العلامةُ التي ظهرت على ظهر يد فانيسا اليمنى كانت بلا شكّ علامة مقدّسة، وهي دليل قاطع على أنها «المباركة بالحماية المقدّسة».
“ذلك الضوء الأبيض… هل يُعقل أن تكون بركة فينيا…؟”
مع تذمر أحدهم في ذهول، تضاعفت ضجّة القاعة أضعافا.
مجرّد تلقّي بركة مقدسة أمر عظيم بحدّ ذاته، فكيف إذا كانتْ بركة حاكمة الحياة فينيا؟! كان هذا حدثًا تاريخيا بكل معنى الكلمة.
“الأميرة فانيسا حصلت على بركة الحياة…!”
“لا يمكن أن يكون هذا…”
“تلك العلامة… إنها بلا شك علامة فينيا.”
“إذًا تلك الشائعات…”
توجّهت أنظار الحاضرين نحوَ مَنْ كانوا ينشرون الإشاعاتِ عن فانيسا.
شحبَت وجوههم و تصبَّبوا عرقًا باردًا وهم يتلفتون حولهم في خوف.
لم يسيئوا إلى فانيسا لأنهم مقتنعون فعلًا بأنها امرأة فاسدة، بل لأنَّ فانيسا لوينغرين كانتْ «فريسةً سهلةً يسهلُ تمزيقُها».
أميرة دولة زراعية صغيرة، و فوق ذلك ملكة دولةٍ منهارة.
حتّى لو تزوّجتْ من الدوق دريك و أصبحت سيّدة العائلة، فإن فتاة ريفيّة من الجنوب لن تستطيع التأقلمَ مع الشمالِ الإمبراطوري القاحل أبدًا. و من الصعبِ عليها أيضًا ترسيخُ مكانتها في المجتمعِ الراقي بالعاصمة، لذا ستنتهي معزولةً في الوسط بشكلٍ محرج.
بناءً على هذا التقييم الشامل، انقضّوا عليها بشراسة.
السيدات و الآنسات كنَّ يعزّزن شعورَهن بالتفوّقِ بمقارنة أنفسهن بها و تأكيدِ نبلهنّ و طهارتهن، أمّا السادةُ فكانوا يحوّلون الجميلة التي لا يستطيعون الحصولَ عليها إلى شيطانةٍ ليكرهونها، فيزداد شعورُهم بالانتماء.
لم يتوقّع أيّ منهم، و لو في أحلامهم، أن تكونَ فانيسا لوينغرين مبارَكةً من الحاكم.
الآن انقلبت الأمور إلى درجةٍ خطيرة. قد يُطردون من المجتمعِ الأرستقراطيّ بجرم إهانة «المباركة بالحماية المقدسة» إذا أخطأوا خطوةً واحدة.
و في أسوأ الحالات، قد يعاقبهم الإمبراطورُ بنفسه… ذلك الحاكم الذي يولي السلطة المقدّسة أهميّةً كبرى، ولا يغفر أبدًا تدنيسَ المقدّسات أو إهانتها.
حسب قانونِ الإمبراطوريّةِ المعدل قبل مئتي عام على يد الإمبراطورِ نفسه، فإنَّ إهانةَ المبارك بالحماية المقدّسة تعـدّ أيضًا من تدنيسِ المقدّسات.
بالنّسبة إلى الإمبراطورِ فيراتير بارباروك، فإن أيّ أميرٍ أو نبيلٍ من أي لدولة ليس سوى حشرة يسحقُها إذا أزعجته.
المجموعة التي كانت تُسيء إلى فانيسا ارتعدت من الخوف و اختبأت في الظلّ تراقب الناس بعيون مذعورة.
لكنّ أخطر موقف على الإطلاقِ لم يكنْ لهم، بل لتوليمان دي لاكيا.
‘مباركة بالحماية المقدّسة…؟! هذه المرأة البائسة؟!’
كان مذهولًا من الفجوة الهائلة بين صورة المرأة الفاسدة التي رسمها في مخيّلته و بين فانيسا الحقيقيّة.
شعر و كأن العالم يدير ضده مسرحيّة احتيال عملاقة. لكن تلك العلامة البيضاء الثلجيّة… تلك العينانِ المتلئتانِ بالضوءِ الأبيض… كلها أدلّة واضحة على العلامة المقدّسة…
‘…حقًّا… إذًا أنا…’
غريزة البقاء الحادّة أطلقتْ صافرات الإنذار: لقد ارتكبَ خطأً فظيعًا، و إن لم يُصلحه فستحلّ به كارثة لا يمكنه تخيلها…
لو اقتصرتْ الأمر عليه وحده لكانَ الأمر أهون، لكن إذا امتدّت إلى تحالف الدولِ الثلاث الغربيّة و إلى لاكيا…
‘لا…! هذا فقط لا يجب أن يحدثَ أبدًا…!’
استفاقَ توليمان أخيرًا، و نظر إلى فانيسا بوجه خائفٍ مختلف تمامًا عمّا كان عليه من قبل. رفعت فانيسا حاجبَها في دهشةٍ خفيفة، فانحنى توليمان بتواضعٍ مذلٍّ و أطلق كلمات الاعتذار:
“أنا، أنا لقد أخطأت يا سموّ الأميرة… لم أكن أعلم أنكِ مباركة بالحماية… كيف لشخصٍ اختارته فينيا، التي تعتبر الطهارة أسمى الفضائل، أن تكون بطلةَ فضيحة…! كل ذلك بسبب هؤلاء هناك!”
رفع توليمان يده بعنف و أشار إلى المجموعةِ الخبيثة المختبئة في زاوية القاعة. كان هذا ما يُسمّى بعمليّة «إغراقِ الآخرين معه».
لم يكن يظنّ أن فانيسا ستغفرُ له بسهولة، لكن إلقاء اللوم على غيره قد يخفّف من ذنبه قليلًا. فصاحَ بصوتٍ عالٍ بجرائم مَنْ سيكونون دروعًا له:
“سمعتُ بوضوحٍ هؤلاء يسيئون إلى صاحبة السموّ! الرجلُ ذو الثوبِ الأخضر هو مَنْ نشر الشائعةَ بأنَّ صاحبة السمو عاشت حياة فاسدة عندما كانتْ ملكة تيريفرون!”
ارتجفَ الرجل ذو الثوبِ الأخضرِ بشدّة عندما أُشيرَ إليه، ثمّ تجمّدَ مكانه. وجهه الشاحبُ الأزرقُّ كان كالجثّة.
“بسبب تلك الشائعات السخيفة التي نشرها هذا الرجل…! أنا حقّا آسف جدًّا يا صاحبة السموّ… أرجوكِ أن تغفري لي برحمتكِ الواسعة…”
كان توليمان يبكي الآن بغزارةٍ و كأنه الضحيّة المظلومة. لم يعدْ يشبه الرجل الذي كان يتحرّش بفانيسا و يصفها بالقذرة قبل لحظات.
ابتسمت فانيسا بسخرية باردة معجبة بسرعة بديهته في قلبِ الموازين، ثمّ تقدّم أحدهم فجأة و حجب الرؤية أمامها.
تعرّفت فانيسا عليه من ظهرِه فقط.
ذلك طبيعيّ جدًّا؛ ففي هذه القاعة كلّها لا يوجد رجل آخر بقامة فريدة كهذه.
سأل يورغن بصوتٍ يحمل سخريةً لكنّه بارد كالجليد:
“ماذا كنتَ تنوي أن تفعل بخطيبتي يا توليمان دي لاكيا؟”
كان يورغن يُحقّقُ في سببِ تمسّك توليمان المُزعجِ بفانيسا.
رفعت فانيسا عينيها اللتين عادتا إلى لونهما الأزرقِ المائيّ المعتاد، و نظرت إليه بهدوء.
هي لا تظنّ أنه سيدافع عنها أو يحميها. لكن شيئًا واحدًا مؤكّد: توليمان دي لاكيا هو بالضبط نوعُ البشرِ الذي يكرهه يورغن كراهيةً شديدة.
إذا حاول هذا النوع التعدّي على منطقته، فلا بدّ أن يغضب. فمهما كان، فإن فانيسا تقع داخل منطقة يورغن، و إن كانتْ تتلقى منه الكراهية و الحقد فقط.
“إن لم تكن تريد اختبار صبري، فمن الأفضلِ أن تجيب بسرعة.”
“ذلك… ذلك…!”
كان توليمان يحرّك شفتيه لكنّه لم يستطعْ إخراجَ جوابٍ فوريّ. لا بدّ أنه يفكّرُ بجهد في أيّ عذر يقدّمه.
عقدت فانيسا ذراعيها و حدّقتْ إليه بنظراتٍ تقول «هيّا تكلّم».
ألقى توليمان نظرةً سريعةً على فانيسا، ثمّ على يورغن، ثمّ على الإمبراطورِ الجالسِ على كرسيّه الذهبيّ يراقبُ المشهد، و أخيرًا فتح فمه:
«بدت صاحبة السموّ متعبة قليلا، فأردتُ أن أخرج بها لتستنشق بعض الهواء النقيّ. لا نيةَ أخرى على الإطلاق…”
في الأصل، كان توليمان، بصفته أميرًا لدولةٍ مستقلّة، يتحدّث إلى يورغن بأسلوبٍ أخفّ. فدوق دريك، مهما بلغت قوته في الشمال، ليس سوى دم ملوث حصل على لقب. ليس كدم عائلة ملكيّة تملك أرضا و شعبا.
لكنّه الآن يخفض نفسه و يتصرّف بذلّ واضح.
كان الأمر مهينًا إلى أقصى درجة، لكنّ عليه تحمّله. فإن أخطأَ في التصرّفِ هنا، قد يلحق الضرر بلاكيا، بل بتحالف الدول الثلاث الغربيّة كلّها.
‘رجاءا… رجاءا، ليمرّ الأمر بسلامٍ دون مشكلة كبيرة…!’
رغم عيوبِ شخصيّته الكثيرة، فإنّ وطنيّته كانت حقيقيّة، و قد شعر بالندم بصدق على حماقته.
لماذا فعلتُ شيئًا طائشًا كهذا؟ لا بدّ أنني جُننتُ للحظة. لقد سحرتني تلك المرأة…
عندما ألقى نظرةً خلسةً على فانيسا لوينغرين، شعر بالخوف فقط، لكنّ جمالها كان ساحرًا إلى درجة تربك العقل رغم كلّ شيء.
حقًّا إنها «جمال يسقط الدول»… لم تكن تلك الكلمات مبالغة. يقال أن الطاغية ليروي ملك تيريفرون قد جـنَّ جنونه تمامًا بعدما اتّخذَها زوجة، و فعلًا يبدو أنها امرأة مشؤومة تهلك الرجال.
حتمًا.
أقسم توليمان في نفسه بحزنٍ ألّا يقع مرة أخرى في سحرِ تلك الشيطانة، لكنّ عينيه استمرّتا في التسلّلِ إليها رغمًا عنه.
“لماذا تهتمّ أنـتَ بخطيبتي بينما أنا موجود؟”
“أنا فقط… بدافعِ نوايا طيّبة بحتة…”
“نوايا طيّبة؟ هل يمكن تسمية الإصرار رغم الرفض المتكرّرِ نوايا طيّبة؟”
عضّ توليمان على أسنانه و قبض يديه بقوّة. ذلك الأسلوب المتغطرس اللعين.
كان أحد أسبابِ كرهه الشديد ليورغن هو هذه الغطرسة بالذات.
‘أيها الوغد، انتظر فقط. سيأتي يوم تتعرّض فيه لضربة قويّة.’
و بما أنه سيتزوّج تلك المرأة المشؤومة، فليذهب إلى حافة الهاوية و ليسقط، كان توليمان يلعن يورغن في سرّه بشدّة، بينما يتلفت إليه في الوقت نفسه بخوف.
“كنتُ أفكّرُ في التساهلِ قليلًا لو أبديتَ ندما صادقا.”
“…؟”
تمتم يورغن بكلماتٍ غيرِ متوقّعة، ثمّ بدأ ينزع قفّازه فجأة.
لماذا القفّاز؟ شعر توليمان بنذيرِ شؤم و هو ينظر إلى يورغن…
“لكن ما يخرجُ من فمكَ ليس سوى أعذار، لذا لن أحتاجَ إلى ذلك. هذه إجابتي يا توليمان دي لاكيا.”
شيءٌ طُرحَ بخفّـةٍ و نعومة، لكن بوقاحةٍ واضحة، فاصطدمَ بوجه توليمان ثمّ سقط. التقطه توليمان تلقائيّا، فابيضّ وجهه في لحظة.
التعليقات لهذا الفصل " 36"