تمتم الرجل بكلمات سبّ مبهمة، وأطلق زفيرًا ثقيلًا. بدا وكأنه يصارع مرضًا قاسيًا لا يُحتمل. فاقتربت ألفيريل منه بخطوات متوترة.
“أردت القول… ليس هناك ما يدعو للقلق، فلا تشغلي بالك.”
“من الأفضل أن تتخلّى عن هذا العناد الفارغ، حالك يوحي وكأنك ستسقط في أية لحظة! لا، لا يمكن… أهو بسبب الطبخ؟ في هذا المكان، حتى لو استدعينا طبيبًا فسيستغرق وقتًا طويلًا—”
قطّب تيرينزيو حاجبيه وتمتم قائلًا:
“ألفي… اللعنة… ليس كذلك. فقط… لم أتناول طعامًا منذ زمن طويل”
“عذرًا؟”
“لقد تناولت شيئًا على معدة فارغة منذ وقت طويل، فالتوت معدتي لا أكثر. أنا بخير.”
“ماذا تقول؟”
سألت ألفيريل بصوتٍ أشبه بالحديث إلى نفسها. كانت مندهشة إلى حدّ أنها لم تستطع رفع صوتها. أما تيرينزيو فلم يُضف شيئًا، واكتفى بمسح فمه بيده.
وربما لم يكن قوله أنا بخير مجرد هراء، إذ بدا أن الألم بدأ يتلاشى تدريجيًا، وعادت أنفاسه إلى إيقاع منتظم. عندها تمتمت ألفيريل بصوت متردد، محاولة الحفاظ على هدوئها المعهود:
“حقًا؟ ألن نستدعي الطبيب؟”
“قلت لك، لا داعي.”
“كم… كان عليك أن تجوع لتصل إلى هذه الحالة؟”
“ليس لدي تقويم لأحسب الأيام.”
أسند ذقنه إلى كفه، وما زال وجهه متجهمًا. أما ألفيريل فقد نسيَت كل ما كانت تفكر فيه، وقالت بذهن خاوٍ:
“من العجيب أنك ما زلت على قيد الحياة.”
فيما أنهى تيرينزيو نصف الطبق ببطء، ظلت ألفيريل تعبث بطعامها دون أن تأكل فعليًا. لم يكن الطعم يوحي بوجود أي دواء غريب داخله، بل كان لذيذًا وبسيطًا. وهكذا أزاحت عن كاهلها همًّا كبيرًا واحدًا على الأقل.
لكنّها رغم ذلك لم تستطع طرد فكرة أنها تورّطت في أمرٍ أكبر من قدرتها على الاحتمال.
ومع ذلك، وبالرغم من كل شيء، فقد كانت ألفيريل مجرد قنة مخلصة بطبعها. وما إن سمعت صوت الكرسي يُسحب حتى سارعت إلى أداء واجبها، فاقتربت لتساعده على النهوض.
“……”
لكنه لم يتحرك. ساد صمتٌ غريب، فرفعت رأسها لترى نظراته تتجه نحوها بشكل غامض. وما لبث أن رفع ذراعه، متأملاً إياها بعينين لا تُقرأ ملامحهما.
“ما الذي تظنين أنكِ تفعلينه؟”
“ألست تحاول النهوض؟”
على عكس صوته المليء بالنفاد، كانت عيناه تحملان بريقًا خافتًا من الابتسامة. وما إن اتسعت عينا ألفيريل بدهشة حتى قال بلهجة أقرب إلى التوبيخ:
“أتظنينني مريضًا يحتضر؟ اتركي يدي.”
حين حاول تيرينزيو إبعاد يدها، أمسكت ألفيريل بمعصمه من جديد. لم تكن تريد أن ترى سيدها ينهار أمامها مرة أخرى.
“دعني أساعدك. هذا ليس عبئًا عليّ.”
“من أين جئتِ بهذه السخافات؟ دعي يدي قبل أن تؤذي نفسك.”
“سيدي.”
قالت ألفيريل بنبرة حازمة:
“الألم ليس عيبًا يجب إخفاؤه. كل إنسان يولد وله جانب هش.”
‘ذلك الشاب يكره الدواء. يحاول إخفاء مرضه.’
كانت كلمات الدوق ليوبولد تتردد في رأسها. بدا لها هذا السيد العنيد مثيرًا للشفقة، ومع ذلك، فالألم متساوٍ أمام الجميع.
“أرجو ألا تعتبر كلامي وقاحة، ولكن صحتك ستتحسن كثيرًا لو واظبت على وجبةٍ منتظمة وتناولت الدواء. يمكنك الوثوق بي.”
“……لا أفهم حرفًا مما تقولينه.”
رغم أن انطباعها الأول عنه لم يكن جيدًا، إلا أن ذلك لم يعد يعني شيئًا الآن. فمزاجه المتقلب يكفي لتجعل نفسها تتفادى غضبه في الوقت المناسب.
أن تتناول طعامًا من صنع نبيل، كان حدثًا أولاً وأخيرًا في حياتها؛ أما بالنسبة له فربما لم يكن سوى نزوة عابرة، لكن بالنسبة إليها كانت لمسة لطفٍ غير متوقعة.
وأخيرًا، ترك تيرينزيو ذراعها وسار نحو الباب. وبسبب ضخامة جسده، بدا الأمر وكأنها تُسحب وراءه أكثر مما تُعينه، لكن مجرد كونها تمسك به كان كافيًا.
وفي حين أمسكت ألفيريل الصينية بيدها الأخرى، رفع هو الشمعدان لينير الطريق. كانت العتمة قد غمرت القصر تمامًا، ولم يكن أمامهما سوى ضوء تلك الشمعة الصغيرة.
ولدهشتها، لم يُبعد يدها هذه المرة، ولم يُظهر أي انزعاج كما فعل من قبل.
وفجأة، أدركت ألفيريل أن رائحته — الممزوجة بعطر النبيذ الأحمر — لم تكن سيئة كما ظنت. بل كان فيها عبير أوراق عطرية ناعمة.
“هل أستطيع أن أطرح سؤالاً؟”
“وهل كنتِ تسألين قبل أن تتكلمي أصلا؟”
“……”
“أي، بعبارةٍ أخرى، تفضّلي.”
“كيف كنت تتدبّر أمورك في النظافة… كالماء الساخن أو الحلاقة؟”
لم يأتِ أي جواب. وبينما كانت على وشك التوقف عند الدرج المؤدي لغرفته، تابع هو السير متجاوزًا إياها. فسارعت للحاق به.
“سيدي؟”
“لا توجد مصابيح تعمل في هذا القصر. كيف كنتِ ستمرين بهذا الممر المظلم من دون شمعدان؟”
لم تعرف إن كان ذلك نابعًا من لطف أم من سخرية. ومع كل خطوة، كان الضوء يكشف الغبار الذي تراكم على الأثاث، كاشفًا عن أشياء كانت مطموسة منذ زمن.
ورغم نظراته التي بدا فيها شيء من التأمل، لم ينطق بكلمة.
سار الاثنان بخطوات هادئة حتى وصلا إلى غرفة تُستخدم للغسيل.
تركت ألفيريل ذراعه، وانشغلت بجمع الأطباق وتنظيف المكان. قررت أن تؤجل ما تبقّى من العمل إلى صباح الغد.
وبينما كانت تزيل الغبار عن يديها وتلتفت إليه، قالت:
“شكرًا على الانتظار. لقد انتهيت من كل شيء… سيدي؟”
لم تجده. لم يبقَ سوى الشمعدان المضيء مكانه.
وقبل أن تناديه، جاء صوته من جهة أخرى:
“هنا.”
كلما اقتربت من مصدر الصوت، أحاطها البرد أكثر. كانت ترتجف داخل ثوبها الرقيق ولم تكن ترتدي معطفاً. كان الصوت يأتي من مخزن منعزل عن بقية الغرف.
وعندما أضاءت الشمعة، ظهر وجه تيرينزيو في الضوء.
“كنت أستخدم الماء من هذا المكان للاستحمام. ستحتاجين إليه أيضًا.”
كانت أمامها برميلٌ خشبي دائري، يشبه تلك التي تُخزَّن فيها الخمور الرخيصة.
فتحت الغطاء وأضاءت داخله، فتجمدت على حالها.
“أ… أكنت تُسخّن الماء أولاً؟”
“هل فقدتِ صوابك؟ ولماذا أعرّض نفسي للحرق؟ لن أضرّ بيديّ من أجل ذلك.”
“لا أعلم أيّهما أفضل إذًا… الحروق أم قضمة الصقيع.”
كانت على سطح الماء المتجمد طبقة رقيقة من الجليد. ارتجفت ألفيريل وهي تمسح ذراعيها، ثم أعادت الغطاء بإحكام.
“حتى رجلٌ سليم البدن كان سيموت لو أقام هنا شهرًا كاملاً. إن كنت ما زلت حيًا، فربما لأنك أقوى مما تبدو… على أي حال، لنعد إلى الأعلى.”
أمسكت بذراعه بخفة، دون أن تدري إن كان ذلك بدافع القلق أم الواجب. اجتاحها شعورٌ ثقيل كأن موجة عاتية ابتلعتها.
لم تشعر بكل هذه المشاعر المتداخلة منذ زمنٍ بعيد.
“أترين هذا القصر بهذا السوء؟”
سألها بصوت جافّ. لم يكن لطيفًا، لكنه لم يكن قاسيًا أيضًا. وبينما كانت تبحث عن إجابة مناسبة، فاتتها اللحظة.
ظلت كلماته تتردد في ذهنها.
ففي قصر الدوق، كانت ألفيريل تحيا بين فساتين حريرية ومجوهرات براقة، وتأكل كالعصفور وتغني بصوت رقيق كصوت الكناري.
كانت حياتها — من بعض الجوانب — أرقى حتى من حياة النبلاء. لذلك بدا لها كل شيء هنا غريبًا ومربكًا.
وفكرة أن عليها قضاء عامٍ كامل في هذا المكان جعلتها أكثر توترًا.
توقفا أمام باب غرفته. ناولها الشمعدان بصمت.
خفضت نظرها وقالت:
“أعتذر إن كنتُ قد أغضبتك. لم أقصد إلا أن أقول إنني أشعر بالخجل فقط. فكان يجدر بي الآن أن أنظف القصر وأعدّ لك الطعام…”
“وتريدين أن تفعلي كل ذلك بهذا الجسد الواهن؟”
كان صوته باردًا، كما لو أن حديثها كله كان يزعجه.
“لا أفهم أصلاً لماذا تظنين أن أعمال القصر من مهامك. ما الذي أوصاك به شقيقي عندما أرسلك إلى هنا؟”
هبط قلب ألفيريل إلى قدميها.
هل اكتشف أنني أضفت الدواء سرًا؟
خفضت رأسها، تراقبه بحذر، لكنه لم يبدُ كمن اكتشف شيئًا.
“لقد… أُرسلتُ لأعتني بك، سيدي…”
“إذن، إن جئتِ للعناية بحياتي، فركزي عليّ فقط.”
رفعت ألفيريل رأسها فجأة.
كان الباب يوشك أن يُغلق.
مدّت يدها وأمسكت بطرف كمّه دون قوة تُذكر.
وعندما التفت، سحبت يدها على الفور.
التقت أعينهما.
تراجعت خطوة إلى الوراء وهي تلمس بأطراف أصابعها المكان الذي أمسكت به قبل قليل.
“قلت إن عليّ الاعتناء بك… أليس من الطبيعي أن أكون بجانبك إذن؟”
في الحقيقة، كانت تخاف أن تمضي الليل وحدها.
خشيت أن تعود الحمى وتطاردها الكوابيس كما في الليلة السابقة.
كانت كلماتها حيلة مكشوفة، لكنها علّقت أملها على مزاجه المتقلب.
رمقها تيرينزيو بنظرة مائلة وقال فجأة:
“هلّا توقفتِ عن مناداتي بـسيدي؟”
تصلبت ألفيريل مكانها.
لم يكن صوته صارمًا كما توقعت، لكن كلماته كانت غير متوقعة على الإطلاق. فبماذا يريد أن يُنادى إذًا؟
وحين تأخرت في الرد، عبس قليلاً وقال ببرود:
“ادخلي.”
كانت موافقة أسهل مما توقعت.
تبعت خطاه داخل الغرفة، ولا تزال ملامح الذهول مرسومة على وجهها.
امتلأت الغرفة برائحة الورق القديم، مزيج من الدفء والعزلة.
أشار تيرينزيو لها بالجلوس على الأريكة أمام الموقد، وجلس هو إلى مكتبه.
ومن بين أكوام الأوراق انتقى نوتتين موسيقيتين، غمس قلمه في الحبر، وبدأ بالكتابة.
صوت القلم على الورق، واحتراق الحطب في الموقد، نسجا معًا سكونًا دافئًا.
وبينما كانت ألفيريل تراقبه بهدوء، تسللت إليها غفوةٌ ناعمة، واستسلمت للنوم في دفء المكان.
—
الفصول القادمة ستُنشر أولًا وحصريًا على قناة التلجرام 💌 لا تفوّتوا الأحداث! الرابط في التعليقات
التعليقات لهذا الفصل " 10"