“في حالتي، أنا لا أتذكّر حتّى، فكيف لي أن أندم ندمًا حقيقيّا؟ هذا حقّا أسوأ ما يكون، أليس كذلك؟”
ابتسمت فانيسا ابتسامة مريرة. من المستحيل أن تشعر بالذنب تجاه شيء لا تتذكره، لكنّ جزءًا من قلبها ظلّ يشعر بالضيق و الانزعاج.
سواء كان كان ذلك عن قصد أم لا، فإنّ جعل شخص ما تعيسًا يحمل ثقله الخاص.
“……أنـتَ تكرهني و مع ذلك تشتاق إليّ”.
عندئذٍ فقط، تحرّك يورغن الذي كان جالسا حتى تلك اللحظة كالجثّة، و أضاءت عيناه بنظرة قاتلة.
أدركت فانيسا أنّها تمسّ الجرح الذي لا يجوز لها لمسه، لكنّها قرّرت أن تغوص أعمق قليلاً.
“لذلك…… أنـتَ أسير تناقض لا تستطيع حله بنفسكَ. تريد قتلي و لا تقتلني، تريد تدميري و قد أنقذتني مرات عديدة بالفعل. لو كنـتَ تنوي تعذيبي و جعلي بائسة حقًّا، لكنتَ منذُ البداية…… إمّا أسأت إليّ، أو جعلتني عبدة، أو حبستني في قبو لا يدخله ضوء. أليس كذلك؟”
الآن، بدا يورغن و كأنّه سيقتل فانيسا بنظراته فقط.
لم تكن تنوي دفعه إلى حافة الانفجار، فجمعت فانيسا الحديث عند هذا الحدّ.
“إذا كنتَ تودّ معرفة مشاعركَ الحقيقيّة، فجرّب أن تدمّرني فعلاً. عندها قد تعرف، أليس كذلك؟ إذا رأيتَني محطّمة تمامًا…..”
عند تلك الكلمات، انتفضت أطراف أصابع يورغن انتفاضة خفيفة. سحبت فانيسا نظرها عنه و أشاحت بوجهها نحو النافذة.
كانت المدينة مغطّاة بظلام كثيف، تبدو مرعبة كما لو أنّ الأشباح ستظهر في أيّ لحظة. مع أنّها في النهار تبدو فاخرة و باذخة إلى هذا الحدّ.
“…..بالطبع، أنا لست شخصًا ينهار بسهولة. حتى في تيريفرون…… دافعت عن نفسي بيأس، و نجحت”.
أغلقت فانيسا فمها بعد تلك الكلمات الأخيرة، و أطبقت جفنيها بهدوء. بإغلاقها عينيها، قطعت الاتصال تماماً بينها و بينه.
الناس كائنات لا تختلط بسهولة هكذا. مجرّد رفع حاجز غير مرئي يكفي لتجعلكَ تشعر بالمسافة بينكَ و بين الطرف الآخر.
لكنّ الإنسان، على تناقض ذلك، لا بدّ أن يختلط بأحد و يتحرك. فإن لم يتحرك، سيصبح راكدًا. و بهذا الانفصال لن يتغيّر أبدًا. في نظر فانيسا، يورغن كان بالضبط في تلك الحالة.
هل سيتمكّن من التغيير يومًا؟ أم سيظلّ يجلد نفسه إلى الأبد بأنّه شبح انتقام مغطّى بالدماء؟
‘إلى أي درجة أنا مميّزة بالنّسبةِ إليكَ؟’
هل أنا على الأقلّ قادرة على زعزعة ذلك السور الحصين؟
* * *
العاصمة، القصر الكبير الذي تملكه عائلة لوينغرين الملكيّة.
“فانيسا……”
ضحك ديكلان ضحكة ساخرة من شدّة الذهول. الخبر الذي سمعه لتوّه كان مستحيلاً تصديقه.
زواج فانيسا من الدوق دريك كان أمرًا مزعجًا يدفع إلى الجنون بحدّ ذاته، فكيف الآن و هم يقولون إنّها حصلت على بركة مقدسة؟ بل بركة حاكمة الحياة فينيا شخصيّا؟
“لا أصدّق. كيف يمكن أن يتم اختيار فانيسا؟ أنا و ليس هي، أنا الذي أجلس على عرش لوينغرين!”
لو ظهر شخص يحمل بركة مقدسة من عائلة لوينغرين الملكيّة، فمن الطبيعيّ أن يكون هو ذلك الشخص. فلماذا تـم اختيار فانيسا التي لن تجلب أيّ منفعة وطنيّة للوينغرين……؟
استمرّ ديكلان في إطلاق ضحكات فارغة من فرط سخافة هذا الواقع. لو حصل هو البركة، لاستخدم تلك القوّة لمصلحة البلاد.
لماذا كان على تلك الفتاة التي أصبحت عديمة الفائدة بزواجها من الدوق إمبراطوري أن تحصل عليها…؟
‘أشعر بالسوء حقا.’
بهذا تكون الإمبراطوريّة قد حصلت على شخص آخر يحمل بركة مقدسة، و سيبدأون بالتأكيد بالترويج أنّ جميع الحكام السبعة يحمون الإمبراطور.
مجرّد التفكير في ذلك يجعل معدته تشعر بالألم.
‘لو أنّ فانيسا، تلك الحمقاء، أطاعت أوامري بهدوء……’
لكانت لوينغرين هي التي حصلت اليوم على شخص جديد يحمل بركة مقدسة، لا الإمبراطوريّة. حينها لارتقت لوينغرين إلى مركز لا تضطرّ فيه لتحمّل التدخّلات الأجنبيّة و الغزوات و كلّ تلك المعاهدات الظالمة في الدبلوماسيّة و التجارة.
‘أنـتِ لا تختلفين عن خائنة لموطنكِ، يا فانيسا’.
تجمّعت ابتسامة باردة مليئة بالكراهية على شفتي ديكلان.
لم يحبّها يومًا، تلك الفتاة التي نشأت مدلّلة كزهرة في البيت الزجاجي بفضل تحيّز والدهما، لكنّه رغم ذلك كان يشعر تجاهها بقدر ضئيل من العاطفة العائليّة.
لكن حتى ذلك القدر تلاشى تمامًا بعد لقائهما الأخير في قاعة العرش الإمبراطوريّة.
‘ما زالت تحمل ضغينة ضدّي إلى الآن’.
شعر ديكلان بخيبة أمل كبيرة من فانيسا. تزويجها من ليروي كان كلّه من أجل لوينغرين. ظنّ أنّها ستتقبّل التضحية من أجل البلاد كأمر طبيعيّ.
لكنّها بدلاً من ذلك اتّهمته بالدناءة. غضب ديكلان من أنانيّتها التي تفضّل سعادتها الهزيلة على سلامة الوطن.
بما أنّها تحمله حقدًا عميقًا إلى هذا الحدّ، فحسب شخصيّتها هي لن تبقى صامتة. بالتأكيد ستسعى للانتقام.
‘الآن حصلت على لقب زوجة الدّوق دريك، و فوق ذلك بركة الحياة…… ستستخدم هذين الأمرين لإيذائي بالتأكيد’.
يبدو أنّها تواصلت بالفعل مع الدوق إيفانوود الذي يتحرّك سرًّا في الخفاء، إذًا فالأمر مجرّد وقت.
‘لا بدّ من التحرّك قبل فوات الأوان. بأيّ وسيلة، مستغلاً كلّ ما يمكن استغلاله……’
طرق ديكلان المكتب بتوتر و هو يفكّر كيف يمكنه التخلّص من فانيسا سرّا.
إرسال قتلة محترفين غيّروا هويّاتهم بحيث لا يمكن تتبّعهم خيار ممكن، لكنّ المشكلة هي هل سيتمكّنون من اختراق الحراسة المشدّدة لقلعة الدّوق دريك.
‘لو استطعنا مهاجمة العربة قبل وصول موكب الدّوق دراعيك إلى الإقليم لكان ذلك مثاليّا، لكنّ الوقت ضيّق جدّاً للتحضير’.
……عندما فكّر في كلمة «هجوم» تذكّر شيئاً فجأة.
قيل إنّ موكب الدّوق دريك تعرّض لهجوم وحوش سحريّة في طريقه إلى العاصمة.
‘على طريق آمن عادة…… لا يمكن أن يكون ذلك طبيعيّا. يبدو الأمر مصطنعًا تمامًا. كأنّ شخصا ما كان يتحكّم بالوحوش’.
مهما فكّر، من الواضح أنّ هناك شخصًا آخر غيره يحمل ضغينة قاتلة ضدّ يورغن دريك.
‘……لو استطعت العثور على ذلك الشخص والتعاون معه لكان ذلك رائعاً’.
حاول ديكلان أن يتذكّر بهدوء كم شخصًا يكره يورغن إلى حدّ الرغبة في قتله، و من أين قد يكون.
بما أنّ يورغن عاش بغطرسة و وحشيّة، فأعداؤه كثر جدّاً بحيث لا يمكن حصرهم.
لكن…… هناك شخص واحد فقط ظلّ عالقا في ذهنه بشدّة.
‘إسكال دريك……’
إسكال، الأخ غير الشقيق ليورغن. سمع تقريرا مؤخّرًا بأنّه ظهر في عائلة الكونت فرامبير، مسقط رأس زوجة الدّوق دريك السابقة.
إسكال ولد غير شرعيّ مثل يورغن تمامًا، وليس لديه أيّ سبب للجوء إلى عائلة فرامبير. ومن المستحيل أن يقبلوه أصلاً.
لكنّهم قبلوا به، إذًا…… لا بدّ أنّ إسكال قدّم عرضًا مغرياً لا يمكن لعائلة فرامبير رفضه.
‘إمّا أنّه يعرف الحقيقة وراء موت الدّوقة السابقة…… أو……’
أنّ لديه طريقة فعّالة للغاية لضرب يورغن.
وصل ديكلان إلى قرار سريع بعد تفكير. للتخلّص من فانيسا لا بدّ من مواجهة يورغن ، إذًا لا خيار سوى التحالف مع عدوّ يورغن.
“إسكال دريك…..”
همس ديكلان بالاسم بهدوء، و ارتسمت على شفتيه ابتسامة غريبة. إذا استطاع استغلاله جيّدًا، فسيكون حليفًا ممتازًا.
خرج ديكلان من مكتبه و مشى بهدوء نحو غرفة غلينا.
لم يستطع تركها وحدها في القصر الملكيّ، فأحضرها معه إلى هنا، لكنّه لا يريد أن يراها أحد. سيكون مزعجاً لو لفتت أنظار الرجال و حصلت على رسائل حبّ أو طلبات زواج.
طرق طرق-
طرق الباب المغلق مرتين أو ثلاثًا، فشعر بحركة خفيفة داخل الغرفة كأنّ حيوانًا صغيراً قد انتفض.
سرعان ما ستأتي بهدوء و تفتح الباب. رفع ديكلان زاوية فمه قليلاً مبتسمًا.
كما توقّع، فتح الباب ببطء مصدرًا صوت احتكاك المفصّلين، و ظهرت غلينا من بين الشقّ و نظرت إليه بعينيها الزرقاوين صافيتين. ثمّ سألته بتردّد طفيف:
“أخي…..ما الذي أتى بكَ في هذا الوقت المتأخّر من الليل؟”
“ما الذي أتى بي؟ جئت لأنّني اشتقت إليكِ”.
ليس جديدًا أن يزور ديكلان غلينا فجأة ليلاً أو نهارًا ، و مع ذلك تظلّ غلينا دائمًا على حذر كقطّة صغيرة كلّ مرّة.
ابتسم ديكلان ابتسامة واسعة و هو يجد هذا التصرّف لطيفًا، ثمّ فتح الباب على مصراعيه و دخل الغرفة. كانت المدفأة مشتعلة تجعل الجو دافئًا، و الغرفة مفعمة برائحة غلينا.
جلس ديكلان على الأريكة مستمتعا بشعور وجوده في فضائها الخاصّ. كانت غلينا تقف متردّدة قرب الباب المغلق الآن.
ظنّ ديكلان أنّها خجلة، فابتسم بلطف و ضرب بيده المقعد بجانبه و ناداها بصوت حنون:
“لماذا تقفين هناك؟ تعالي إلى هنا، يا غلينا”.
“…..حسناً، أخي”.
جاءت غلينا كدمية مربوطة بخيط، و جلست بحذر إلى جانبه. مـدّ ديكلان يده على الفور وأمسك خصلة من شعرها الورديّ.
قبّـل الخصلة، ثمّ استنشق بعمق العطر المتنبع من شعرها المبلّل و ابتسم بلطف. رفع رأسه، نظر في عينيها و همس:
“لقد اغتسلتِ لتـوّكِ”.
“…نـ.نعم”.
مـدّ ديكلان يده يداعب خدّها الذي ارتسم عليه ابتسامة متكلّفة، ثمّ أنزل يده ببطء.
عندما لامست يده جلد كتفها العاري انتفضت غلينا بشدّة و كتمت أنفاسها. كانت يداها الصغيرتان البيضاوين تمسكان بقوّة بطرف ثوب النوم الرقيق، و برزت فيهما الأوردة الزرقاء.
“ألا تشعرين بالوحدة و أنـتِ تنامين وحدكِ؟ هل ننام معاً اليوم؟”
“لـ-لا، لا بأس. شكراً لاهتمامك، أخي….”
“لمَ صوتكِ مرتجف هكذا؟ يبدو أنّكِ تشعرين بالبرد لأنّ الثوب رقيق. تعالي أقرب قليلاً”.
جذب ديكلان غلينا المتجمدة بالقوّة إلى حضنه، و دفن وجهه في كتفها و هو يطلق تنهيدة رضا.
عضّت غلينا شفتيها بقوّة و هي تكتم بكاءها، ثمّ جمعت شجاعتها أخيرًا و توسّلت:
“ديكلان أخي، هل يمكنني…… أن ألتقي بأختي فانيسا؟”
“لا، ممنوع.”
في تلك اللحظة قُطع الأمل الذي كانت غلينا تحتضنه بتوتر منذُ وصولها إلى العاصمة. رفع ديكلان رأسه، نظر في عينيها و قال بحزم:
“هذا غير مسموح، يا غلينا. لقد وعدتِ ألا تخرجي من هذه الغرفة و ألا تلتقي بأحد”
“صحيح….”
ابتسم ديكلان بلطف مداعبًا رأسها:
“نعم، فتاة جيدة. هيّا ننـم الآن، لقد تأخر الوقت”.
حمل ديكلان غلينا بين ذراعيه و وضعها على السرير. قام باحتضانها و قبّـل جبينها بقوّة.
أمسكت غلينا يديها كما في الصلاة بينما تبتلع شعورها بالغثيان و تحاول تحمّل هذه اللّحظة.
كانت قد أدركت منذُ زمن أنّ التمني لا يجدي نفعًا، فصارت تتوسّل داخل قلبها إلى الشخص الوحيد القادر على إنقاذها، فانيسا.
التعليقات لهذا الفصل " 40"