ذلك “المشهد” الذي خطر ببالي حين كان رأسي يكاد ينفجر من الألم، كان يحمل شعورًا بالغُربة، و كأنّه لا يخصّني أصلًا.
عندما فكّرتُ فيه بعقلٍ صافٍ، بـدا الأمر كذلك فعلًا.
كان الأمر يشبه التلصّص على ذاكرة شخصٍ آخر…
‘ثمّ ذلك الاسم، رودي…… كان غريبًا، مألوفًا على نحوٍ مريب، و مع ذلك غريبًا عنّي.’
و بعد أن فقدتُ الوعي، رأيتُ مجدّدًا ذلك الحلم الغريب.
لكن ذلك الحلم الذي بدا مثل شظايا من حكايةٍ لا أعرفها لم يمنحني أيّ خيط.
في النهاية، لم أستطع معرفة أي شيء بالكامل.
لم تكن فانيسا تعرف مَـنْ هو الفتى ذو العينين الحمراوين الذي يُدعى رودي، و لا كانت تفهم أيّ علاقة تربطه بيورغن.
هل يمكن أن يكون رودي و يورغن الشخص نفسه…؟
هذا ما كانت تستطيع توقّعه فقط من ردّة فعله.
‘إن كان رودي صبيًّا قضى عامًا كاملًا مع فتاةٍ في الحادية عشرة من عمرها مثلي، و إن كان هو نفسه هذا الرجل…’
إن افترضتُ ذلك، ستبدو قطع الأحجية المتناثرة و كأنّها بدأت تلتحم قليلًا.
لكن المشكلة كانت التناقض مع الذاكرة.
ذكرياتي مع رودي… لماذا أشعر و كأنّها ليست لي؟
هل تلكَ الذكريات… حقًّا تخصّني؟
“….”
عاد كلّ شيء إلى نقطة الصفر، وأصبحتُ عاجزة عن معرفة أيّ شيء.
تنهدت فانيسا تنهيدةً ثقيلة حتى كادت الأرض تهوي معها، ثمّ نظرت من جديد إلى يورغن.
و حين التقت عيناهما، ارتجفت أجفانه ارتجافة طفيفة.
كان دائمًا رجلًا هادئًا ، باردًا ، غير مبالٍ.
لكنّه بدا الآن و كأنّه يُظهر ثغرة غير معهودة، كحصنٍ حديديّ صلب ظهر فيه صدع.
ربّما الآن فقط يمكنني معرفة الحقيقة.
الفرصة قد لا تتكرّر، لذلك اختارت فانيسا كلماتها بحذرٍ شديد.
كيف يجب أن تسأل كي تنتزع السرّ الذي يخفيه خلف حصنه المحكم…؟
‘…سألني ما إذا كنتُ قد تذكّرت، أليس كذلك؟’
ماذا لو قلتُ إنّني تذكّرت……؟
كيف ستكون ردّة فعله يا تُرى؟
لكن إن اكتشف أنّني أكذب، قد يحاول قتلي.
‘لا، هذا غير صحيح. أنا الآن شخصٌ نال بركة الحياة.’
من ينال البركة يكون ذا قيمة عظيمة.
و الحاصل على بركة الحياة يكون أثمن من ذلك بكثير.
لا كبير الكهنة و لا الإمبراطور و لا حتى قداسة الكاهن الأعظم سيرغبون في خسارته.
و حتّى لو كان الدوق دريك نفسه، فلن يستطيع قتلي بهذه البساطة.
…لكنّه قد يفعل ما هو أسوأ من القتل.
تردّدت فانيسا.
و بعد تفكيرٍ دام أكثر من خمس دقائق، قرّرت المجازفة.
فهي كانت فضوليّة للغاية حيال ردّة فعل يورغن دريك إن قالت له إنها تذكّرت.
ابتلعت ريقها بصعوبة، ثمّ فتحت فمها أخيرًا.
“نعم… لقد تذكّرت.”
ضيّق يورغن عينيه، و تألّقت عيناه ببريقٍ ذهبيّ يشبه اكتمال القمر.
شعرت فانيسا بنذير سوء، فانكمش كتفاها قليلًا.
و لم يخطئ حدسها―
“أنـتِ تكذبين.”
اشتعلت شرارة قاتمة في عينيه الذهبيّتين.
وقف من مقعده ببطء، ففزعت فانيسا دونَ وعي، لكنّها تمالكت خوفها بسرعة و واجهته بجرأة.
فهي ليست مدينة له بأيّ اعتذار، ولا تملك ما يجعلها تشعر بالذنب…
رغمَ أنّ خوفها كان حقيقة لا يمكن إنكارها.
‘هذا الجسد الضخم بلا فائدة….’
كان واقفًا أمامها بحيث تضطر إلى رفع رأسها عاليًا لتنظر إليه.
كتفاه واسعتان على نحوٍ مبالغ فيه.
حتى بين رجال الشمال ذوي الأجساد المدربة، كان ذا بنيةٍ خارقة.
و وقوفه على تلكَ المسافة القريبة جعل رهبةً ضخمة تتدلّى فوقها.
و مع ذلك، لم تتراجع.
فقد سئمت من الانكماش أمامه كحيوان صغير خائف.
سألها يورغن وهو يبتسم بسخرية خفيفة:
“هل يعجبك اللعب بي؟”
“…وهل فعلتُ هذا للتسلية؟ لقد فعلتُه من شدّة الضيق.”
“أنـتِ كما كنـتِ دائمًا. لم تتغيّري قط.”
ثار غضب فانيسا و صرخت:
“لا… لا تتكلّم و كأنّـكَ تعرفني! هذا يزعجني! ما الأمر؟ هل أنـتَ حقًّا ذلك الصبيّ المدعوّ رودي؟ هل لهذا تفعل بي كلّ هذا؟ لأنّني…… تخلّيت عنك؟”
وعـدٌ بعدم التخلّي.
إن كانت الذكرى أصلًا حقيقيّة، فهذا يعني أنّها تخلّت عن ذلك الصبيّ.
فلو لم تتخلَّ عنه، لكان إلى جانبها الآن…
لكنها لم تكن تتذكّره أصلًا.
‘لكن….’
عضّت فانيسا شفتها ثمّ قالت:
“سموّ الدوق……ذكرياتي حين كنتُ في الحادية عشرة ضبابيّة. حتى لو كنّا نعرف بعضنا سابقًا، فلا توجد أي ذكرى عنكَ في ذاكرتي.”
“…كنّا نعرف بعضنا سابقًا….”
كرّر يورغن عبارتها و هو يبتسم بسخرية باردة.
هل كان من الممكن التعريف عن علاقتهما بهذه البساطة؟
في ذلك الوقت، كنـتِ كلّ شيءٍ بالنّسبة إلي.
خلاص حياتي، سيّدة روحي، النور الوحيد الذي أضاء عتمتي.
كانت قيمتـكِ أكبر من أن تُسمّى علاقتنا “معرفةً سابقة” ، و كانت كلمة ” الصداقة” بدورها لا تعبّـر عن أيّ شيء.
كلّ أملي، كلّ إصراري على الحياة، كلّه كان متّجهًا نحوكِ―
فماذا كان يجب أن أسميكِ؟
[أنـتَ واقـع في الحب.]
[الحب؟ ذلك الشيء؟]
[بعض أنواع الحب يشبـه الجنون.]
كانت كلمات الإمبراطور محض سخرية.
إرادتي كلّها كانت منصبّة على الانتقام.
من كلّ مَـنْ خانني و تخلّى عنّي…
و أنـتِ ….لم تكوني استثناءً.
فأنـتِ أيضًا خلّصتِني و قيّدتِني على هـواكِ، ثمّ تخلّيتِ عنّي في النهاية.
‘حتى لو تذكّرتِ الآن… لا شيء سيتغيّر.’
لقد ابتعدنا كثيرا لدرجة أنه من المستحيل اعادة الأمور كما كانت.
“عدم تذكّـركِ لي يعني أنّني لم أكن مهمّـا لكِ أصلًا.”
“ماذا…؟ لماذا تقول هذا؟ عدم تذكّري ليس بهذا المعنى! لا أعرف كيف أشرح ذلك، لكن الأمر… ليس كما تظنّ….”
“كلّ هذه محض أعذارٍ بائسة يا فانيسا لوينغرين.”
قبض يورغن على معصمها و سحبها نحوه، و اقترب منها لدرجة أن أنفاسه تكاد تلامس وجهها.
لا، بل كان يطعنها بنظراته.
نظرات مفعمة بانعدام الثقـة و الضغينة.
و فجأة، أدركت فانيسا الحقيقة.
مهما قالت، و مهما اكتشفت من حقائق… هذا الرجل لن يصدّقها.
كان تجسيدًا للانتقام، كان يعيش من أجله فقط.
هكذا فقط تمكّـن من الاستمرار حتى الآن.
“سأخبركِ شيئًا. الحقيقة التي تودّين معرفتها بشدّة.”
“……!”
“ذلك الصبيّ الذي قضى عامًا معـكِ في ذلك المكان حين كنـتِ في الحادية عشرة… كان أنا.”
“إذًا…!”
شهقت فانيسا و وضعت يديها على ذراعيه بلا وعي.
خفق قلبها بقوّة غريبة، و كأنّها وجدت مخرجًا بعد ضياعٍ طويل.
لكن كلماته التالية أطفأت كلّ شيء.
“و قد مـات.”
“…ماذا؟”
“ذلك الضعيف قد مـات و انتهى. و أنـتِ…… قتلتِه.”
“…ما الذي تقوله؟”
مـدّ يورغن يده و أمسكَ خصلة من شعر فانيسا العسلي، و سحبها ببطء بينما كانت عيناه تلمعان بلون الكهرمان.
ثمّ وضـعَ شفتيه عليها بهدوء قاتم.
كانت نظراته تغلي بعدة مشاعر.
و من بينها ، رأت فانيسا حفرة سوداء لا قرار لها. فارتجفت دونَ إرادة منها.
ربّما… كنتُ أقلّل كثيرًا ممّا يريده هذا الرجل منّي. ربّما كنتُ مخطئة تمامًا.
“لم يكن تهديدي بأن أدمّركِ…مجرّد كلمات.”
“…….”
رمش يورغن ببطء.
لقد تلاشت ملامح مشاعره الأصلية منذ زمن.
لم تتبقَّ فيه سوى رغبة التملّك…… و الرغبة في التدمير.
غريزة الحياة و الموت تحملان وجهين، وكذلك الحبّ و الكراهية… أو الحبّ و رغبة التحطيم.
شيءٌ لا يُحتمل… شيءٌ لا يُحتمل لدرجة الرغبة في تحطيمه.
قبض يورغن على عنًق فانيسا.
“كنتُ أتساءل لمئات المرّات كلّ يوم و أنا أنظر إليكِ.”
“….”
“هل أقتلكِ؟ لكن قتلكِ بسهولة ليس انتقامًا. أم أحطّمـكِ؟ لكن كيف يمكنني تحطيمكِ لدرجة تجعل نهايتكِ أكثر بؤسًا؟ أم ربّما أتخلّى عن التفكير و أكسر عنقـكِ الآن فورًا؟”
ارتجف جسدها كلّـه مثل ورقة ترتعد في مهبّ الريح. كلّ شجاعتها تبخّرت أمام جنونه الصريح.
فمن البداية….
هـذا الرجل لم يكن شخصًا يمكن التفاهم معه.
سواء تذكّرتُ أم لم أتذكّر، و سواء كانت الحقيقة أو لا…لم يكن يهمّـه.
لقد كان حقًّا……مجنونًا تمامًا.
“…فلتتمنّـي إذن لجنوني يا فانيسا.”
“….”
“فحياتـكِ أو موتـكِ…… سيقرّره جنوني المتقلّب.”
و بينما كان يقبض على عنقها، اقترب منها و قبّلها.
كما لو أنّه يريد مضغ عظامها.
ارتجفت فانيسا، و أمسكت بثياب صدره.
عيناه الذهبيّتان كانتا تلمعان.
و تلك الحرارة المشتعلة في عينيه كانت تخبرها بأمرٍ واحد: أن اللّحظة التي سيبتلعها فيها هذا الرجل بلا أثـر…لم تعـد بعيدة.
التعليقات لهذا الفصل " 32"