كان توليمان، أمير لاكيا، أغنى الدول الثلاث في التحالف الغربي، في حالة ارتباك شديد.
كان توليمان يقيم في العاصمة لأجل الاستجمام، و قد سمع شائعةً مفادها أنّ خطيبة يورغن دريك ستظهر اليوم في الحفل، فهرع مسرعًا إلى القصر الإمبراطوري.
و عند دخوله قاعة الحفل، كان يتعامل باستخفاف مع مَـنْ اقتربوا منه طلبًا للتقرّب منه، بينما كان ينتظر وصول يورغن دريك و خطيبته.
و بحسب الإشاعات، فإنّ تلك الخطيبة هي ملكة تيريفرون التي فقدت عرشها مؤخرًا، و أنّها ساحرة مشؤومة تجلب سوء الحظ أينما حلّت.
لكن في الوقت نفسه—
قيل إنّ جمالها فاتن لدرجة أنّ مَـنْ يراها مرة لا يستطيع نسيانها، و أنّ عدد الرجال الذين وقعوا في غرامها من النظرة الأولى يكاد يكوّن جبلًا.
كما أنّ لها كمـا هائلا من الألقاب.
جمال يفتنُ الدول. حسناء لا يُشقّ لها غبار.
ملاك نزل من السماء ، هدية من الحاكم ، جنّيـة ، كنز البشرية.
تعبيرات مقزّزة تجعل المرءَ يشكّ في سلامة عقول مَـنْ يردّدونها.
‘يا له من أمر سخيف. إنها بشرية مثلنا، فكم يمكن أن تكون جميلة؟’
كان توليمان، المولود بطبعٍ متمرّد، لا يصدق تلك الترهات.
فقد رأى خلال حياته كأمير عددًا لا يُحصى من الجميلات، لكنهن في النهاية بشر ذوات عيوب، ولم يسبق أن صادف جمالًا حقيقيًا يخطف الأنفاس.
‘ثم إنّ شخصًا مثل يورغن يستحيل أن يفوز بامرأةٍ فاتنةٍ إلى هذا الحد. لا بد أنها مبالغات فارغة.’
كان يشعر بالإهانة حتى في التلفّظ بذلك، لذا لم يعترف به لأحد، لكن توليمان كان يخفي في داخله شعورًا بالنقص أمام يورغن.
و كان السبب هو بطولة الفروسية التي أُقيمت العام الماضي في العاصمة.
فقد هزمه يورغن بسهولة تامة، و صعد إلى منصّة الفوز، فيما تجرّع توليمان مرارة الهزيمة المهينة.
و منذُ ذلكَ الحين، صار يحسده و يسعى لإيجاد نقطة ضعف له.
و في أحد الأيام، سمع شائعة تقول: “الدوق دريك سيتزوج أخيرًا.”
و زاد فضوله جنونًا حين علم أنّ تلكَ العروس ليست سوى ملكة تيريفرون التي دمّـر يورغن مملكتها بأمرٍ إمبراطوري.
كان الفضول يقتله لمعرفة كيف حصل كل ذلك.
وعندما لم يجـد طريقةً لمعرفة الحقيقة، ظلّ متوترًا إلى أن وصله خبر بـدا كطوق نجاة: الإمبراطور يقيم حفلًا ضخمًا من أجل يورغن.
‘هذا هو! هذا تمامًا ما أحتاجه! سأحضر الحفل و أكشف حقيقة الشائعات بنفسي!’
و بعد طول انتظار مملّ، رأى أخيرًا يورغن و خطيبته.
كان يورغن على حاله كما رآه آخر مرة، أما خطيبته…
‘تلك المرأة….’
حالما وقعت عيناه على فانيسا لوينغرين، غرق توليمان في صدمةٍ هائلة.
كان يعتقد أنّ “أجمل الجميلات” مبالغة، لكن جمال فانيسا تجاوز حدود البشرية.
لم تكن ألقاب “الملاك” و”الجنّية” و “الهدية المقدّسة” تملّقًا فارغًا، بل وصفًا دقيقًا للحقيقة— و قد اقتنع توليمان بها تمامًا.
خصلات شعر تشبه ضياء القمر، و عينان كزرقة السماء، وجه بلا شائبة، نظرة حادة، عنـق أبيض رقيق، أطراف طويلة ممشوقة، خصر نحيل و جسد ذو انحناءات لطيفة….
كانت حقًا جمالًا كاملًا في كل تفصيل. جمالًا غير بشري، يكاد لا ينتمي إلى هذا العالم.
و قد ظل يحدّق فيها لفترة كالأبله، ثم لاحظ أنّ الرجال من حوله يحدقون بها بالطريقة نفسها.
‘…ما هذا الهراء….’
ضحكَ بسخرية و قد شعر كأنه يحلم .
لكن حين أعاد النظر إليها، ألقت عليه نظرة رقيقة مصحوبة بابتسامة طفيفة.
“….!”
بتلك الابتسامة وحدها شعر و كأنه صعـد إلى السماء ثم هوى إلى الجحيم في اللحظة التالية.
‘أن تكون مثل هذه الحسناء النادرة… خطيبةً ليورغن….’
كان ذلكَ غير عادل على الإطلاق.
من بين كل الرجال، لماذا يورغن دريك بالذات؟
كان الغيظ يأكله.
أراد لو يتحدّاه لانتزاعها منه.
لكن من المستحيل أن يهزم شخصًا “محظوظًا ببركة القدر” مثل يورغن، و هو مجرد إنسان عادي.
وقد حدث الشيء نفسه في بطولة الفروسية— فالنصر كان حليف يورغن منذُ البداية.
[أميرٌ من التحالف الغربي بثلاث ممالكه… ليس بشيء مهم.]
[صحيح. الدوق دريك هو الأقوى بلا منازع. ثم إنه مستخدم للبركة.]
[و مع ذلك، لم يستخدم قوّته في البطولة، فكيف خسر الأمير بهذا الشكل المخزي؟ لم يصمد لجولة واحدة حتّى. أليس ضعيفًا أكثر من اللزوم؟]
[هاه….]
ما إن تذكّر تعليقات الناس حينها و سخريتهم، حتى عاد الغيظ يغلي في صدره.
اشتعلت رغبة جامحة في نفسه في إيقاع يورغن في مأزقٍ ما. و ظل يراقب يورغن و خطيبته فانيسا بنظرة حاقدة.
كانت داخله رغبة طفولية جموحة.
رغمَ أنه لا يملك الجرأة لمواجهة يورغن مباشرة، و لا القدرة على هزيمته في معركة….
‘لكني… قد أستطيع….’
قد يحاول إغواء فانيسا أولًا، و حتى لو فشل…يكفيه أن يجلب العار لخطيبة يورغن ليشوّه سمعته.
عندها ارتسمت على شفتيه ابتسامة خبيثة.
****
حين جاءت فانيسا إلى الحفل الإمبراطوري، كان أول ما يجب عليها فعله هو تقديم التحية للإمبراطور.
وكان من المفترض بعدها أن تختلط بأفراد المجتمع الراقي، لكن فانيسا لم تكن في مزاجٍ يسمح لها بذلك.
و بينما كانت تقف بهدوء في مكانها، ظهر فجأة وجه مألوف في مجال رؤيتها— لم يكن سوى دوق إيفانوود.
كان لدى فانيسا ما تسأله عنه، فاستأذنت من الإمبراطور، الذي كان يتحدث مع يورغن، و تقدّمت بعيدًا من غير لفت الأنظار.
كانت تشعر بوخز في ظهرها— بلا شك هي نظرة يورغن الحادّة— لكنها تجاهلتها و لقتربت من دوق إيفانوود.
“الدوق إيفانوود.”
“آه… يا صاحبة السمو الملكي…!”
كاد يدمع من شدّة تأثره حين رآها. فسألته فانيسا عن وضع لوينغرين، محاولةً جسّ نبضه بحذر.
“هل يرى الدوق إيفانوود حكم ديكلان حكمًا إيجابيًّا؟”
“ذلك….”
تفحّص الدوق المكان خشية وجود مَـنْ يسمتع ، ثم قاد فانيسا إلى زاوية مظلمة، وقال:
“الملك ديكلان حاكم مستبد. يختلف كثيرًا عن جلالة الملك السّابق إيشيد.”
كان إيشيد والد فانيسا ملكًا حكيمًا يصغي لوزرائه، و كان الدوق إيفانوود أوفى رجاله.
والقول إن ديكلان لا يشبهه يعني بوضوح أنّ الدوق غير راضٍ عنه.
‘كنت أتوقع ذلك.’
ثم قالت فانيسا بنبرة ذات مغزى:
“إن كانت لديكَ طموحات كبيرة…فأنا مستعدة لدعمكَ.”
“هذه الكلمات….”
توقعت أن يتظاهر بالدهشة و يتراجع، لكنه بدا مهتمًا أكثر مما ظنت.
يبدو أن هناك أمرًا يتحضر خلف الستار.
و بعد تردد بسيط، أكّدت له:
“أنا واققة في صفّـكَ، لا في صف ديكلان.”
“…! إنّه لشرف عظيم، يا صاحبة السمو.”
تلألأت عيناه ببريق ثقيل، كأنه يرى فيها بصيص أمل كبير.
ثم ابتسمت فانيسا قليلًا، و انتقلت إلى موضوع يشغلها.
“هل والدتي مريضة حقًا؟ أنا قلقة من أن تكون حالتها خطيرة.”
تنهد الدوق بخفوت، ثم خفض بصره وقال:
“…نعم. ليست في حالة حرجة، لكنها حالتها تستدعي الحذر….”
صدمت فانيسا لسماع ذلك، لكنها تماسكت سريعًا.
إن كانت والدتها مريضة…فلا بد أن تذهب إلى لوينغرين لرؤيتها. هذا واجبها بصفتها ابنتها.
كانت علاقتها بوالدتها فاترة قليلًا— فهي أقرب إلى والدها و تشعر بالانسجام معه أكثر.
والدتها لطالما كانت سلبية في كل شيء، وهذا كان يثير ضيق فانيسا.
حتى عندما أُجبرت على الزواج من ليروي، لم تفعل والدتها سوى الاعتراض قليلًا قبل أن تتراجع أمام ديكلان.
‘كنت حينها أشعر بالإحباط منها….’
لكن ذلكَ الإحباط اختفى مع مرور الزمن.
فوالدتها ضعيفة بطبيعتها، و ليس بيدها الكثير.
والآن… كل ما تشعر به هو القلق.
و قد تساءلت بانقباض: هل ديكلان يترك حالتها تتدهور عمدًا ليزيحها عن طريقه؟
‘لن أستغرب من ذلك. فهو قمامة بشرية….’
و ديكلان لم يكن موجودا في الحفل. لا بد أنّه لم يصل بعد— أو أنه لن يحضر أصلًا.
كانت فانيسا تريد أن تتحدى ديكلان علنًا، لكن لا بأس… ستجد لاحقًا وسيلة أفضل.
و بعد حديثٍ مطوّل مع الدوق إيفانوود، تركته وعادت إلى القاعة.
و كان يورغن لا يزال يتحدث مع الإمبراطور.
وبينما كانت تفكر في كيفية الانتقام من ديكلان بأكبر فاعلية، عبرت القاعة بهدوء.
من حديثها مع الدوق، أدركت أنه يخطط على الأرجح للتمرد في الخفاء.
عائلة الدوق و النبلاء الموالين له لديهم قوّة وثروة كافية لإنجاح الأمر إذا تـمّ الإستعداد بشكلٍ جيّد.
لكن المشكلة هي شرعية تغيير العرش و موافقة الإمبراطور.
و بقاؤه في العاصمة كان بسببِ ذلك على الأرجح.
‘الإمبراطور الثعلب يـزن الطرفين: الدوق أم ديكلان…’
أيّهما أكثر نفعًا له؟ مَـنْ سيكون كلبع الأكثر ولاءً؟
نجاح التمرد يتوقف على قرار الإمبراطور في النهاية.
‘…و هذا يعني أن دور يورغن سيصبح محوريًّا.’
لا تعرف إلى أي حدّ يأخذ الإمبراطور برأي يورغن، لكنه يعامله كابنٍ له، و هذا يمنحها فرصة… إذا استطاعت جذب يورغن إلى صفّها، فقد تنجح في التأثير على الإمبراطور.
‘يعني أنّ تحطيم ديكلان لن يتم إلا إذا جعلتُ يورغن في صفي.’
شعرت بالاختناق، فالتقطت كأس شامبانيا و شربته دفعة واحدة.
ثم أمسكت بالكأس الثانية، و فجأة أحسّت بشخص يقترب.
قطّبت فانيسا حاجبيهل و التفتت.
رأت رجلًا بشعرٍ أشقر داكن و عينين خضراوين فاتحتين— و كانت ملامحه كلها تنضح بالخبث.
‘ما هذا؟’
حدقت به بحذر و قد انقبض صدرها تلقائيًا، فابتسم الرجل ابتسامة خبيثة و مـدّ يده للمصافحة.
التعليقات لهذا الفصل " 34"