولد هيرون — صاحب السمو الدوق الأكبر. أقيم حفل تتويجه قبل يومين فقط. يا للعجب، بيتٌ واحد فيه دوقان! هذا يبدو غريب فعلاً.”
“هل… هل يمتلك السيّد الشاب لقبًا نبيلاً أيضًا؟”
سألت ألفيريل وقد بدت الدهشة واضحة في ملامحها من سماع لقب السمو المرافق لاسم ليوبولد.
أجاب الرجل دون أي تحفظ، كما لو لم يجد في سؤالها ما يدعو للريبة.
“في الواقع، نعم، لكن لا تتوهمي، إنه لقب شرفيّ فقط — مجرد لقب بالاسم لا أكثر. اعتاد الناس من باب الدعابة أن ينادوه صاحب السعادة، ويبدو أن العادة علقت على ألسنتنا.”
ليوبولد هيرون أصبح دوقًا أكبر.
أعلى مرتبة يمكن بلوغها في تريبيرار دون حمل اسم أسرة مورغنشتاين.
ألفيريل، التي كانت مطمئنة الآن إلى أن نوايا ليوبولد لا تزال نقية كما تعرفها، لمحت الرجل يرمقها بطرف عينه وهو يقول:
“يبدو أنك لا تكذبين، وأعتذر عن هذا الالتباس. بصراحة، في مثل هذا الطقس العاصف، يمكن لأي شخص أن يظن الأسوأ. لكن قولي لي، هل تقيمين عادة في الجناح الخارجي؟”
“لا، أنا أقيم في الغرفة الأخيرة في الطابق العلوي.”
“هنا؟ في هذا القصر؟ مع صاحب السعادة نفسه؟ ولهذا السبب كممتِ فمي؟”
أومأت ألفيريل بخفة، متأثرة بسيل الأسئلة الذي انهال عليها فجأة.
وعند سماع إجابتها، بدا أن الرجل تراجع قليلاً عن لهجته المازحة، ومدّ يده مصافحًا.
“تأخر تعريفي بنفسي. أنا ترايدن لانج، تاجر. أتكفل بإصلاح القصر وتوريد المواد الغذائية كل نصف شهر.”
“تـ… تشرفت بمعرفتك. أنا ألفيريل.”
تعمّدت أن تذكر اسمها الأوّل فقط.
كانت ألفيريل، لا أكثر.
فبالنسبة للأقنان، من يحاول الهرب مرة واحدة، يُسلب اسمه الأخير.
يُمحى من السجلات، ويغادر هذا العالم دون أثر.
وقد أدركت ألفيريل تلك الحقيقة بمرارةٍ لم تبرحها يومًا.
كان غياب الكنية أكثر وضوحًا أحيانًا من وجودها.
لم يحتمل الشاب الغريب الصمت الذي خيّم عليهما، فتنحنح مصطنعًا ليكسر الجو، ثم تحرك ذهابًا وإيابًا في نشاطٍ ظاهر، يسحب في كل مرة كيسًا ضخمًا من الخارج إلى الداخل.
“لقد اعتدت إنجاز هذا العمل بمفردي، لذا لاداعي لأن تجهدي نفسك بالمساعدة.”
“ومع ذلك… لا يمكنني التظاهر بعدم رؤيتي لذلك. لحظة واحدة فقط.”
ضيّقت ألفيريل عينيها وهي تراقب الأكياس والبراميل الخشبية التي كان يجلبها الرجل واحدًا تلو الآخر.
“هل يمكنني فتحها؟”
“بالطبع لا بأس. الجودة والطعم كلاهما من الأفضل في تريبيرار.”
غير أن شعورًا خفيفًا بالقلق راودها وهي ترفع غطاء أحد البراميل.
تحركت أصابعها الوردية السريعة على البقية أيضًا، تتفقدها جميعًا.
ثم خرج من فمها تنهيدة طويلة تلتها كلمات مذهولة.
“يا إلهي… كما توقعت. هذا ليس ماءً، بل نبيذ عنب!”
“تمامًا كما كُتب في طلب صاحب السعادة. أحد هذه البراميل فقط يحتوي على ماء للشرب.”
زفرت ألفيريل زفرة ثقيلة وهي تتقدم نحو الأكياس الموضوعة على الأرض.
وجدت بداخلها بضع حبات بطاطا جيدة الجودة، وخبزًا يابسًا ملفوفًا بالورق، وقليلاً من الحبوب والتوابل والبهارات التي ملأت نصف الكيس تقريبًا.
أما البقية — فلم تكن سوى سيجار مستورد فاخر.
قالت بصوت متحشرج خافت:
“عذرًا، هل يمكنني الاطلاع على ورقة الطلب؟”
“بكل سرور. يمكنك تفحصها وإعادتها متى شئت، بينما أرتب هذه الأشياء.”
ناولها ترايدن الورقة المجعدة بابتسامة ودودة مميزة لذا التجّار، وكان يحمل معها قلمًا اعتاد حمله معه دومًا.
وامتد الحبر الأسود كظلال غامضة تغطي أسماء النبيذ والسيجار.
“ألغي هذا الطلب.”
“يا للعجب! ما الذي تفعلينه؟!”
“سأدفع غرامة الإلغاء إن لزم الأمر، لكن هذا الأمر غير مقبول تمامًا! كنت أشك منذ البداية في قصة صيانة القصر نصف شهريًا! انظر! هذه المصابيح المعطلة منذ أسابيع ولم يُصلحها أحد!”
كانت تردّ بهدوء متزن، لكن سرعان ما انفجر صوتها بغضب مكبوت.
لا يمكن أن يُترك شخص في حالة صحية كهذه بلا عناية.
في ذاكرتها، وإن كانت مشوّشة بعض الشيء، بدا السيّد الشاب قبل أسبوع فقط كمن يحتضر.
“مصابيح معطّلة؟! كيف لي أن أعرف ذلك إن لم ينبس ذلك الأحمق بكلمة؟!”
“أليس من واجبك أن تعرف قبل أن يُقال لك؟!”
“هل تظنين أن صاحب السعادة سيسمح بمثل هذا الأمر؟ ذلك الثمل! إنه رجل لا يستطيع العيش بلا خمر يومًا واحدًا، حتى لو أمكنه البقاء حيًا بلا ماء أو خبز!”
“كم أنت فظّ في كلامك! السيّد الشاب مريض! بل مريض جدًا! مثل هذه الأشياء لا تفيده في شيء، بل تضرّه! وحتى لو لم يستطع المقاومة، فسأكون أنا إلى جانبه لأساعده!”
“كنت أتمنى فقط… لو تُبقي على واحد منها.”
استدار الاثنان اللذان كانا يتجادلان بصوت مرتفع في اللحظة نفسها نحو مصدر الصوت.
كان تيرينزيو، الذي ألقى على كتفيه معطفًا فوق قميص نوم فضفاض، يتمتم بصوت خافت يملؤه النعاس:
“السيّد الشاب!”
“صاحب السعادة! عندما صرختُ بأن لصًا قد اقتحم المكان، لم تَبدُ حتى أطرافُ أنفك!”
“يا إلهي، أكان اليوم هو يوم البدر؟! ظننت أنه سيأتي بعد ثلاثة أيام على الأقل.”
عندما أضاء ضوء القمر وجهه، تقلصت ملامحه متأففًا، ثم حوّل نظره فجأة نحو ألفيريل.
وفي حركة سريعة تتناقض تمامًا مع لهجته البطيئة السابقة، نزع تيرينزيو المعطف الذي كان يرتديه.
ثم ألقى به فوق كتفي ألفيريل، التي كانت تقف مرتدية قميص نوم رقيق لا غير.
رفعت ألفيريل وجهها نحوه بذهول واضح، لكنها سرعان ما أدركت أنه لم يعد ينظر إليها أصلاً، فقد تجاوزها بخطوات هادئة.
أما ترايدن، الذي لم يفهم بعد ما الذي حدث، فكان لا يزال يحدّق في ورقة الطلب الممزقة بوجهٍ متجهم.
“افعل كما قالت. أنت تعرف أن المال ليس شيئًا ينبغي أن يقلقنا.”
“ما هذا الهراء…؟ لا تقل لي إنك جادّ فعلاً؟!”
أومأ تيرينزيو برأسه وهو يقطّب حاجبيه.
لم يُصدم ترايدن وحده من ذلك الجواب، بل حتى ألفيريل رفعت حاجبيها دهشة.
كان ترايدن قد اتخذ ملامحَ من باع روحه للشيطان، وقال بصوت خفيض متردد:
“هل أصبحتَ راهبًا الآن يا صاحب السعادة؟ أم تنوي دخول دير؟ ما الذي حدث بحق السماء خلال الأيام الخمسة عشر الماضية؟”
“هل يمكن أن نُبقي على برميل واحد منها؟ … أو ربما برميلين؟”
تجاهل السيّد الشاب سؤاله ببرودٍ تام، محاولاً التفاوض مع ألفيريل بدلاً من ذلك.
ورغم ارتباكها، رفعت ألفيريل إصبعًا واحدًا نحوه في إشارة واضحة.
رمقه ترايدن بنظرة غريبة قبل أن ينحني ليلتقط القلم الذي سقط أرضًا، ثم بدأ بتعديل الطلب بخطوط سريعة.
ومع أنه حمل ثلاث براميل كبيرة من النبيذ كانت قد أُلغيت من الطلب، إلا أن حركته كانت خفيفة على نحو يصعب تصديقه، كأن جسده النحيل يخفي قوة خارقة لا تُفسَّر.
وقفت ألفيريل وتيرينزيو جنبًا إلى جنب عند الباب، يراقبان ترايدن وهو يعتلي عربة البضائع مجددًا ويمسك بزمام الخيل.
لكن ذلك لم يكن قبل أن ينتزعا منه وعدًا بالعودة في غضون أسبوع لإصلاح المصابيح المعطلة في القصر.
“إذن، إلى اللقاء. آه، صاحب السعادة — لا مشكلة عندي إن خسرنا هذه الصفقة، لكني أراهن بقطعتين من النقود على أنك ستندم على هذا القرار قبل أن يمر البدر القادم.”
وبالرغم من أن كلماته بدت عادية للوهلة الأولى، إلا أن الحصان الذي يمتطيه لم يكن عاديًا، إذ سرعان ما ضرب بحافريه الثلج المتجمد وانطلق كالسهم، يختفي كما ظهر — كعاصفةٍ جاءت ومضت في لمح البصر.
“لقد مرّت عاصفة بالفعل.”
الريح والمطر اللذان كانا قبل قليل يضربان نوافذ القصر بعنف حتى كادت تتحطم، تلاشى أثرهما تمامًا.
تمتم تيرينزيو بجملة ذات معنى مزدوج، فيما ابتسمت ألفيريل وهي تصرف نظرها إلى مكان آخر، وقد وجدت في كلماته سخرية يمكن تفهمها تمامًا.
أما هو، فقد ظل يحدق فيها لحظة، ثم عدّل وضع شفتيه كمن يخفي شيئًا أراد قوله.
“يبدو أن الضجيج أيقظك من النوم.”
“لا، لا بأس. على أي حال، لقد كان الرعد كافيًا لإيقاظي.”
“… آه، بالمناسبة.”
وفي تلك اللحظة، تحركت ألفيريل فجأة، إذ لاحظت وجود صحيفة سقطت حيث كان ترايدن يقف.
اقتربت بخطوات متأنية، وانحنت تلتقطها.
“حاكم هيرون الجديد، نجمٌ يصعد في الأفق.”
كانت الصفحة الأولى بتاريخ الأمس.
وتحت العنوان العريض، كانت هناك صورةٌ لليوبولد، بابتسامة هادئة مشرقة.
شعرت ألفيريل، وقد أحسّت بنظرات السيّد الشاب خلفها، بندمٍ طفيف على قرارها السابق، فأنزلت ذراعها التي كانت تمسك بها الجريدة.
كانت تتساءل في داخلها عما يشعر به تيرينزيو تجاه أخيه الغير شقيق.
دونية الابن غير الشرعي، غيرة اللقيط… مشاعر باتت مألوفة في مجتمع النبلاء إلى درجة أنها لم تعد حتى تُعتبر شائعات.
لكن هل كان هو حقًا مختلفًا عنهم؟ أم مجرد واحدٍ آخر منهم؟
عندما التفتت نحوه بحذر، كان يقف بوجهه الهادئ المعتاد.
خارج القصر، كانت الرياح قد سكنت، وبين ضباب بدأ يتلاشى تساقطت أمطارٌ خفيفة، كخيوط ناعمة من الرذاذ.
التعليقات لهذا الفصل " 14"