تدفّق ضوء الشمس على وجهها. كان تيرينزيو، الذي جلس إلى مكتبه طوال الليلة الماضية، قد اختفى منذ الصباح الباكر، ولا يُعرف إلى أين ذهب. أما ألفيريل، فبقيت وحيدة في الغرفة الفارغة تختبر صوتها قائلة: “آااه، آه”.
لم يتغير شيء في صوتها عمّا كان عليه قبل إصابتها بنزلة البرد. ارتاحت لذلك وأطلقت تنهيدة صغيرة.
عندما فتحت الباب محدثة صريرًا خافتًا، بدا لها الممر خاليًا ومهجورًا. لم يكن من المستغرب أن لا يُسمع أثر للسيّد الشاب، ومع ذلك، تملّكها شعور طفيف بالخوف والوحدة، لكنها لم تستسلم ومضت تتحرك.
ففي أيّ حال، إذا بدأت ترثي حالها، فلن تجني سوى مزيد من الوهن. لذا قررت أن تمضي يومها في العمل حتى الإنهاك، لتسدّ الطريق أمام أي أفكار عبثية قد تتسلل إليها.
وهكذا بدأت، كما عاهدت نفسها، أيام مزدحمة لا تعرف فيها للراحة طريقًا.
كان الرجل قد أمرها بألّا تصعد إلى الطابق العلوي حين تسمع عزف البيانو، لكن ذلك بدا مستحيلًا بالنسبة لألفيريل.
فهو كان يعزف في الصباح كما في الفجر، دون تمييز. وعندما كان عزفه يتوقف فجأة، كانت تنتابها نوبة قلق تدفعها إلى التفكير بفتح الباب المغلق خشية أن يكون قد حدث له مكروه.
وهكذا، وجدت ألفيريل نفسها تقضي معظم وقتها قسرًا في القصر الرئيسي لـ سانت كالوميوم، وقررت أن تشغل نفسها بما تستطيع فعله. والآن وقد تعافت تمامًا، لم يعد هناك ما يمنعها من الحركة والعمل.
كان القصر الكبير كارثة لا يمكن لإنسان واحد أن يعيد ترتيبه وحده. ومع ذلك، بدأت ألفيريل، محافظة على الهدوء قدر الإمكان تنفيذًا لوصية السيد، في تحويل القصر شيئًا فشيئًا.
بدأت في اليوم الأول بإزالة خيوط العنكبوت. صعدت سلّمًا قديمًا جلبته من المخزن، ولما راحت تمزق الشِّباك العالقة بيديها العاريتين، أحست حقًّا برغبة في البكاء.
ثم صنعت بنفسها مصيدة فئران لزجة من بضع حبّات بذور مع العسل، وأمسكت بفئران كانت منهمكة في التهام وجبتها الأخيرة، ثم أطلقتها خارج القصر.
كانت هذه الطرق مما تعلمته وهي تراقب باسكال، الذي كان يتولى شتى الأعمال الشاقة في قصر الدوق.
كان باسكال حاضرًا دائمًا في ذاكرتها. ربما لأنها اعتادت على وجوده إلى حدٍّ جعلها تظن أن علاقتهما ستستمر إلى الأبد دون أن تفكر في غير ذلك.
ولتطرد عن نفسها الكآبة التي كانت تغمرها أحيانًا، انغمست ألفيريل في التنظيف، تمضي أيامها في الكنس والمسح دون توقف.
وفي أحد الأيام، بعد أن أنهكتها مهمة تنظيف الزخارف الثمينة في القصر، قررت أن تمنح نفسها حيلة صغيرة للراحة. فقد كانت، بعد ساعات من الغبار والكآبة، تتوق بشدة إلى الهواء النقي والطبيعة الخضراء.
صعدت عبر الدرجات الكثيرة إلى أعلى نقطة في القصر، وانحنت عند النافذة الحادة تطل على الخارج. وفي الأيام التي يخفّ فيها الضباب حول سانت كالوميوم، كان بإمكانها أن ترى الغابة الكثيفة والجبال البعيدة تحت غروب الشمس.
لكن في معظم الأحيان كانت الغيوم الرمادية تحجب المشهد. ومع ذلك، كانت تستشعر في ذلك الخفوت غموضًا لطيفًا لا يخلو من جمال.
وحين كانت تخفض بصرها، كانت ترى بعض الخدم القلائل يتحركون بين المبنى الرئيسي والجناح الجانبي. كان لا يزال هناك، كما قال السيد، قلة من الناس يؤدون واجبهم في هذا المكان المعزول.
وأحيانًا كانت تراودها رغبة في تحيتهم، لكنها كانت تتراجع خشية أن يُساء فهمها.
“باسكال، هل وقعت أنت أيضًا في شِباك تلك القِنة القذرة؟”
لم يكن في هذا القصر الواسع سواهما. ولو بدأت شائعات مماثلة لتلك التي طاردتها في قصر الدوق، فسيكون احتمال احتمالها لذلك ضئيلاً.
ومع استثناء تلك المضايقات القليلة، كانت حياتها في القصر أحرّ وأقرب إلى الحرية مما توقعت. بل إنها للمرة الأولى تغني دون أن يأمرها أحد.
― “فوق سماء رمادية لا نهاية لها، أنت وحدك تبقى خالدًا……
لماذا شفاهك التي تلامس قدمي باردة إلى هذا الحد؟ آه، لا ترحل… لا تتركني…”.
ومنذ أن نطقت بها أول مرة، صارت الأغاني الشعبية تتسلل من شفتيها دون وعي، حتى كانت تُفاجأ بنفسها وهي تغني.
كانت تشعر أحيانًا بأنها تحوّلت حقًّا إلى خادمة بسيطة في العشرين من عمرها. وربما لو سمعها أحد لاعتبرها مغرورة، لكنها لم تستطع إنكار ما كانت تحسّ به من رضا.
قضت أيامًا في تلميع الأثاث وغسل الملابس بالماء البارد. راحت نعومة يديها البيضاء تتلاشى شيئًا فشيئًا، ومع ذلك، لم يكن يؤرقها سوى أمر واحد.
فالمؤن التي خزّنتها في المستودع كانت توشك على النفاد.
حساء، يليه حساء، ثم يخنة أحيانًا. كانت تعدّ أطباقًا خفيفة يسهل خلط الدواء بها، وتناسب السيد الضعيف الذي لا يقوى على الهضم بسهولة.
لكنها كانت تتردد قبل أن تطرق بابه، إذ تخشى أن يثور عليها كما حدث في أول يوم، حين طار أحد الكراسي باتجاهها. لذلك، كانت تضع صينية الطعام أمام الباب وتنسحب بهدوء.
أحيانًا، تبقى الأطباق على حالها حتى غروب الشمس، وأحيانًا تختفي بسرعة، فيسهل عليها جمعها وتنظيفها.
ومع مرور الأيام، عاد تيرينزيو ليصبح بالنسبة لألفيريل ككائن غامض مجهول. وربما كان ذلك يظلمه، لكن ما لا يُرى دائمًا أكثر رعبًا مما يُرى.
كانت تفكر أحيانًا في أن تتحدث معه بشأن نقص الطعام، لكن لم تكن تملك الشجاعة لذلك. المال لم يكن المشكلة، فالمبلغ الذي سلّمها إياه ليوبولد حين غادرت قصر الدوق كان كافيًا، لكن الصعوبة كانت في مكان القصر نفسه.
فسانت كالوميوم بُني في مكان معزول تمامًا. ومنذ أن غادرت العربة التي أقلّتها إلى هنا، صارت كأنها تعيش مقطوعة عن العالم الخارجي.
كم من الوقت سيستغرقها السير للوصول إلى قرية لا تعرف موقعها أصلاً؟ وهل يمكن أن تضلّ طريقها، أو تصادف لصوصًا، أو تعلق وسط عاصفة ثلجية فتموت من البرد؟ كانت بحاجة ماسة إلى عونٍ من أحد.
وبينما كانت تستسلم لهذه المخاوف المتلاحقة، وجدت نفسها أمام باب غرفته في الطابق الثاني. كانت الصحون التي وضعتها صباحًا قد أُفرغت وتركها عند الباب.
وفي اللحظة التي انحنت فيها لتلتقط الصينية، انبعث من خلفها لحن خافت. حتى مع الجدار الفاصل، استطاعت أن تتخيل أصابعه وهي تحلّق بخفة فوق المفاتيح بإتقان مذهل.
ربما كانت موسيقاه قادرة فعلاً على شفاء العيون، كما تقول الشائعات.
استعادت ألفيريل ذكرى تلك القصة التي كانت تظنها سخيفة. فبينما كانت تصغي إلى ذلك الصوت الهادئ والعذب، الممزوج برهبةٍ غامضة، أحست أن في الأمر صدقًا.
كان السيد الشاب يغرق كليًّا في موسيقاه. موسيقاه هي تيرينزيو هيرون، وتيرينزيو هيرون هو موسيقاه.
موهبة لا يمكن مقارنتها بها، هي التي لم تكن تعرف سوى مجاراة مزاج الآخرين لتنجو من العقاب.
كانت هذه المرة الأولى التي تختبر فيها الإحساس بأن الموسيقى ترسم لوحات أمام عينيها، فشعرت بحرارة الخجل تتسلل إلى أطراف قدميها. ومع ذلك، لم يكن ذلك غريبًا إذا ما تذكّرت ماضيها.
كان جمهور ألفيريل من النبلاء ذوي النظرات الطامعة والوجوه اللامعة. كانوا يصغون إلى الأغاني التي كانت تؤديها بلا إحساس، ثم يقتربون منها ليسألوها بإلحاح عن معاني كلماتها.
ولو استطاعت، لقالت لهم إن تلك المعاني لم تكن موجودة أصلاً. فما كان يهمّها لم يكن سوى تلك الأشياء البسيطة التي كانوا يسخرون منها.
أي صوت يجب أن أستخدمه كي لا أغضب سيدي؟ كيف أبتسم كي لا أحرم من العشاء؟
لم تكن تعلم إن كانت قادرة على العودة إلى تلك الحياة القديمة، لكنها، في قرارة نفسها، لم تكن تبالي إن لم تعد.
هكذا كانت تشعر حقًا. أسندت يدها إلى الجدار محاولة أن تنهض.
مرّت خمسة أيام منذ أن رأت وجهه آخر مرة. كان منغلقًا في غرفته، يعيش حياة ناسكٍ يهرب من شيء ما.
وقد بدت لها قدرته على البقاء حيًّا رغم هذه العزلة أمرًا يدعو إلى الدهشة، حتى إنها تساءلت أحيانًا إن كان الإله الذي منحه موهبته الموسيقية يعتني به بنفسه.
هزّت رأسها يمينًا ويسارًا عدة مرات محاولة أن تُصفّي ذهنها. تسلّل إلى أذنيها صدى لحن مبهج لم تسمعه من قبل. كان عزفًا صار الآن جزءًا من حياتها اليومية. يومًا يكون فالسًا، ويومًا مقدّمة موسيقية، ثم في يومٍ آخر…
“ألفي”
حدث ذلك في اللحظة التي كانت فيها تهمّ بمغادرة المكان.
وفوق فراغ أحدثه توقّف اللحن في لحظة لا تدري متى انقطعت فيها الموسيقى، انبعث صوتٌ ما كان ينبغي أن تسمعه الآن. كان صوته منخفض النبرة، فارتجف قلبها بخفّة استجابة له.
توقفت خطى ألفيريل التي كانت تتقدم إلى الأمام ببطء. وبحركة غريزية، كبحت ارتجاف شفتيها بأسنانها، ثم أمالت رأسها ببطء نحو مصدر الصوت. انعكست في عينيها الصافيتين حمرة كدم سال فيها.
“أخبرتكِ ألّا تأتي، هل أخذتِ كلامي على محمل الجد فعلاً؟”
التعليقات لهذا الفصل " 11"