ظلٌّ كبير ألقى بظلاله على رأسها من الأعلى. ورغم مرور زمنٍ طويل، كان وجهه الأملس المهيب لا يزال يحمل ابتسامة مائلة تتسلل ببطء. تراجعت ألفيريل خطوة إلى الخلف أمام تلك الملامح الغامضة وفتحت فمها لتتكلم.
“أما زلتِ تنادينني بتلك الكلمة السخيفة “السيد الصغير”؟ ألا يمكنكِ التوقف عن ذلك بدءًا من الغد؟”
لكنها، حين همّت بالرد، لم تستطع أن تجد لقبًا مناسبًا له.
كلمة “اللورد” لم تكن ملائمة، إذ إنه لا يحمل لقب نبيل.
أما “دوق” فبدت وكأنها تسخر من رجل هو في النهاية ابن غير شرعي لعائلة دوقية.
ترددت ألفيريل طويلاً، ثم رفعت بصرها إليه وقالت:
“مساء الخير… يا سيدي.”
كان ذلك تصرّفًا معقولًا ينمّ عن قدرٍ مقبول من الذكاء. أثنت ألفيريل على نفسها في سرّها لتحسنها في التصرّف، وهي تراقب بحذر ردّ فعله.
كان تيرينزيو ينظر إليها بوجه ملامحه تنمّ عن ضيقٍ واضح.
عقد السيد الشاب حاجبيه فوق جبهته اللامعة، ثم حوّل نظره بعيدًا لبرهة، وعاد ليواجهها وهو يزفر بهدوء. مدّ ذراعه الرشيقة نحوها.
“بدأت أشعر بصداع بسببك. اسنديني.”
لم يمنحها تيرينزيو فرصة للتردد. أمسك بيدها، ووضعها فوق راحة يده الأكبر حجمًا مرتين على الأقل من يدها، ثم شبك أصابعه بها بهدوء وكأن الأمر طبيعي تمامًا.
قالت ألفيريل بصوت مهذب متماسك، رغم أن سؤالها خالف قواعد اللياقة:
“ما الذي يحدث بالضبط؟”
فأجاب تيرينزيو بلا مبالاة، وهو يواصل السير ساحبًا إياها معه:
“سؤالٌ جيد، ما الذي يحدث فعلًا؟”
وحين لمح ملامح الارتباك على وجهها، أضاف عذرًا بلا اهتمام:
“تظنين أنني قد أسقط، أليس كذلك؟ إذًا أمسكي بي.”
كان الصمت الثقيل الذي خيّم بينهما في الأيام الماضية قد تبخّر تمامًا أمام هذا التصرف المفاجئ. كانت ألفيريل تُجرّ خلفه بخطواتٍ مضطربة تحاول موازنة جسدها، ثم تمتمت:
“سيدي الشاب؟”
“نعم.”
خرج صوته وكأنه زفرة ثقيلة. كانت الظلال تحت عينيه اليوم أكثر عمقًا من المعتاد. وفكّرت ألفيريل أنه لا فائدة من استفزازه ما دام مريضًا، فتماسكت متجاهلة نظراته الثابتة التي لم تفارقها.
كانت نظراته تتجول في وجهها بطريقة لا توحي بأنه يطلب دعمها، بل كأنه يتفحصها بعناية. المرة السابقة حين طلب منها أن تمسك بيده أظهر انزعاجًا صريحًا، فكيف يحاول الآن لمسها بهذا الشكل الغامض منذ الصباح؟
راودها شعور بالريبة. كان تيرينزيو يحدّق في عينيها وأصابعها كمن يحاول تذكير نفسه بأنها موجودة هنا حقًا.
وفجأة توقف عن السير. ظلّ ممسكًا بيدها، وبدا وكأنه غارق في التفكير. كانت ملامحه خالية من الغضب أو الحساسية، حتى بدت في تلك اللحظة أكثر شبابًا.
قالت مترددة محاولة كسر الصمت:
“هل أنت… ثملٌ يا سيدي؟”
لم تستطع تحمّل الجو الثقيل أكثر، واحمرّت أذناها رغبة في الإفلات من قبضته. أجابها تيرينزيو بنبرة غامضة لا يمكن فهمها:
“في المرة الماضية كنت كذلك. أما اليوم فأنا في كامل وعيي.”
ولم يكد يُنهي كلامه حتى أطلق يدها فجأة. كان يبدو أكثر حيوية من قبل، لكن الدفء الذي خلّفه لم يغب عن كفّها.
ثم سحب كرسيًّا كان موضوعًا منذ زمن في زاوية الغرفة، ولوّح لها برأسه مشيرًا إلى أن تجلس. كانت خصلات شعره القرمزية الداكنة تلتقط وهج الغروب.
قال:
“اجلسي. لقد ألفتُ هذه المقطوعة بفضلك، لذا ينبغي أن تكوني أول من يسمعها.”
“أنا… عذرًا، ماذا قلتم؟”
شكّت ألفيريل في أذنيها. لكنه لم يبدِ نيةً للإجابة، بل اكتفى بأن تنفّس بعمق، ثم مدّ يده إلى البيانو المفتوح أمامه.
ظلّ ينظر إلى المفاتيح كمن سيبدأ العزف في أية لحظة. كان وقوفه المستقيم وأناقة هيئته تشبهان ذئبًا بريًّا فخمًا.
تقلصت شفتا ألفيريل قليلاً وهي تحاول استيعاب ما سمعت، ثم تماسكت، تشارك توتره دون أن تدري، فالمشهد كله كان يحمل جوًّا مشحونًا بالتوقع.
تيرينزيو كان مثالًا لما يُعرف في العالم بـ”العبقري غريب الأطوار”. كانت فيه جاذبية غامضة تسرق الأنظار وتشلّ الحركة. أمامه كانت ألفيريل تشعر دومًا بأن أطرافها تتصلب حتى آخرها.
رغم دهشتها، لم تكن خائفة كلياً. فمنذ يومها الأول في القصر وهي تتجنب الصعود إلى الطابق العلوي، ولم تسمع من عزفه إلا أصواتًا متقطعة عبر الجدران، لم تسمع قط أداءه الحقيقي.
نسيت بسرعة كلماته الصادمة وركّزت بوجه مفعم بالتوقع. بلغ التوتر ذروته، وكأن السكون نفسه سيُقطّع بالموسيقى في أي لحظة.
“الحركة الثانية لم تكتمل بعد… كنت أظن أنني اليوم سأتمكن من إنهائها.”
حولت نظرها سريعًا لتخفي خيبة الأمل التي ارتسمت على وجهها.
كانت الأوراق المبعثرة على البيانو تحمل خطًّا متداخلاً مضطربًا.
وعلى الرغم من قوله إنه لم يشرب، إلا أن كلماته منذ لحظات كانت متعثّرة، وها هو الآن وجهه متورد حتى أطراف أذنيه.
قالت بنبرة خفيفة تحاول بها تلطيف الجو:
“على الأقل لم تلقِ الكرسي هذه المرة.”
بدا عليها أنها تمزح، فقد ظنّت، مثل أغلب النبلاء الذين عرفتهم، أنه لا يقدر على ضبط عنفه.
فقال بهدوء مدهش:
“ربما يدوس أحدهم على الشظايا المكسورة.”
ارتبكت ألفيريل وتجنّبت النظر في عينيه.
ثم قالت، وهي تجمع الصينية من على الطاولة:
“هل هناك سبب يجعلك تستعجل إنهاء المقطوعة يا سيدي؟ أعلم أن كلامي قد يبدو تطفلا، لكن أحيانًا يكون التحرر من العجلة هو ما يزيد الإبداع.”
ثم تابعت وهي تضع الصينية جانبًا:
“على أي حال، أظن أن الوقت قد تأخر. الطعام الذي أعددته كان لحضرتك فقط.”
كانت الأطباق التي تركها عند الباب نظيفة تمامًا. بدا وجه تيرينزيو الآن أكثر حيوية، مما جعلها تشعر ببعض الارتياح، مطمئنة إلى أن جهدها لم يذهب سدى.
قالت بانحناءة خفيفة:
“شكرًا لك يا سيدي. إذًا، سأعود إلى عملي الآن.”
“الى أين تظنين نفسك ذاهبة؟”
رفعت رأسها بتفاجؤ. لم تكن تعرف إن كان استدعاؤه لها مجرد نزوة عابرة. وبينما كانت تهمّ بالنهوض، رفع يده عن جبينه وحدّق فيها.
“إلى عملي، يا سيدي…”
“وما هو هذا العمل تحديدًا؟”
اقترب منها بخطوات واسعة حتى غدا قريبًا جدًا. عندها قطّب حاجبيه فجأة، محدقًا في يدها الممتدة خارج الصينية، حيث ظهر جرحٌ صغير لم يلتئم بعد.
“ما هذا؟”
كان جرحًا بسيطًا أصابها قبل أيام عندما سقطت وهي تحمل الغسيل. أخفت يدها خلف ظهرها بسرعة.
“لا شيء مهم.”
“ألفي، لا تحاولي إخفاءه. كيف يكون هذا لا شيء؟”
رفع نظره إليها بعناد، وأمسك بمعصمها برفق ملحوظ، ينظر إلى الندبة الرفيعة التي شطرت كفّها عرضًا.
قالت بصوت منخفض:
“ليست إصابة خطيرة، يا سيدي. لا داعي لأن تقلق.”
ربما لأن حركاته كانت أقل قسوة مما توقعت، فقد وجدت نفسها لا ترتجف أمامه كما كانت تفعل من قبل. مقارنة بالدوق العجوز أو باللورد ليوبولد، لم يكن تيرينزيو مرعبًا إلى ذلك الحد.
ومع ذلك، فمهما يكن الشخص، فإن اقترابه المفاجئ بهذا الشكل كان كفيلاً بجعلها متوترة.
التفت تيرينزيو ببصره إلى الممر خارج الغرفة. ثم أرخى قبضته عن معصمها وسار بخطى هادئة إلى الخارج. نظر إلى أرجاء القصر التي غدت نظيفة بشكل ملحوظ، فأطلق ضحكة قصيرة غامضة لا يُفهم معناها.
“أظنني قلتُ لكِ بوضوح ألا تُثيري ضجة لا داعي لها.”
“لقد حرصتُ على ألا أُصدر أي صوت عال، تمامًا كما أمرتَ.”
“لم يكن ذلك ما عنيته. سؤالي هو: لماذا تقومين بأعمال شاقة كما لو كنتِ خادمة في هذا القصر؟”
نظرت ألفيريل إلى السيد الشاب بعينين يملؤهما الارتباك أمام حمايته التي لم تفهم سببها. إن لم تكن خادمة، فبأي صفةٍ إذًا تُقيم في هذا القصر؟
“أنا قِنة تابعة لعائلة هيرون. امرأة من طبقة أدنى حتى من الخدم.”
نظر تيرينزيو إليها بنظرة ضيق، ثم أطلق تنهيدة ثقيلة.
“على أي حال، توقفي عن هذا حالاً. يمكنكِ أن تستدعي خدم الجناح المنفصل مرة واحدة في الأسبوع، أليس كذلك؟”
“لا حاجة لأن تتحمّل عناء كهذا، يا سيدي. هذا العمل لا يُتعبني أصلاً.”
كادت أن تخطئ في فهم نبرته الجافة، لكنه في النهاية كان يعني أنه يريد أن يُخفّف عنها بعض العناء. هذا الردّ الغريب الذي لا تفهم سببه أعاد إلى شفتيها كلمات كانت على وشك أن تنطق بها منذ زمن، لكنها كتمتها مرارًا حتى اللحظة.
كان سؤالًا اندفع منها دون تفكيرٍ مسبق. فوجئت ألفيريل بنفسها، فحاولت أن تُنظّم أنفاسها المرتبكة قبل أن تعيد السؤال ببطء. ورغم أن السؤال بدا مستحيلاً، إلا أن الرجل اكتفى بالنظر إليها بتعبيرٍ يصعب تفسيره.
“أجبني، من فضلك. لم أكن أتوهم، أليس كذلك؟”
ذلك الوجه… كان يقول: أنتِ لم تخطئي بشيء.
إذًا، فلماذا غضبت؟
عندما استعارت شجاعةً واهنة وسألته، لم تتلقَّ سوى صمت اخترقها حتى العظم.
لكن ما كانت تسأله الآن لا يُقارن بما سألته في ذلك الحين. لم تتراجع ألفيريل، وقالت بثباتٍ يختلط فيه التردد بالعزم:
التعليقات لهذا الفصل " 12"