1
كان اليوم الذي غادرت فيه أمّ ليتسي المنزل يومًا عاصفًا بشكل استثنائي.
تحت وطأة الرياح الشديدة التي هزّت قضبان النوافذ الخشبية، انكمشت كتفاها الصغيرتان المستديرتان.
“ليتسي، انتظريني هنا عشر ليالٍ فقط. ستعود أمكِ سريعًا.”
انحنت أمّ ليتسي نحو طفلتها التي كانت تتلوّى مضطربة في أحضان شخص آخر.
“إلى أين ستذهبين…؟”
سألت ليتسي بحذر وهي تنظر في عيني أمها، بينما كانت أذناها الحادتان المتدليتان تعكسان قلقها.
مدّت الأم يدها بلطف لتمسح جبهة ابنتها الصغيرة وتقبّلها بحنان.
“ليتسي، ابنتي الطيبة.”
شعرت الأم بالأسى تجاه طفلتها الصغيرة.
كانت ابنتها الصغيرة طيبة لدرجة لا تسمح لها بالبكاء أو التشبث بها كما يفعل بقية الأطفال، مما جعل قلبها يتمزق من الحسرة.
لكنها عضّت على شفتيها بقوة كي لا تُظهر ضعفها.
“كي نعيش أنا وليتسي بسعادة، يجب على أمك أن تجد شيئًا مهمًا.”
كانت مصممة على إنجاز تلك المهمة مهما كلف الأمر.
فمن أجل حماية ابنتها الثمينة -التي أكثر ما قد يحزنها هو رؤيتها تتألم- كانت على استعداد لفعل أي شيء لأجلها.
“ابنتي الجميلة، هل يمكنكِ أن تنتظري أمكِ بصبر؟”
ارتجفت زوايا فم الأم وهي تسأل.
بدا وجهها وكأنه على وشك الانفجار بالبكاء، فأومأت ليتسي برأسها الصغير موافقة.
“لا تبكي.”
سرعان ما لامست أصابعها الصغيرة زاوية عيني أمها.
“سأنتظركِ هنا بصبر، لذا لا تبكي.”
كانت الطفلة قلقة من أن تسقط من عيني أمها دمعة ثمينة، فارتسمت على وجهها تعابير الحزن.
“تقولين لي أن لا أبكي، فلماذا تبكين أنتِ يا ابنتي؟”
مدّت الأم يدها لتمسح خدّي ليتسي المبللين بالدموع، لكنها سحبتها فجأة.
خشيت أن تلمس خدّيها الصغيرين الناعمين، الأكثر دفئًا في العالم، فلا تستطيع الرحيل أبدًا.
ترددت الأم، ثم استدارت، وسرعان ما ابتلعت عاصفة الثلج خطواتها المتلاشية.
هكذا غادرت أمّ ليتسي.
ظلّت الطفلة تحدّق بلا كلل في ظهر أمها التي لم تعُد بعد عشر ليالٍ، ولا حتى بعد عشرين ليلة.
***
ثلاث مائة فرنك.
كان ذلك المبلغ الذي تركته أمّ ليتسي لفايرين، جارتها في القرية، عندما ائتمنتها على ابنتها.
مبلغ كبير يكفي لإعالة ثلاثة أشخاص لمدة نصف عام دون عمل، لكن ليتسي لم تستطع إلا أن تصدّق كلام فايرين بأنها لم تتلقَ شيئًا من أمها مقابل رعايتها.
‘بسببي أصبحت حياة العمة فايرين صعبة، ولهذا أصبحت تكرهني.’
لم تجد تفسيرًا آخر للتغيّر المفاجئ في موقف فايرين.
عندما كانت ليتسي تعيش مع أمها، كانت فايرين جارة لطيفة إلى حد ما.
كانت ابنتاها تأتيان للعب في منزل ليتسي وتمضيان الوقت معها.
صحيح أنهن كنّ يأكلن وجبتها الخفيفة أو تسرقان ألعابها خلسة، لكنهما لم تؤذياها بقسوة كما تفعلان الآن.
[أنتِ طفيلية. مثل حشرة تافهة تهدر طعام بيتنا.]
تذكّرت ليتسي الكلمات القاسية التي كانت فايرين تهتف بها إذا تباطأت قليلًا في حركتها، فانكمشت رقبتها وأخفت بطنها الجائعة بيديها.
‘لذلك يجب أن آكل القليل فقط.’
لم يكن تناول القليل أمرًا صعبًا.
لحسن الحظ، كان الفناء الخلفي لبيت فايرين مليئًا بالأعشاب التي لا يأكلها الثعابين، فكانت تقتات عليها عندما تحرمها فايرين من الطعام.
‘إذا كنتُ مطيعة، وانتظرتُ قليلًا، ستعود أمي.’
كان أصعب شيء بالنسبة لـ ليتسي هو تحمّل الوحدة.
كانت تشتاق لأمها حتى تبلّل وسادتها بالدموع ليلًا
قالت لها لينغ لينغ وبان بان، ابنتا فايرين، إن أمها تخلّت عنها، لكن ليتسي لم تصدقهما.
‘أمي تحبني.’
كانت أمها تمسح جبهتها البيضاء الناعمة حتى تنام في الليالي التي كانت تتقلب فيها، غير قادرة على النوم.
رغم تعبها من العمل طوال اليوم، لم تتركها أبدًا وحيدة حتى تغفو.
[ليتسي، ابنتي الجميلة.]
كانت تعني كل شيء بالنسبة ليّ.
كانت ليتسي تعرف جيدًا مدى حب أمها لها، وكما كانت هي عالمها، كانت هي أيضًا عالم أمها الوحيد.
‘لذا يجب أن أنتظر بصبر.’
سيكون طردها من منزل فايرين كارثة، فإذا عادت أمها ولم تجدها، ستحزن كثيرًا.
“هل أنتِ مريضة؟ لمَ يداكِ بطيئتان هكذا؟”
رفعت ليتسي رأسها مذعورة وهي تنظف أرضية المطبخ بيديها الصغيرتين المتشنجتين.
اقتربت فايرين منها بعينين غاضبتين وأمسكت كتفيها النحيلتين بقوة.
“ألم أسألكِ إن كنتِ مريضة؟”
“آآه!”
تهاوت ليتسي الصغيرة إلى الخلف من شدة الانكماش.
سقطت قطعة خبز كانت تخفيها تحت تنورتها وتدحرجت على الأرض.
أشارت فايرين بقدمها إلى الخبز المغطى بالعفن الأبيض وحدّقت فيها بشراسة.
“أنتِ! من أين أتيتِ بهذا الخبز؟! هل سرقته؟!”
ارتجف كتفا ليتسي الصغيران من صراخ فايرين، وهي تنظر إلى الخبز المتدحرج عند قدميها، وتمتمت بشفتين جافتين.
“لا، ليس كذلك… لقد أعطتني إياه أختي لينغ.”
كان خبزًا متعفنًا أعطته لها لينغ لينغ عمدًا لتسخر منها، مخزنًا في العلية حتى تصلب بحيث لا تستطيع أسنانها اختراقه، لكنه كان طعامها الوحيد.
“لا تكذبي! لماذا تعطيكِ ابنتي خبزًا؟”
“لا يوجد ما يكفي لطفلتيّ أصلًا!”
ارتفع صوت فايرين الحاد.
لكن الكاذبة الحقيقية كانت هي.
حتى في الأيام الباردة التي صعب فيها قطف الأعشاب، كانت بناتها يأكلن ثلاث وجبات دسمة مع حلوى إضافية.
“هاتيه! بدلًا من إعطائكِ إياه، سأرميه للخنازير!”
امتلأت عينا ليتسي بالدموع وهي تفقد الخبز الذي ادّخرته للحظات الجوع القاسية.
“الأطفال ذوو الأيدي السيئة يستحقون العقاب، لكن، قلبي رقيقٌ جدًا. هل انتهيتِ من تنظيف أرضية المطبخ؟”
تنهدت فايرين وكأنها تأسف على طيبة قلبها، ثم نظرت إلى شعر ليتسي البني الجاف وأخرجت تنهيدة عميقة.
“نعم، اوشكت على الانتهاء.”
“الشمس في وسط السماء وما زلتِ لم تنتهي؟ كيف يمكنكِ أن تكوني بطيئة هكذا؟!”
كانت ليتسي قد استيقظت فجرًا ونظّفت المنزل طوال النهار، لكن فايرين حدّقت فيها بغضب وحثّتها على العجلة.
“الأكل يملأ جسدكِ بلا داعٍ. اليوم، اعملي دون طعام.”
“حسنًا…”
كانت جائعة لدرجة أن العالم يدور أمام عينيها، لكن العمل وحدها كان أفضل من البقاء تحت سيطرة فايرين.
هرعت ليتسي لتختبئ خلف خزانة المطبخ.
“ملائكتي الصغار، ألستم جائعات؟ هل نأكل بعض الحلوى؟”
تغيّر صوت فايرين فجأة إلى نبرة حنونة وهي تتحدث من خلفها.
أطلّت ليتسي برأسها من خلف الخزانة، محدّقة ببلاهة في فايرين وبناتها.
“يجب أن نأكل الحلوى بعد الظهر. عليكم أن تأكلوا جيدًا لتنموا بسرعة، يا أميراتي.”
“لا أريد! ستقدمين كعك الشوفان مرة أخرى، أليس كذلك؟!”
“أنا أيضًا لا أريد، يا أمي. لقد سئمت كعك الشوفان!”
رفضت الأختان اقتراح فايرين وهما تهزان خديهما الممتلئين بنزق.
“أمي، نريد كعك السابليه. مثل الذي أعطته لنا ميا المرة الماضية.”
تجهّم وجه فايرين عندما ذكرت لينغ لينغ الكعك الزبدي الناعم الذي لا يأكله سوى أبناء الأغنياء.
“ليس لدينا هذا في البيت، يا لينغ لينغ. ماذا أفعل، أنا آسفة.”
“اشتريه لنا!”
“صحيح! نحن جائعات!”
بدت عينا فايرين رطبتين وكأنها تشفق على نفسها لعجزها عن تلبية رغبة ابنتيها.
‘أمي أيضًا كانت تشتري لي كل ما أريده…’
كان الأربعاء يوم التسوق الأسبوعي في قرية ليتسي.
كانت تحب الكعك المقلي الحلو الذي يُباع هناك، ولم تنسَ أمها يومًا أن تشتريه لها في أيام التسوق.
“حسنًا، يا ملائكتي. سأحضر لكما ذلك الكعك مهما كان.”
عانقت فايرين لينغ لينغ وبان بان بحرارة.
استدارت الأختان بعيدًا عن والدتهما وكأنها تزعجهما.
تراجعت ليتسي فجأة عندما التقت عيناها بعينيهما، لكن بان بان لاحظتها أولًا
“أمي، إنها تحدق بنا. هذا مزعج.”
عند سماع ذلك، هرعت فايرين نحو ليتسي في خطوة واحدة وأمسكت بذراعها النحيلة بقوة.
“قومي بتنظيف المطبخ فورًا، لماذا تجلسين تتفرجين على أطفالي؟!”
“أنا… أنا آسفة، لقد أخطأت.”
سارعت ليتسي بالاعتذار مذعورة، خشية أن تضربها فايرين هذه المرة.
لم تكن تنظر ناحيتهما عمدًا، بل انزلقت عيناها إلى هناك فحسب.
‘أتمنى لو أن أمي تعانقني أنا أيضًا…’
كانت تحسد الأطفال الذين تحتضنهم فايرين حسدًا شديدًا.
حسدًا يتجاوز الحدود، حتى شعرت كأن قلبها يتمزق من الألم، فلم تستطع إلا أن تحدق في تلك اللحظة كالمسحورة.
“لو لم تكوني أنتِ العاجزة التي تهدر طعامنا، لما حُرم أطفالي مما يريدون أكله!”
في الحقيقة، لم تكن ليتسي تهدر الطعام، بل كانت وجودًا مريحًا يقوم بأعمال المنزل نيابة عنهم، لكن فايرين لم تستطع كبح غضبها العشوائي وتنفست بصعوبة.
“آه، يا لكِ من عبئ.”
دفعت فايرين ذراع ليتسي بغضب، فـ طار جسدها الصغير للخلف، واصطدم بالجدار ثم تدحرج على الأرض.
“آآه! أمي! دم! إنها تنزف!”
شعرت ليتسي بحرارة في رأسها.
ابتسمت الطفلة ابتسامة خافتة للدفء الذي شعرت به بعد وقت طويل.
‘هذا الدفء يجعلني أشتاق لأمي…’
كان الألم يعتصرها، كأن جسدها سينهار.
ألقت نظرة خاطفة عبر شق الباب المفتوح قليلًا نحو صندوق البريد الأحمر الفاقع.
‘صحيح، يجب أن أضع الرسالة.’
كان عمّ البريد قد قال لها: إذا كتبتِ ما تريدين قوله في رسالة ووضعتيها في صندوق البريد، سأنقلها إلى من تريدين.
‘يجب أن أقول لأمي إن ليتسي تنتظرها بصبر…’
أغلقت جفون الطفلة التي كانت ترمش ببطء، وسرعان ما عمّ الظلام.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 1"