1
كان ذلك في وسط القاعة الكبرى الفخمة المهيبة.
وسط الحشود التي ترتدي بدلات سوداء وتتحدث همسًا، كانت امرأة ذات قامة مستقيمة تغني بصوت جميل. كانت حفلة تأبين للدوق هيرون، الذي انتهت حياته مؤخرًا إثر نوبة قلبية مفاجئة.
في قاعة الاحتفال الكبرى التي اتسمت بجو من الاضطراب تبعًا لطبيعة المناسبة، كانت الوحيدة التي حافظت على هدوئها وثباتها هي تلك المغنية التي تحركت شفاهها برقيّ وأناقة. وكأنها قد نبتت في ذلك المسرح منذ البداية، لم يكن في هيئتها شائبة واحدة.
ـ “الآن، في هذه اللحظة التي حلّت فيها ساعتنا الأخيرة…”
كان صوتها عذبًا نقيًّا إلى حدٍّ مدهش، وجمال ملامحها لا يقل روعة عن نقاء صوتها. لم تتوقف أنظار النبلاء الذين نسوا حتى وقار المناسبة عن التحديق خلسة في تلك الحسناء المتألقة.
وحين أنهت أغنية التأبين القصيرة وانحنت لتحيّي الحاضرين، انطلقت تصفيقات خافتة تليق بالمقام، فيما تحركت ساقاها المستقيمتان بخفة راقصة. شعرها الداكن، الذي يشبه ريش الغراب، انساب بهدوء عبر الممر الضيق خارج المسرح.
لقد تراقص في البصر طيف لون تلك المرأة التي كانت أشدّ سوادًا من الليل وأنصع بياضًا من النور.
وفي تلك اللحظة، توقفت خطاها المتهادية فجأة وهي تترنح قليلًا. كان الفستان المصمم لإبراز انحناءات جسدها مشدودًا عند الخصر بشدة، حتى إن مجرد الجلوس به كان نوعًا من العذاب.
قال أحدهم بقلق:
“ألفيريل! هل أنت بخير؟”
أسرع رجل كان يراقبها بقلق من بعيد نحوها ليسندها. فاستندت ألفيريل إلى كتفه الممدود، والتقطت أنفاسها ثم ابتسمت ابتسامة باهتة مطمئنة.
لكن وجهه بدا أكثر أسى من أن يطمئن، بل كان يفيض بالشفقة والقلق. كان شابًا ذا شعر وعينين بنيتين، جمع أطراف ألفيريل المترهلة برفق.
كان باسكال مولر، صديقها الوحيد ورفيقها في العبودية. قرأت ألفيريل بوضوح القلق المرتسم في عينيه، فسارعت إلى الكلام قبل أن يزداد عتابه.
“لماذا كل هذا الذعر؟ أنا بخير. هل رأيتني يومًا ولم أكن بخيرًا؟”
“لكن أنتِ…”
“ثم إن أدائي اليوم كان مثاليًّا باعتراف الجميع. شكرًا لك، باسكال، فأنا أيضًا أرى ذلك.”
نجحت بثرثرتها المتواصلة في إسكات باسكال، بل رسمت على شفتيها ابتسامة صغيرة. تنهد هو بعمق كمن لا حيلة له.
كانت ألفيريل، الفتاة التي وُلدت ونشأت في قصر الدوق، قِنَّة تابعة لعائلة هيرون — إنسانة، لكنها ليست إنسانة بحق، بل دمية متحركة.
منذ عصور سحيقة، بعد سقوط الإمبراطورية القديمة، قامت مملكة تريبيرار على أنقاضها، واستولت بعد حروب لا حصر لها على أخصب بقاع القارة الممزقة. وكانت أسرة الدوق — هيرون، أسياد ألفيريل — من أوفى تابعي التاج الملكي.
لقد كانت عائلة هيرون دائمًا من أغنى وأقوى العائلات النبيلة في مملكة تريبيرار، ومن الطبيعي أن يكون قصر الدوق مركزًا للترفيه والحياة الاجتماعية في الداخل. ومع كثرة الحفلات واللقاءات، احتاجوا دائمًا إلى وسائل جديدة للمتعة والتسلية.
ولهذا كان من المعتاد في المملكة اختيار بعض الأقنان الموهوبين من كل أسرة وتدريبهم على الفنون كالرسم والموسيقى والعمارة.
ومن بين مئة ألف قِنّ تابعين لعائلة هيرون، كان من الطبيعي أن تقع عين الدوق الراحل على ألفيريل، تلك التي امتازت بجمال فريد وصوت ساحر.
لقد أحبّ الدوق في حياته موهبتها النادرة وجمالها الفاتن، فموّل تعليمها العالي في الأوبرا، وكان يتباهى بها كما يتباهى بدمية ثمينة يصطحبها معه أينما ذهب.
لذلك لم يكن غريبًا أن يقلق باسكال عليها بعد وفاته، كما لو كانت طائرًا وليدًا عاجزًا عن الطيران. فهذه الفتاة التي كانت تردد دائمًا “أنا بخير” لم تكن يومًا تُظهر ما يختلج في صدرها للآخرين.
“حقًا، لا تقلق. والآن أنت أيضًا—”
“باسكال مولر، هل وقعت أنت الآخر في حبّ تلك العاهرة القذرة؟”
اخترق صوت حاد فجأة سكون المكان كالسيف.
ضحك بعض الخدم الذين اقتربوا دون أن يُنتبه إليهم عندما رأوا ألفيريل متكئة على باسكال. بعضهم أطلق ضحكات فظة، وآخرون لم يترددوا في التفوه بإهانات سوقية.
“لماذا لا تذهبان إلى الإسطبل الخلفي لتكملا ما بدأتماه؟ نود نحن أيضًا أن نستمتع بالمشهد!”
همّ باسكال بالقيام غاضبًا، لكن ألفيريل أمسكت بطرف قميصه لتمنعه. كان في عينيها الزرقاوتين الباهتتين أثر واضح من الإرهاق، وهمست بصوت متعب لكنه حازم:
“اصبر! لا داعي لافتعال شجار بسببي. ليست هذه المرة الأولى.”
صحيح أن بعض الخادمات كن يُجبرن أحيانًا على دخول غرف أسيادهن، لكن الدوق الراحل لم يطلب من ألفيريل مثل هذا الأمر قط.
لحسن حظها، كان يعتبرها شيئًا ثمينًا يقتنيه، لا امرأة يشتهيها.
ومع ذلك، فإن الحسد من نِعَمِها على الدوق جعل الآخرين يختلقون الشائعات حولها.
القلّة فقط، كعائلة باسكال — أشقائه خياطين ووالده الحداد التابع لقصر هيرون — لم يشاركوا في تلك المهزلة. كانت الإهانات المتكررة مؤذية بما يكفي لتُغضِب، لكنها تافهة أكثر من أن تستحق ردًّا.
قال باسكال بصوتٍ حانق، يعضّ على أسنانه:
“…يبدو أنكِ مرهقة. اذهبي واستريحي.”
ربّتت ألفيريل على كتفه مراتٍ قليلة، ثم أسرعت لتدفعه إلى الانصراف. كان المئات من النبلاء يزورون القصر لتقديم التعازي، وهو بدوره كان مشغولًا، ومن المؤكد أنه اقتطع وقتًا ثمينًا ليأتي لرؤيتها.
تابعت ألفيريل بنظرها ظهر صديق طفولتها وهو يبتعد.
‘ ربما أستطيع إخفاء بعض الحلوى المتبقية من الفجر وأجلبها له… يمكننا أن ندعو إخوته ووالده ونتظاهر بأننا نقيم حفلة شاي صغيرة… سيُسعدهم ذلك كثيرًا.’
وبينما كانت غارقة في هذه الأفكار الطفولية اللطيفة، دوّى صوت منخفض خلفها فجأة:
“هل هو حبيبك؟”
انتفض شعر جسدها كلّه من الفزع. لم تسمع أي ضوضاء تُنذر بقدوم أحد، لكن الهمس كان قريبًا جدًا، بنبرة تبدو ودودة للوهلة الأولى. ومع ذلك، لم تحتج ألفيريل إلى الالتفات لتعرف صاحبه.
“…سيدي.”
“أجِبيني. هل هو حبيبك؟”
كان ذلك ليوبولد تاسيلو شولمان بيلكتولد هيرون — الوريث الشرعي لدوقية هيرون، الذي تجاوز الرابعة والعشرين بقليل، وابن الدوق الراحل. لمع في عينيها الزرقاوتين الخافتتين بريق من القلق.
كان رجلًا ذا وسامة لامعة وابتسامة دافئة، محبًّا للجميع، حتى الخدم أحبّوه لوداعته. لكن ما الذي أتى به إلى هنا بدلًا من استقبال المعزين؟ لم تستطع أن تفهم.
قالت وهي تبتسم بتكلف:
“بالطبع لا، إنه مجرد صديق.”
كلمة “حبيب” لم تكن تُقال في عالمها، فالعلاقات كهذه محرّمة على من في مقامها. ارتجفت حنجرتها بخفة.
لم تعرف السبب، لكنها لم تشعر بالارتياح نحوه قط. كان يتحدث إليها دومًا بنبرة ودودة مفرطة، رغم أنه لم يخاطبها كثيرًا من قبل، مما جعلها تشعر بنفور خفي.
“هممم… لا يبدو الأمر كذلك.”
“إنه حقًا كذلك.” أجابت بهدوء وهي تهز رأسها.
حين وضع يده الثقيلة على كتفها وأدارها نحوه، دارت بخفة كدمية هشة، وكتمت صرخة اختنقت في صدرها وهي تلمس الأرض بكعبها.
تألّقت عينا ليوبولد الخضراء وشعره الأحمر الكثيف في ضوء الشموع، يشبهان تمامًا ملامح والده الراحل. نظر إلى ألفيريل الصغيرة من رأسها حتى أخمص قدميها بنظرة فاحصة وقال:
“كانت أغنية التأبين رائعة حقًا. لقد أدركت الآن لماذا كان والدي يقدّركِ كثيرًا.”
“شـ… شكرًا جزيلًا، سيدي.”
خرجت الكلمات منها آليةً من شدة التعود، فأطلق هو ابتسامة راضية. كان شابًّا وسيمًا مفعمًا بالحيوية.
ثم سأل فجأة بنبرةٍ يصعب تفسيرها:
“حين كان الدوق على قيد الحياة، أي نوع من التعليم تلقيتِ إلى جانب الأوبرا؟”
رفعت ألفيريل نظرها إليه بحذر، تحاول استكشاف مقصده، ثم أجابت بعد لحظة صمت قصيرة بصوت خافت مطيع، إذ لم يكن لها أي خيار آخر.
قالت ألفيريل بصوت خافت:
“كنتُ أدرس أساسيات تاريخ تريبيرار، إضافةً إلى اللغات اللِّتْنيّة، والغروتية، والنيمليانية، ثلاث أو أربع مرات في الأسبوع. إلى جانب ذلك، درستُ الفنون، وآداب السلوك، والموسيقى أيضًا…”
“هكذا إذًا.”
قاطعها الرجل بتنهيدة إعجاب خافتة. كانت عيناه المائلتان اللتان منحتاه عادةً مظهرًا وديعًا تبدوان الآن قاسيتين ومهددتين. اقترب ليوبولد منها خطوة واحدة.
قال بصوت بارد:
“مذهل… لا بدّ أن الأمر كلّف ثروة طائلة.”
امتدت يده الكبيرة الخشنة تمسّ عنقها النحيل، فانكمشت بشرتها تحت برودة أطراف أصابعه. خطف بصره ما تدلّى من عنقها من عقد مرصّع بالجواهر البراقة.
قال ساخرًا:
“أما أنا، فلا أرى أن امرأةً من الأقنان تستحق كلّ هذا القدر من العناية… لكن يبدو أن والدي كان يرى الأمر على نحوٍ مختلف.”
انبثق من صوته المائل إلى الخمول عداءٌ واضح. خفق قلب ألفيريل بقوة، حتى خُيّل إليها أنه سيثب من صدرها. تجمدت في مكانها، لا تدري كيف تتصرّف ولا أيّ ردّ يمكن أن يخفف من حدة الموقف.
قال فجأة:
“هل تجيدين العزف على البيانو؟”
“عفوًا؟”
“أعني، هل عزفك على البيانو ممتاز كما هو غناؤك؟ أو ربما عليّ أن أسأل: هل تجيدين العزف أصلًا؟
تفهمي الأمر، فأنا لا أفهم كثيرًا في الموسيقى.”
ثم ما لبث أن أبعد يديه الاثنتين عن كتفيها وتراجع قليلًا، مبتسمًا ابتسامة بريئة كأن شيئًا لم يكن. أدركت ألفيريل، بدافع غريزي، أن هذا السؤال قد يكون الفرصة الوحيدة المتاحة أمامها.
فهو، بصفته الابن الأكبر لعائلة هيرون، سيطالب قريبًا بحقّه في الخلافة ويتسلّم لقب الدوق.
كانت المكانة المريحة التي تمتّعت بها ألفيريل، كونها نالت اهتمام الدوق الراحل، مجرد ماضٍ انتهى؛ والآن، مصيرها كله مرهون بمزاج هذا الوريث الواقف أمامها.
قالت بابتسامةٍ مصطنعة متكلفة:
“نعم، أجيد العزف، وأعرف الكثير أيضًا. لقد تعلمت البيانو على مدى سبع سنوات.”
لم تكن فكرة ما سيؤول إليه حالها بعد وفاة الدوق غائبة عنها تمامًا، لكنها لم تتخيل أن تواجه الأمر بهذه السرعة، فبدأ رأسها يدور من شدة الارتباك.
كان والدها قِنًّا حاول الهرب قبل ولادتها، فقبضوا عليه وجلَدوه حتى الموت. أمّا والدتها، التي كانت آنذاك حبلى بها، فقد ذوت حزنًا ومرضًا بعد سماعها الخبر، ثم وضعتها وأسلمت الروح بعد فترة وجيزة.
لقد علمت ألفيريل بهذه القصة من أسرة مولر — والد باسكال وإخوته — الذين رعَوها واحتضنوها كواحدةٍ منهم. كانوا عائلتها الوحيدة وأصدقاءها الحقيقيين.
ولو طُردت من القصر كما يُطرد الأقنان التعساء، فلن يُتاح لها أن تراهم ثانيةً أبدًا. أخفت يديها المرتجفتين خلف ظهرها، محاولةً أن تحافظ على ابتسامتها.
قال ليوبولد فجأة وهو يتأمل وجهها بتمعّن:
“والآن وقد نظرتُ إليكِ جيدًا… أنتِ حقًا جميلة.”
لم يكن مدحه مدحًا حقيقيًّا، بل ملاحظة ألقيت بلا روح. لم تستطع ألفيريل سوى أن تضحك بارتباك، في محاولةٍ لتبديد التوتر الذي خنق أنفاسها.
قال بنبرةٍ رخوة واثقة، كأنه يقرأ ما في صدرها:
“لا تقلقي. كلّ شيء يعتمد عليكِ أنتِ.”
خفضت ألفيريل بصرها في صمت، تعضّ شفتها بعصبية، بينما اقترب ليوبولد أكثر وهمس في أذنها:
“تعالي إلى غرفتي عند الفجر. اطرقي الباب ثلاث مرات، وسأفتح لك.”
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى 🩷
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 1 - طائر الدوق الأليف منذ 16 ساعة
التعليقات لهذا الفصل " 1"