المبارزة كانتْ أسلوب تسوية النزاعات الفرديّة التقليديّ الذي يُتداولُ على نطاقٍ واسعٍ بين النّبلاء و حتّى العامّة.
لكن بما أنّ الطرفين يراهنان بحياتهما، فإنّ الخلافات نادرًا ما كانتْ تتطوّر إلى مبارزةٍ إلّا في أقصى الحالات.
حتّى لو نجا المرءُ بأعجوبة، فإنّ الإعاقةَ الدائمةَ في الجسدِ كانتْ أمرًا شائعًا جدًّا.
مَنٔ يُقدّر حياته و مستقبله كان يبحثُ عن حلول أخرى غيرِ المبارزة.
و توليمان أيضًا لم يكن يرغب أبدًا في المخاطرة بحياته في مبارزة، مهما كان السبب.
‘مبارزة…؟! هل جنَّ هذا الوغدُ حقًّا؟!’
كان توليمان مذهولًا. هو الابن الشرعيّ لملك لاكيا، و الثاني في ترتيب خلافة العرش. لو أصيبَ بإعاقةٍ أو قُتل في مبارزة مع دوق إمبراطوريّ، فالكارثة واضحة كالشمس.
…بل إذا فكّرَ في الأمر، فالمتضرّرُ الوحيد هو تحالف الدول الثلاث الغربيّة. أمّا الإمبراطوريّة فلن تخسر شيئًا البتّة.
تمتلكُ إمبراطوريّة كارتيس أراضٍ شاسعة غنيّة بالموارد، و لا تعتمدُ على التجارة، و عدد سكّانها يفوق سكّانَ التحالف الغربيّ بسبع مرّات.
و فوق ذلك، الإمبراطور فيراتير بارباروك… في الوقتِ الحاضر، لا توجد دولة في أسترا كلّها تستطيع معارضة الإمبراطوريّة و تبقى على قيد الحياة.
‘…إذًا لا خيار لي سوى الانحناء.’
أمسكَ توليمان بقفّازِ يورغن بيدٍ مرتجفة. كرسي الزعامةِ الذي حافظَ عليه والده عشر سنين بدأ يتزعزع مؤخّرًا بسببِ الكوارث الطبيعيّة و الجفافِ المتتاليين.
لو تسبّب هو، الأمير، بمشكلةٍ في هذا الوضع… فقد تنتهزُ دولتا كوفنت و إلدرهيل الفرصةَ لانتزاع زعامة التحالف.
‘نعم، ما قيمة كبريائي الآن؟ سأتوسّلُ إلى يورغن. أرجوكَ اغفرْ لي…’
في النهاية، رمى توليمان بكبريائه جانبًا و جثا على ركبتيه أمام يورغن.
عند هذا المنظرِ الصادم، شهقَ الحاضرونَ في ذهول. فانيسا أيضًا فغرت فمها مندهشة. لم تتوقّعْ أن يذهبَ توليمان إلى هذا الحدّ.
‘كنتُ أظنُّه سيستمرُّ بإلقلء الأعذار حتّى لو وصل الأمر إلى الهاوية، لأنّه لن يتخلّى عن كبريائه.’
عندما أعادت النظر، بدا أقلّ قليلًا من ليروي و أرنو في درجةِ «نفاية البشر».
حسنًا، الإنسانُ كائن متعدّدُ الأوجه على أيّة حال…
“أرجو أن تغفر لي أيها الدّوق دريك. لقد ارتكبتُ إساءة كبرى مع علمي أنّ صاحبة السموّ خطيبتك.”
لم يبدو الندم في كلام توليمان صادقًا تمامًا، لكنّه بذلَ قصارى جهده على أيّة حال. نظرَ يورغن إليه بهدوءٍ صامتٍ دون كلمة.
في الحقيقة، كانتْ فانيسا تأمل أن يتراجعَ يورغن الآن، لأنّها لا تريد أن تتفاقمَ المشكلة أكثر. مجرّد تخيّلِ توتّرِ العلاقاتِ بين تحالف الغربِ و الإمبراطوريّةِ و هي في مركزِ العاصفة كان يكفي ليصيبَها بالصداع.
لكنّ يورغن…
“لقد رُمي القفّاز بالفعل، فلا رجعةَ فيه. انهض يا توليمان دي لاكيا. بما أنّ جلالة الإمبراطور يشرف بنفسه، فلنحسم الأمرَ هنا.”
…لم يكن ينوي التساهل البتّة. يبدو أنّه لن يهدأَ له بالٌ إلّا إذا قطعَ إصبعًا أو إصبعين من يد توليمان على الأقلّ.
كان موقف يورغن كعادته باردًا و هادئًا ، لكن فانيسا شعرتْ أنّه غاضب بشكلٍ غريب. بدا حادًّا كالسكّين.
‘كما توقّعتُ، أزعجه الأمر للغاية.’
يبدو أنّ تعدّي أحد على منطقته أثارَ غضبَه حقًّا. شعرتْ فانيسا و كأنّه قط كبير يغار من أرضه، فصفرتْ في سرّها، ثمّ سمعت صوتًا ثقيلًا من مكانٍ قريب:
“صحيح، لقد رُمي القفّاز بالفعل، فلو انتهى الأمرُ دون أن تُسلَّ السيوفُ لكان ذلك مملًّا جدًّا. أليس من واجبِ الرجلِ أن يقبل المبارزة و يُنهيها؟ ألستَ توافقُني يا أمير لاكيا؟ إن كنتَ أميرًا يعرف الشرف.”
كان صاحب الصوت هو الإمبراطور. كان يجلس على كرسيِّه الذهبيّ، و يشاهد القاعة.
ابتسامة خفيفة تعلو وجهه تبدو رحيمة من بعيد، لكنّ عينيه لا تحملان ذرّة دفء.
اللّحظة الوحيدة التي تتلألأ فيها عيناه بالدفء هي عندما ينظر إلى يورغن. اهتمام صارخ لدرجة أنه يمكن حتّى للأحمق ملاحظته.
شعرت فانيسا بالغثيان فقلبت عينيها.
عندما تدخّل الإمبراطور بنفسه، لم يعد لتوليمان مفرّ. هكذا بدأت مبارزة يورغن و توليمان في المكان الذي كان من المفترض أن يكونَ أرض رقص.
من وجهة نظرِ فانيسا، كانت نتيجة المبارزة واضحة سلفًا: انتصار ساحق ليورغن. و لا شكّ أنّ الجميع يفكّر بالأمرِ نفسه.
في النهاية، الهدف من هذه المبارزةِ لم يكن سوى جعلِ توليمان عبرةً للأمراءِ و النبلاءِ الآخرين، لا أكثر ولا أقل.
“حسنًا، إذًا… ابدأوا!”
مع أمرِ الإمبراطور، سلّ يورغن و توليمان سيفَيهما في اللحظة نفسها. وقف يورغن مرتخيًا و كأنّه ليس في مبارزة، بينما كان توليمان يتصبّب عرقًا باردًا وهو متوتر بوضوح.
دار الاثنان في دائرةٍ ببطء و واجها بعضهما، ثمّ، بشكلٍ مفاجئ، اندفع توليمان أوّلًا فبدأت المعركة الحقيقيّة.
رغم اندفاعه الشجاع، ظلّ توليمان في موقفِ دفاعٍ صعب، بينما لعب يورغن به كما تلعب القطّة بالفأر و شدّدَ الخناق تدريجيًّا.
‘كنتُ أعلم أنّ هذا سيحدث…’
تنهّدت فانيسا في سرّها.
لم تشفق على توليمان البتّة؛ لو عرف مكانتَه من البداية و تصرّف بكرامة لما وصل الأمر إلى هنا.
“آههه!”
انتهت المبارزة بانتصار ساحق ليورغن دون مفاجآت. أسقط توليمان سيفه و جلس على الأرض يتأوّه وهو يمسكُ ساقَه اليسرى التي تنزفُ بغزارة.
من مكان الجرح، من المحتملِ أن يكون وتره قد قُطع. ربّما يصبحُ أعرج مدى الحياة. تنهدت فانيسا بخفّة و أعرضت عن المشهد القاسي.
“الفائز… نعم، يورغن بالطبع. تهانيّ.”
تردّد صوت تصفيق الإمبراطور بلا رحمة. ظلّ الحاضرون حتّى تلك اللحظة جامدين كالموتى، ثمّ ابتسموا ابتسامات متكلّفة و صفّقوا ليورغن.
قلّة جدًّا مَنٔ كانوا يهنّئونه بصدق. معظمهم كانوا يصفقون كدمى آليّة و هم يرتعدون خوفًا.
هذه القاعة كانتْ نسخة مصغّرة من أسترا كلِّها: إمبراطور مخيف، و دوق شاب يتلقّى اهتمامه، و ملوك الدول التابعة و النبلاء ينحنون طوعًا خوفًا من شرارة تطالهم.
صفّقت فانيسا آليًّا و هي تشعر بتشاؤم خفيف، ثمّ ناداها الإمبراطورُ ببراءة مصطنعة:
“بما أنّ الدّوق دريك انتصر، لِـمَ لا تهنّئينه بصفتكِ خطيبته يا فانيسا؟»
“…..”
بعبارةٍ أخرى: لا تكتفي بالتصفيق، بل قدّمي تهنئة «تليق بخطيبة».
كادت فانيسا أن تعبس كمَـنْ عضّ على لحم فاسد، لكنّها تمالكت نفسَها و هدّأت أعصابها.
من الناحية الشكليّة، يورغن خاضَ هذه المبارزةَ لأنّ خطيبتَه أُهينت، لذا من الأفضل أن تفعل شيئًا ما لتبدو الصورة مثاليّة.
هكذا فكّرت، ثمّ تقدّمت نحو يورغن رغمًا عنها. ظلّ يورغن طوال الطريق ينظر إليها بهدوء جامد الوجه.
‘…حتّى لو كان أميرًا من دولةٍ حليفة، لقد جعله أعرج دون تردّد. يا للقسوة.’
أدركت فانيسا مجدّدًا، و بعمق، أنّه لا يجوز معاداة مجنون مثل يورغن… مع أنّ القطار قد فاتَ بالفعل.
عندما وصلت أخيرًا أمامه، وقفت على أطراف أصابعها و قبّلت خدّه قبلةً خفيفة.
شعرت أنّ جسد يورغن تصلّب للحظة، لكنّ وجهَه ظلّ باردًا كالعادة عندما ابتعدت و نظرت إليه.
نُظّفت أرضُ الرقص الملطّخة بالدماء في طرفةِ عين بمهارة خدم القصر.
غادرَ توليمان مصابًا، و ارتعد مَنٔ أساؤوا إلى فانيسا خوفًا من أن يصيبهم المصير نفسه.
رغم أنّ الجوّ لم يعد يسمح باستمرار الحفل، عزفت الفرقةُ موسيقى الرقص، و خرج الناس مرغمين واحدًا تلو الآخر خوفًا من عيني الإمبراطور.
و أُجبرت فانيسا أيضًا على الرقص مع يورغن بأمر الإمبراطور.
“أشعر بالدوار… ألا يمكننا الرقص على أغنية واحدة فقط ثمّ الانسحاب؟”
بدلًا من الطاعةِ العمياء، تظاهرت فانيسا بأنها مصابة بدوار خفيف.
لن يصدّقها يورغن بالطبع، لكن لا ضير من المحاولة.
كانتْ مرهقة جدًّا بعد كل ما حدث، و كل ما تريده الآن هو الانهيار على سريرها و النوم.
“تحمّلي نصف ساعة. حينها سيسمح جلالته بالانسحاب.”
“نصف ساعة كاملة من الرقص المتواصل…؟”
“…يكفي أغنية واحدة.”
“لا بأس.”
“لا أريد التحدّث مع أحد، ألا يمكنني الوقوف في الزاوية؟”
“ابقی بجانبي بهدوء فقط.”
“هااااه…”
ضاقتْ فانيسا ذرعًا فداست على قدم يورغن بقوّة. لكنّه رفع حاجبه قليلًا فقط و لم يبدُ أنّه تأثّر.
تجاهلت فانيسا نظرته و واصلت الرقصة، وهي تفكّرُ في اللحظة المناسبة التالية لدعسه مجدّدًا.
في تلكَ الأثناء، في زاوية القاعة التي تتوقُ فانيسا للوصولِ إليها، كانتْ فتاة وصلت متأخّرة إلى الحفل تقف مصعوقة.
اسمُها أغنيس تورنيا.
تلك الشهيرة بـ«ابنة الدّوق المجنونة تورنيا» التي كانتْ تحبّ يورغن حبًّا جمًّا.
كانتْ تراقب بلهفة الثنائي الجميل وهما يرقصان تحت أضواء الثريّات. كانا يبدوان متناغمين جدًّا و سعيدين معًا.
صحيحٍ أنّ الفتاة كانتْ تدوس على قدم يورغن باستمرار، لكنّ ذلك يبدو خطأً بسبب التعب. و يورغن لم يبدُ غاضبًا البتّة.
التعليقات لهذا الفصل " 37"