وإن كانت هذه هي المرة الأولى التي تلتقيه فيها وجهًا لوجه.
“…..إنه لشرفٌ لي أن ألتقيكَ، يا صاحب السموّ ، أمير لاكيا.”
“هاها، و أنا أيضًا. إنه لشرفٍ عظيمٍ لي أن أتبادل الحديث مع حسناء فاتنة مثلكِ!”
على الرغم من أن فانيسا قدّمت التحية بنبرةٍ متحفظة و متجهمة قليلًا، إلّا أن توليمان ردّ عليها بحيويةٍ مفرطة، كأنّه لا يفقه أيّ إشارة اجتماعية.
حتى بعدما أبدت له بوضوح أنها لا ترحّب بوجوده، لم يبرح مكانه. و كان ذلك كافيًا ليبلغ الغضب المتراكم عند فانيسا حده الأقصى.
‘ما الذي يحاول فعله بالضبط؟’
عادةً، حين تُظهر المرأة نفورًا أو انزعاجًا، يتراجع الرجل الذي يحاول التقرب.
هذا جزء من أبسط قواعد اللباقة في المجتمع الراقي.
غير أن توليمان دي لاكيا بدا كشخصٍ لا يعرف شيئًا عن تلك القواعد أصلًا.
“كنتُ أظنّكِ جميلة حتى حين رأيتكِ من بعيد، لكن الآن بعد أن رأيتكِ عن قرب… أخشى أن أفقد بصري من شدة جمالك، هاهاها.”
كان توليمان يتحرك بحماسٍ زائد، و وجهه قد احمرّ احمرارًا شديدًا.
كان الجو الكريه الذي يشـعّ منه يدفع فانيسا إلى بذل جهدٍ هائل كي لا تُظهر اشمئزازها بشكل واضح على وجهها.
و لو كان الأمر بيدها لفعلت ما يجول بخاطرها، و لسكبت كأس الشمبانيا على وجهه المتلوي ذاك لتردعه عن تصرفاته.
لكن… لا يمكنها أن تفعل ذلك مع الابن الشرعي لملك لاكيا، زعيم دول التحالف الثلاث.
لم يكن أمامها سوى أن تبتسم ابتسامةً مصطنعة و تومئ برأسها.
“ألستِ تشعرين بالضيق ببقائكِ في قاعة الحفل طوال الوقت؟ لقد رأيتُ حديقة هذا القصر، و رغمَ أننا في الشتاء فهي جميلة للغاية.ألا تودّين أخذ نزهة قصيرة؟”
مـدّ توليمان يـده إليها، وكأنه يوشك أن يمسك ذراعها للمغادرة معه. فارتجفت فانيسا غريزيًا، و حدّقت مباشرةً في عينيه.
الآن فقط لاحظت الأمر.
كانت عيناه نصف مذهولتين.
‘لقد كان مجنونًا إذًا.’
تنهّدت فانيسا في سرّها و هي تتساءل لماذا لا ينجذب إليها سوى الرجال المجانين.
بينما كان توليمان يفتح و يغلق يـده كانه يستعجل الحصول على جواب منها، لم تعد فانيسا قادرة على التحمل.
مسحت أي أثر للابتسامة عن وجهها، و تراجعت خطوة إلى الخلف. ثم صرّحت برفضٍ مهذّب لكنه حاسم:
“معذرةً، يا أمير لاكيا، لكني لا أرغب في التنزه في الحديقة. أشعر ببعض الدوار الآن.”
‘بل أشعر بالدوار بسبب أهدافكِ النتنة التي تظهر في عينيكَ.’
ابتعدت فانيسا عنه بنظرةٍ تحمل قليلًا من الاحتقار.
كانت تعتقد أن إظهار هذا القدر من النفور كافٍ ليجعله يتراجع.
غير أن توليمان، بعكس المتوقع، ابتسم بانشراح و كأنه وجـد الفرصة.
“تشعرين بالدوار؟ إذن لا بد أن الوقوف طويلًا في قاعة الحفل متعب لكِ . دعيني إذن أرافقكِ إلى غرفة الاستراحة. أمسكي يدي…..”
ثم مـدّ يـده إليها من جديد و هو يقترب ليقلّص المسافة بينهما.
تراجعت فانيسا خطوة أخرى، كما لو أنها رأت حشرةً مقززة. و بدأت تشعر بالذهول.
كيف يمكن لشخصٍ أن يتجاهل كل هذا الرفض الصريح؟
لماذا لا يبتعد؟
‘هل هذا لأنني جميلة للغاية… اللعنة؟’
الحقيقة أن عدد الرجال الذين حاولوا التقرب من فانيسا—بل أكثر من توليمان بكثير—كان يمكن أن يُكوّن جبلًا كاملًا.
لكن ذلكَ كان يحدث عندما كانت فانيسا غير متزوجة، أو حين كانت فريسة سهلة لنبلاء تيريفرون المنحطّة.
أمّا الآن—و على الرّغمِ من أنها لا تحبّ الاعتراف بذلك—فهي مخطوبة لدوق الإمبراطورية، يورغن دريك. و ذلك يعني أنها لم تعـد امرأة يمكن للرجال من حولها أن يعبثوا معها بوقاحة.
غير أن توليمان دي لاكيا اندفع نحوها مثل فراشة عمياء نحو النار، و كأنه لا يرى شيئًا أمامه.
بل كان أشبه بمهر جامح قد انفلت من عقاله.
زمّت فانيسا حاجبيها و هي تحدّق فيه، وتسترجع ما تعرفه عنه.
‘هل كان هذا الرجل مشهورًا بالسلوك الطائش أصلًا؟’
لقد سمعت أنه صاحب نزوات نسائية…
لكنها لم تسمع أنه يثير مشاكل من هذا النوع.
فبأي شيء لُـوّث عقله ليتهور بهذا الشكل؟
بالنّسبة لتوليمان، ففقد كان يحتقن غضبًا من تصرف فانيسا معه.
منذ أن سمع قبل أشهر كلام أحد النبلاء الإمبراطوريين ، الذي أقام في تيريفرون قبل سقوطها بقليل، صار يحمل عن فانيسا فكرةً مشوّهة.
[جمالٌ يهدم الدول؟
أجل، فهي أسقطت بلدًا بأكمله.
إنها ليست مجرد امرأة مشؤومة.
إنها وضيعة و شيطانة.
كان ملك تيريفرون، ليروي عاجزا، لهذا كانت تقضي لياليها مع أخيه أرنو.
و هناك الكثير من النبلاء الذين يزعمون أنهم كانوت على علاقة معها معها من قبل.]
قد رفض البعض ذلكَ الكلام باعتباره محض شائعات، لكن توليمان قد اقتنع بها تمامًا.
‘نعم، فانيسا لوينغرين امرأة وضيعة بطبيعتها.
و لا أحد يستطيع لومي إن حاولتُ مغازلتها قليلًا.
أليس يورغن دريك قد خطبها رغمَ علمه بذلك؟’
عند تفكيره بهذه الطّريقة، لم يشعر توليمان بأي ذنب و هو يلاحقها.
لكن…
لماذا كانت هذه المرأة تتصرف معه ببرود؟
‘ألم يُقَـل عنها إنها نامت مع أكثر من خمسين رجلًا في تيريفرون؟ لماذا تتظاهر الآن بعفّـة؟’
قام بتصديق هذه الأكاذيب تماما، لهذا لم يستطع التخلي عن وهـمه بأنه قادر على جعلها تستسلم له إن أصـرّ عليها قليلًا.
و النتيجة كانت سلسلة من الإهانات الخطيرة، تجاه خطيبة الدوق دريك نفسه، أمام جميع الحاضرين في قاعة الحفل.
انفجرت فانيسا أخيرًا…في اللحظة ذاتها التي وصل فيها يورغن، وقد أدرك ما يجري.
“هذا يكفي.”
“ماذا؟”
“قلتُ هذا يكفي يا سموّ الأمير توليمان دي لاكيا.”
أغمضت فانيسا عينيها ببطء ثم فتحتهما، وقالت بصوتٍ و ملامح باردة.
كانت الهالة الباردة المنبعثة منها تكفي لتجميد الهواء . أما عيناها الزرقاوان الداكنتان فقد تلألأتا بحدّة لا رحمة فيها.
“عندما تستمر في مضايقة سيّدة أظهرت لكَ رفضها، فذلك يعتبر إهانة واضحة. و من أجل الحفاظ على كرامتكَ بصفتكَ الابن الشرعي لملك لاكيا، زعيم دول التحالف الثلاث، يجدر بكَ التوقف الآن.”
كان صوتها بلا ارتفاع أو انخفاض، شديد الهدوء، لكنه كان يحمل نبرة توبيخ بصرامة .
لم تظهر عليها أي لمحة من انفعال.
كانت وقفتها النبيلة أشبه بزهرة زنبق بيضاء نمـت على حافة جرف.
أذهلت الجميع بموقفها.
وتلاشت كل الشكوك القديمة التي كانت تلاحقها كالدخان.
ـ كيف يمكن لامرأة كهذه أن تكون تلك الملكة الوضيعة التي يتحدثون عنها؟
في تلك اللحظة، بينما كان النبلاء يتبادلون نظرات الدهشة، أصيب توليمان بالصدمة.
لم يتوقع هذا الرفض القاطع.
اجتاحه شعور كبير بالإهانة. فهو ليس غبيًا كي يجهل أنه صار أضحوكة. و أنه سيظل يُذكر بما فعله اليوم.
و فوق ذلك…
كانت الصورة الآن واضحة للجميع:
فانيسا لوينغرين بـدت كامرأة نبيلة لا غبار عليها. أما هو… فظهر كرجلٍ تافـه يحاول تدنيس امرأة شريفة.
احمرّ وجه توليمان، و امتلأت بياضا عينيه بالدم.
لم يستطع أن يبتلع هذا العار.
شدّ قبضتيه و صرخ بغضب:
“سيّدة؟ أيّ سيدةٍ أنـتِ يا فانيسا لوينغرين؟
ألم تكوني تلك الوضيعة التي نامت مع أكثر من خمسين رجلًا حين كنتِ ملكة على تيريفرون؟!”
إن الثرثرة خلف الظهر شيء…
و إعلان الإهانة في وجه الشخص نفسه شيء آخر تمامًا.
حتى أولئك الذين كانوا يهمسون سابقًا توقّفوا و هم مصدومون أمام هذه الجرأة الوقحة.
عندما ساد الصمت كأنّ دلوا باردًا سُكب على الحفل، مرت ثوانٍ طويلة كدهـر، ثم انطلقت من فانيسا ضحكة قصيرة، ساخرة، كأنها لا تصدّق ما تسمعه.
انطلق صوتها البارد كحدّ السيف و هو يشقّ الصمت:
“يبدو أن أحدهم بدأ ينشر الشائعات عني من جديد.”
بـدت من لهجتها أنها اعتادت مثل هذه المواقف، لكن الغضب البارد كان واضحًا في عينيها.
حين دارت بناظريها الزرقاوين الفاتحين على الجميع، عـمّ الصمت، و سرت قشعريرة التوتر في القاعة.
“أقسم باسم روح أبي الراحل.”
شهق الناس لثقل العبارة.
“أنني لم أرتكب قطّ أي فعل غير أخلاقي. و حتى لو انغمست حياتي في فساد مملكةٍ سقطت، و حتى لو تلطخت بالطين…فإن جسدي هذا و روحي أقسم بهما على أنهما كانا و لا يزالان طاهرين، أمام روح أبي… و أمام نعمة الحاكم الذي باركني.”
ما إن أنهت عبارتها، حتى تلألأت عينا فانيسا بالبياض، و ظهر على ظاهر يدها اليمنى نقشٌ هندسي يشبه زهرة لوتس متفتحة، بلونٍ أبيض ناصع.
التعليقات لهذا الفصل " 35"