“أتقصد بكلامك، يا سيدي، أنك لو كنت تعرفني، لكنت أنا أيضًا أعرفك؟”
ثم عاد تيرينزيو إلى الصمت. كان واضحًا، كما توقعت، أنه يُخفي شيئًا ما. ربما لو تقدمت نصف خطوةٍ إضافية لعرفت كل شيء، لكنها اضطرت إلى التوقف.
فهي لم تكن لتخاطر أكثر من ذلك من أجل حقيقةٍ لن تُغيّر شيئًا. ولم تكن تتوقع إجابة من البداية، لذلك سرعان ما غيّرت الموضوع.
“إن لم يكن هذا هو السبب، فأنا أودّ أن أواصل عملي في التنظيف. هذا كلامي بصدق.”
“…….”
“إن كنت ترى أن عملي يُعيق شؤونك، فقلها بصراحة يا سيدي. لكن إن كان الأمر فقط هكذا—”
“لا يعجبني أسلوبك في ترتيب القصر.”
كان هذا موضوعًا مختلفًا تمامًا. رفعت ألفيريل رأسها، وعينيها تضيقان باستغراب.
“إن أخبرتني بالمشكلة تحديدًا، فسأحاول إصلاحها بأي طريقة ممكنة.”
“كل ما تقع عليه عيناي يثير اشمئزازي.”
كادت أن تنفجر ضاحكة أمام سيدها لولا أنها تمالكت نفسها. بدا أن تيرينزيو يدرك غرابة ما قاله، إذ ارتسمت على وجهه ملامح حرج طفيف.
قبل أن تأتي ألفيريل، كان قصر سانت كالوميوم مكانًا لا يُحتمل العيش فيه. فأيًا يكن، فهو بالتأكيد أفضل مما كان عليه من قبل، حين لم يكن سوى حفرة من الغبار. لم تستطع فهم سبب عناده الغريب.
ومع ذلك، بدا أن تيرينزيو يفتّش عن أي كلماتٍ يمكن أن تُغيّر رأيها. تمتم بكلامٍ غير مفهوم، ثم همس أخيرًا بصوت أقرب إلى الإغراء:
“إن كنتِ تضجرين إلى هذا الحد، فلتساعديني في عملي بدلاً من ذلك.”
“عملك يا سيدي؟”
سألتها لا من باب الرفض، بل من باب الاستغراب. أما هو، فبدت عليه فجأة علامات الحيوية وكأنه وجد المبرّر المثالي لكلامه، فرفع صوته قائلاً بحماس:
“نعم! كان ذلك مستحيلاً منذ البداية. كأننا نستدعي شاعر الإمبراطورية فيتوريو لنكلفه بتنظيف الغرف! لا داعي لإضاعة الوقت، نبدأ غدًا فورًا.”
“عفوًا؟ وما علاقة الشاعر العظيم فيتوريو بهذا؟ بل، نبدأ ماذا؟”
“إن كنتِ تحتاجين إلى مقابل، فسأدفعه. فقط ساعديني في نسخ السيمفونيات التي سأصدرها بعد شهرين. موظف شركة التسجيل اشتكى من أن تدويني للنوتات غير واضح.”
“وكيف علمتَ أنني أجيد قراءة النوتات الموسيقية…؟”
لم تكد تستوعب أن الطلب طبيعي أكثر مما توقعت، حتى تسلّل إلى قلبها شعورٌ غريب، أقرب إلى القشعريرة. تنفس تيرينزيو ببطء، ثم قال ببساطة:
“إن ساعدتِني في إتمام هذا العمل، فسأخبرك.”
“تخبرني بماذا؟”
“بكل شيء.”
كان عرضه أقرب إلى صفقة متبادلة منه إلى أمر صادر من سيد إلى خادمته. وربما لهذا السبب، ترددت ألفيريل قليلًا قبل أن تجيب، بصوتٍ متحفظ:
“ألا ترى أن هذا غير عادل؟ فحضرتك ستعرف كل شيء من البداية إلى النهاية، بينما أنا سأقضي وقتي كجاهلة لا تعلم شيئًا.”
“وما الذي تريدين قوله إذًا؟”
“اسمح لي أن أطرح سؤالاً واحدًا بعد كل عشر صفحاتٍ من النوتات التي أنسخها.”
“موافق. لكن إن بدا السؤال يتجاوز الحدود، فلن أجيب.”
كان قبوله غريبًا بقدر ما كان واضحًا. بدا شرطه منحازًا، لكنها كانت قد بلغت حدها من الحديث لذلك اليوم، فاكتفت بهز رأسها بشرود.
لكن الطريف أن ألفيريل نفسها لم تكن لتتذكر لاحقًا الشروط الدقيقة التي وضعتها بتلك الجرأة. والمذهل حقًا هو ما حدث بعد ذلك.
“يا سيدي! لا أريد أن يُقطعَ يداي ورجلاي وأُقتل!”
صرخت بوجه شاحب كالبياض الذي يكسو الأريكة التي جلست عليها. جلس أمامها رجلٌ متكئًا، متشابك اليدين، يقابلها بنظرة باردة، ثم عقد ساقًا فوق الأخرى وكأن الأمر لا يعنيه.
“قلت لكِ إن ذلك العقاب لا يُنفّذ إلا على الخونة. ما تخافينه لن يحدث.”
“لكن إن كان ما تخطط له هو نشر نوتات لم تُعلَن بعد في تريبيرار داخل أراضي العدو في فيترا، فكيف لا يُعد ذلك خيانة؟ أنا لا أرى تعريفًا آخر لها…”
حوّل تيرينزيو نظره إلى مكان آخر، ثم قال:
“لديّ سوابق، ولن يشكّ أحد.”
“يا إلهي… أكثر من مرة؟ لا، هذا— هذا لا يُصدق. سامحني، لكن السيد لوڤين فوسوني ذاك هو—”
بدأت المشكلة حين دخلت ألفيريل غرفة سيدها ذات مرة، فسألها على نحو عابر:
“هل تعرفين مقطوعة الفالس التي ألّفها الملحن الفيتري لوڤين فوسوني؟”
كان إدخال الثقافة الفيتريّة إلى تريبيرار ونشرها فيها جريمة كبرى قد تصل عقوبتها إلى الإعدام إن كُشِف أمرها.
ومع ذلك، كانت المفارقة أن هذا الخطر ذاته كان ما جذب الكثيرين للاهتمام بها — تمامًا كما ينجذب الطفل إلى لهب ساخن بدافع الفضول.
ونظرًا لأن من عوقبوا على ذلك قلّة نادرة، فقد شجّع هذا الوضع بعض النبلاء والتجار المتبجحين على التهريب السري لتلك الأعمال. ولهذا السبب، كانت ألفيريل، التي رافقت الدوق إلى العديد من حفلات النبلاء، على علم بالموسيقى والثقافة الفيتريّة.
“قليلًا، نعم. تسجيلاته تلقى رواجًا لا بأس بها في حفلات تريبيرار الموسيقية.”
“جيد، سيسهُل الشرح إذن. لوڤين سيلفي فوسوني هو الاسم المستعار الذي أستخدمه في فيترا.”
“ماذا؟”
“أعني أنني أنا فوسوني.”
كان وقع الإجابة أثقل من أن تحتمله دون صدمة.
كان عليها أن تكتشف نواياه منذ البداية. لكن رأسها أصبح فارغًا كلياً، وأصابعها كانت تعبث بأطراف أظافرها في توتر لا تستطيع إخفاءه.
فأن تضع قدمًا في ماء البحيرة شيء، وأن ترمي بنفسك فيها عاريًا شيء آخر تمامًا.
“لا أستطيع، يا سيدي. حتى وإن كانت مجرد نوتات بسيطة، فذلك—”
“المفاتيح كانت دمي، والنوتات كانت لحمي. كل قطعة أؤلفها كانت جزءًا من حياتي. لذلك رغبت دائمًا أن تترك آثاري صدى يتجاوز البحر إلى القارة الأخرى.”
“…….”
“لكن لنكن صادقين، ما أهمية هذا الحديث بالنسبة لكِ؟ لا يهمني مصير الآخرين كثيرًا. ما يهمّ هو وعدي لكِ بمكافأة مجزية وضمان حياتك.”
غيّر تيرينزيو اتجاه الحديث فجأة. وبينما كانت ألفيريل مستعدة للاستماع إلى اعتراف نبيل كالذي يُلقيه النبلاء عادة، اتسعت عيناها دهشة.
“ملك تريبيرار وملك فيترا كلاهما على علم بالأمر ووافقا عليه. لو كان هناك خطرٌ فعلي، لما أخبرتك بشيء من هذا أصلاً.”
اهتزّ بصر ألفيريل بحيرة وذهول. كانت تفكر، لو أخبرني بهذا من البداية… ومع صدمة ما سمعته، اختلطت الأفكار في رأسها. لم ترغب حتى في تخيّل كيف يمكن أن يكون ذلك ممكنًا.
“يا سيدي… تبدو وكأنك شخص يحتفظ بنسخة احتياطية من حياته في مكان ما.”
لم تجد ما تقول، وبعد تردد طويل خرجت الكلمات من فمها. عندها، رفع الرجل الذي كان يحدق بالأرض رأسه، والتقت عيناه بعينيها، وارتسمت على شفتيه ابتسامة.
كانت ابتسامة لم تتوقعها على الإطلاق.
وحين بدت عليها الدهشة، بدا هو بدوره مستمتعًا بتعبيرها. انحنت شفتاه في ابتسامة أوسع، وفي ضوء الغروب المتسلل من النافذة، تلألأت عيناه الحادتان وأنفه المرتفع بلون قرمزي.
كان كوهج لهب يتراقص. لم تستطع أن تصرف نظرها عنه. كانت تلك ابتسامة لا تليق برجل يبدو أن جسده كله صُنع من صلابة لا لين فيها.
“الآن… هلّا شرحتِ لي كيف تغضّ شمسُ المملكتين طرفها عن هذا السرّ؟”
خفضت ألفيريل وجهها المتورد خجلاً، وحاولت بصعوبة أن تغيّر مجرى الحديث بما خطر في بالها في تلك اللحظة.
كان تيرينزيو يُجادلها — إن جاز تسميته جدالا — متسائلاً بدقة عمّا إذا كان ذلك السؤال سيُحتسب ضمن الأسئلة المستحقة بعد نسخ عشر صفحات من النوتات الموسيقية. وظلا يتبادلان الكلمات حتى غروب الشمس، بينما كانت تراقبه يؤدي دور لوڤين فوسوني عن قرب.
وفي النهاية، بدأت تدرك — ولو قليلاً — سبب اضطرار ذلك الرجل لاستخدام اسمٍ مستعار. فقد كان المجتمع في فيترا ينبذ الرقابة على الإبداع الفردي بوصفها من المحظورات.
هناك، كان لكل إنسان الحق في أن يُحترم فنه وإبداعه. تابع تيرينزيو حديثه بحماس بدا عليه كلما تعلق الأمر بالموسيقى، فيما كانت ألفيريل تُصغي بإعجاب إلى قصص لم تسمعها من قبل، تهز رأسها باهتمام.
حلّ وقت الوداع المظلم بعد ساعات انقضت كلمح البصر.
وحين أسرعت ألفيريل بخطوات خفيفة نحو الباب، نهض تيرينزيو بدوره بخطى واسعة ليودّعها. لم يعد ذلك التصرف مفاجئًا كما كان في البداية. أما هي، التي كانت في أول الأمر تصرّ على الرفض، فقد اكتفت هذه المرة بالنظر إليه صامتة.
“فلنبدأ العمل غدًا، عندما تبلغ الشمس قمة تلك الشجرة. هل ثمة مشكلة؟”
“لا، لا مشكلة. هذا يناسبني.”
ساد للحظة شعورٌ بالتردد في الهواء. لعلّ جوابها لم يُرضِه مقارنة باللطف الكبير الذي أبداه نحوها. أدركت ألفيريل ذلك بسرعة، فسارعت إلى الإضافة:
“حقًا، يعجبني هذا، يا سيدي.”
كان في داخلها الكثير مما تودّ قوله. شيءٌ خفيف، غامض، بدأ يتململ في فراغ صدرها كأنه على وشك أن ينبت.
لكن ألفيريل، التي لم تعرف بعد اسم ذلك الشعور، اكتفت كالعادة بانحناءةٍ مهذبة ووجه وقور. أُغلق الباب، وتلاشى صوت خطواتها في الممر البعيد.
***
غير أن الليل، الذي بدا أنه سيمر بسلام، تحوّل بعد بضع ساعات فقط إلى فوضى لا يمكن وصفها. والسبب — ويا للمصادفة — كان العاصفة العاتية التي حاولت أن تجتاز أراضي سانت كالوميوم.
كانت تكره ذلك الصوت… صوت الرياح وهي تضرب الجدران كالسياط.
كانت نوافذ الممر ترتج بعنف تحت ضغط الرياح التي أخذت تفتحها وتغلقها بلا توقف. هرعت ألفيريل، وقد استيقظت لتوّها من النوم، ترتدي مجرد ثوب رقيق خفيف.
احتضنت جسدها المرتجف من البرد، تتفادى برك الماء التي تجمعت على الأرض وهي تسير بخطوات حذرة، تغلق النوافذ واحدة تلو الأخرى، وكل نافذة كانت تصطكّ كأنها ستتحطم.
دوّي! دوّي!
لحسن الحظ، لم تغطّ في نومٍ عميق، فتمكنت من منع الفيضان قبل أن يغمر القصر بأكمله.
دقّ! دقّ! دقّ!
وهي تسير بسرعة في ممرات الطابق الثاني تتفقد ما إذا كان هناك نافذةٌ أخرى مفتوحة، تجمّد وجهها فجأة. تفقدت مرارًا، ولم تجد نافذة واحدة مفتوحة بعد الآن.
فما هو مصدر هذا الصوت المتواصل الذي يشبه الطرق؟
ساورها شعورٌ مقلق، لكنها سرعان ما وجهت نظرها إلى النافذة التي كانت آخر ما أغلقته. القمر بدا هناك مستديرًا خلف ضباب السماء الكثيف.
“البدر؟” تمتمت لنفسها، فإذا بها تستعيد إحساسًا غامضًا بأنها نسيت أمرًا مهمًا. ثم اندفعت مهرولةً نحو الدرج.
بأقدام حافية محمرة من البرد، ركضت ألفيريل نحو بوابة سانت كالوميوم الكبرى. كان الصوت يأتي بالفعل من هناك.
ترددت، مضطربة، بين أن تفتح أو لا، لكن مع الطرق المتواصل والمستعجل، لم تستطع في النهاية تجاهله. وما إن فتحت الباب حتى اندفع صوتٌ غاضبٌ من الخارج دون أن يترك مجالًا لثانية واحدة من الصمت:
“يا سيدي! أتوسل إليك، رجلٌ لرجل، أو بالأحرى إنسانٌ لإنسان! حتى لو كان الأمر مقبولًا في الأيام العادية، فهل يعقل أن تتركني واقفًا في طقسٍ كهذا؟ لا يمكن أن تكون قد نسيت موعد البدر هذه المرة أيضًا! لقد كدت للتو أن أطير في العاصفة—”
كان المتحدث رجلاً تنهمر المياه من شعره الطويل متوسط الطول، وهو يصرخ بغضب بينما يعصر خصلاته المبتلة. لم تستطع ألفيريل رؤية وجهه بوضوح، إذ غطت الخصل الذهبية الموحلة عينيه.
ومع مرور الوقت دون أن يأتيه أي ردّ، بدا أنه أخيرًا شعر بشيءٍ غير طبيعي. رفع رأسه بعد أن كان يهزّه تبرمًا وهو يتمتم بشكوى، ليقابل نظرات ألفيريل المندهشة.
ثم فتح فمه ببطء.
تحية؟ أحقًا هذا وقت التحيات؟ ترددت ألفيريل، شفتيها تكادان تتحركان لتقول شيئًا، لكن الرجل، وقد استعان بجسارة مفاجئة، صرخ بصوت اهتز له مدخل القصر:
“يا سيدي! انزل بسرعة وانظر بنفسك!”
“أوه… أ، عذرًا…”
“اللعنة! يا سيدي! لدينا لص هنا! لقد قبضت عليه بنفسي!”
التعليقات لهذا الفصل " 13"