وبفضل استخدام بركة الحياة، تحسّنَت حالة جسد فانيسا، لكن الطبيبَ الذي فحصَها نصحها رغم ذلك بأن تستريح جيّدًا.
و لذلك حاولت أن تسترخي قدر الإمكان، و أن تأكل جيدًا و تنام جيدًا….
اللعنة، القول أسهل من الفعل.
قلبُها مضطربٌ لهذا لا تستطيع أن ترتاح!
‘يروغن دريك الوغد….’
فقط عندما تتذكّر تلك القبلة التي كادت تلتهمُها، تشعر بجسدها يرتجف.
في تلك اللحظة بالذات ، كان تجسيدًا خالصًا للجنون.
إن المشاعرَ العنيفة التي أظهرها لم تكن تشبه رغبات الرجال الذين طاردوا فانيسا من قبل، و لا تشبه تملّك ليروي.
كيف يمكن وصف تلكَ المشاعر المُضطربة المدمّرة التي كانت تفيض من عيني يورغن الذهبيتين؟
لم تكن مجرّد رغبة في التملّك.
‘إنّـه أمر مربك….’
كانت تخطّط لأن تجعل يورغن في صفّها لتنتقم من ديكلان. و كانت مستعدة حتى لتحمل فكرة الزواج منه لتحقيق ذلك…
‘لم أكن أعلم أنه مجنون إلى تلكَ الدرجة….’
هل كان الهربُهو الحل منذ البداية؟
شعرت بقشعريرة تسري في جسدها، و كأنها إن استسلمت له الآن فلن تستطيع التخلص منه طيلة حياتها.
إلى أيّ مدى يا تُرى ظلّ ذلكَ الرجل مهووسًا بها؟
‘يقول إننا كنا نعرف بعضنا في الماضي.’
لا تدري لماذا تبدو ذكرياتها حول “رودي” فقط غريبة و غير متناسقة، لكن بما أن يورغن يعتبر نفسه الشخص الذي تخلّت عنه و خانته، فيبدو أن تلك الذكرى صحيحة.
إن كان الأمر كذلك… فلماذا نسيتُ رودي؟
‘يورغن يقول إنني تخلّيت عنه و خنتُه، ولكن―’
أما هي فلا تملك أيّ ذكرى عن ذلك، و هذا ما يزيد الأمر ضيقًا.
دفنت فانيسا وجهها في الوسادة و أطلقت تنهيدة طويلة ثقيلة.
إن ذهبتُ إلى لوينغرين و بحثتُ عن الخَدَم الذين خدموني عندما كنتُ في الحادية عشرة… فربّما أجد عندهم خيطًا يقودني للحقيقة؟
‘لا بدّ من زيارة لوينغرين. ليس الآن، لكنه أمر لا مفرّ منه…… كما يجب أن أتفقد والدتي لأطمئن عليها.’
و لن يكون أمامها سوى استمالة يورغن و إرضائه حتى تحصل على إذنه….
و أكثر ما يربكها هو التفكير في كيفية خداع ذلك المجنون أو إقناعه.
‘…على أيّ حال، لا نيّـة لدي للاستسلام.’
فانيسا لم تستسلم يومًا، بل قاومت دائمًا. لم تتخلّ عن حياتها يومًا مهما بلغ الجحيم الذي عانته.
*****
قبل مغادرة العاصمة بيوم واحد، أقام الإمبراطور حفلًا فخمًا تكريمًا ليورغن.
المشكلة أن فانيسا أيضًا وصلتها دعوة. و يا للمصيبة: بصفـة “خطيبة الدوق دريك”.
‘هذا غير معقول… كيف أذهب إلى هناك؟’
صحيح أنها ستتزوج يورغن في النهاية، لكنهما لم يبدآ التحضيرات الرسمية بعد…ثم إن مملكة تيريفرون لم يمضِ وقت طويل على سقوطها.
إن حضرت ملكة تيريفرون السابقة أمام نبلاء الإمبراطورية بصفتها خطيبة الدوق دريك… فمجرد تخيل كمية الشّائعات عنها جعلَ رأسها يؤلمها.
‘ما الذي يفكّر فيه الإمبراطور…؟’
هل هو يستمتع برؤيتي أعاني..؟
ربّما يريد هذه المرة أن يرميني في وسط ضباع المجتمع الراقي و يستمتع بالمشهد.
و على ضوء ما حصل في قاعة الاستقبال، و ما جرى أمام المعبد، لم تكن هذه الفكرة مستبعد.
‘هاه، ماذا أفعل.’
هي حقا لا تريد الذهاب.
لكن لم يكن بوسعها مخالفة أمر الإمبراطور، فلم تستطع سوى مشاهدة خادماتها و هنّ يسرعن منذ الصباح الباكر للاستحمام و تزيينها، و هي على وشكِ أن تنهار من اليأس.
“لنستخدمْ تلك الياقوتة. إنها تشبه لون عيني الأميرة، و ستناسبها جيدًا.”
“و ماذا عن الشعر؟ هل نرفعه بضفيرة مرتّبة؟”
“إذن سنستخدم الدبابيس…”
لم تكن فانيسا تكره التزيّن. بل كانت تحب ذلك أصلًا. لكن في مثل هذا الوضع، حتى الأشياء المحببة لا تكون ممتعة.
لذا تركت كل شيء للخادمات وهي في مزاجٍ كئيب.
كلامهن عن الجواهر و المكياج و تسريحة الشعر كان يدخل من أذن و يخرج من الأخرى.
لا تدري كم من الوقت مـرّ.
“هلا تنظرين إلى المرآة يا سمو الأميرة؟ هل يعجبكِ مظهركِ؟”
اقتربت رينيه، ممثلةً باقي الخادمات، و سألت بلطف.
نظرت فانيسا إلى المرآة بعينين خاويتين.
ثم فقدت القدرة على الكلام.
‘…هذا الوجه لعنـة…..’
كان وجهها جميلًا فوق الحد حتى في الأيام العادية، لكن بعد التزيين أصبح جمالها مضاعفًا عشر مرات.
كانت ملامحها مخيفة بجمالها.
كان جمالا بعيدا عن الجمال البشري.
إن ظهرت بهذا الشكل في حفل القصر الإمبراطوري…ستجذب الأنظار بشكلٍ مرعب.
و ههذا الوجه اللعين سيجذب إليها منحرفين مثل أرنو مجددًا.
“أميرة…؟ هل تشعرين بعدم الارتياح؟ أم أن التزيين لم يعجبكِ؟”
دفعت نبرة رينيه القلقة تلكَ الظلال السوداء إلى الخلف. عندها أطلقت فانيسا تنهيدة ثقيلة و هزّت رأسها ببطء.
فمزاجها الكئيب شيء، و جرح مشاعر مَـنْ بذلن جهدًا لأجلها شيء آخر.
“لا، يعجبني كثيرًا. لقد كان عملكن رائعًا.”
“…! شكرًا لكِ! يسرّني حقًا أنـكِ أحببته.”
و بينما ترتسم السعادة الصادقة على وجوههن، شعرت فانيسا بمرارة في فمها. فتظاهرت بالسعادة بابتسامةٍ مناسبة رغمَ القلق الذي كان يملأ رأسها.
ظهر يورغن ذلك اليوم و قد كان اهتمّ بمظهره أكثر من المعتاد.
فمن غير المعقول أن يذهب إلى حفل القصر الإمبراطوري بـزيّ “جزار الشمال”.
نظرت فانيسا إلى البذلة الاجتماعية الأنيقة التي يرتديها، متفحصة إياه من أعلى إلى أسفل.
كان اللون الأسود يزعجها، لكنه بدا أنيقًا بفضل المخمل الجيد و التطريز الذهبي.
طبعًا، ما يكمل تلك الأناقة هو بنيته الجسدية و وجهه.
فكرت فانيسا بسخرية:
‘ على الأقل هذا الشخص المجنون لديه مظهر جيد.’
مـدّ يورغن يـده إليها بملامح جامدة لا تعرف ما الذي يفكّر فيه.
حدّقت فانيسا به بنظرة حادة ثم وضعت يدها في يًده.
كان الدفء الذي شعرت به من خلال القفازات رقيقًا لكنه حارق. و فجأة عاد إلى ذهنها شعور تلك اليد الكبيرة عندما أمسكت بعنقها…فابتلعت ريقها من غير أن تشعر.
خفق قلبها بعنف. و كأن ملامسة هذا الرجل قد طبعت في جسدها الخوف.
*****
“لقد وصلنا.”
قال السائق بأدب وهو يفتح الباب.
هذه المرة كانت فانيسا تعتزم التصرف بأدب، فبقيت جالسة حتى نزل يورغن أولًا.
لا يمكنها التصرّف كالمهرجين في حفل القصر.
“أعطيني يـدكِ.”
‘……هل أنا كلب لديكَ؟’
ما إن نزلت من العربة بعده حتى مـدّ يـده إليها بصيغة أمر.
شعرت بالحنق لكنها أمسكت بيده دونَ جدال حتى لا تتسبب بضجة.
كان يورغن بارعًا في الآداب. رغمَ أنه فاشل في التقبيل…
تحدّث نفسها و هي تحدّق فيه، فإذا بعينيهما تلتقيان.
استدارت بسرعة و كأنها ارتكبت خطأً فادحًا.
“يدخل الدوق دريك، و معه خطيبته… الأميرة فانيسا لوينغرين!”
ما إن أعلن الحاجب ذلك حتى تحولت الأنظار دفعة واحدة إليهما.
عيون مليئة بالصدمة و الفضول.
البعض سمعَ بالشائعات و البعض لم يسمع، لكن الجميع نظر إليهما بعدم تصديق.
“حقًا هي… تلكَ المرأة…”
“لم يمضِ وقت طويل على موت ليروي تيريفرون….”
“حتى لو وافقَ صاحب الجلالة، فلا يزال الأمر….”
وصلت إلى أذنها تلكَ الهمسات المزعجة. لم يكن ذلك مفاجئًا، فهي تتوقع وجود مَـنْ يعترض.
‘يظنونني سأتزوج من أجل حياة سعيدة.’
تخيلت فانيسا أنها تقلب طاولة الطعام رأسًا على عقب، و رفعت ذقنها في كبرياء.
مهما قالوا عنها، لن تنحني.
فقد سمعت أسوأ من هذا من نبلاء تيريفرون عندما كانت ملكتهم. لذا ليس هناك شيء جديد عليها.
إنما هو مجرّد إزعاج لا أكثر.
“لكن… إنها حقًا جميلة بشكلٍ مذهل. هذه المرة الأولى التي أراها فيها.”
“جمالها مشهور. لم تُوصف بأنها حسناء لا نظير لها من دون سبب.”
“…ههه. وما فائدة الجمال؟ إنها امرأة يجلب وجودها النحس….”
كان ذلك النوع من الاحتقار مألوفًا.
كثير من نبلاء الإمبراطورية ينظرون باستعلاء إلى ممالك الجنوب.
و لا سيما أن لوينغرين التي كانت مملكة زراعية صغيرة رغمَ غناها ، فغالبا ما يُستهان بها.
و لهذا، بالرغم من أن فانيسا أميرة، لم يتوقع أحد أن يعاملها نبلاء الإمبراطورية كأميرة فعلًا.
ففي نظرهم، أبناء الجنوب ليسوا سوى رعايا تابعة للإمبراطورية.
لكن فانيسا لم تتعرّض للإذلال يومًا.
أتدرون لماذا؟
“همف، هل ستتلقى الأميرة دعواتٍ للرقص أيضًا؟ أم أن الدّوق دريك لن يسمح لها؟”
“لا ينبغي لها أن تحكم على رجال الإمبراطورية مسبقًا بسببِ الدوق دريك!”
“على الأقل نستطيع تبادل التحية معها، صحيح؟ كيف أبدو اليوم؟ هل مظهري جيد؟”
فانيسا كانت تعلم أنّ مجرد تنفّسها يكفي ليقع تسعة من كل عشرة رجال في شباكها.
إذا تلاقت نظراتهم معها، كانت وجوههم تحمّر. و إن ابتسمت قليلًا، ذابوا بالكامل.
و ليس الرجال فقط. فقد كانت تعلم من خبرتها أنّ جمالها يؤثر في الجميع بلا استثناء.
الناس يحبون الجمال، و ينجذبون إليه. و استغلال ذلك أمر في غاية السهولة.
مسحت بنظرة واحدة أرجاء القاعة، ثم منحت الحضور ابتسامة خفيفة.
فخفـتَ صوت القاعة فجأة، ثم عاد الضجيج شيئًا فشيئًا.
أصبح أكثر من نصف الحضور ينظرون إليها الآن بنظرات مختلفة تمامًا.
فداعبت فانيسا الفراء الأبيض على كتفها بتأنٍّ وهي تفكر ببرود:
التعليقات لهذا الفصل " 33"