فكَّرتُ مليًّا، لكن لم يخطر ببالي شيء على الإطلاق.
لم تكن هناك سوى ذكريات ضبابيّة كأنّ غمامًا يحجبها، و كأنّ شيئًا ما كان يسـد الطريق إليها.
ومع شعور مضطرب وهي تتجوّل داخل العلية ، لم تجـد فانيسا أيّ خيط يدلّها على شيء، فلم يكن أمامها سوى مغادرة المكان.
و عندما بدأت تنزل السّلم الخطير مجدّدًا بحذرٍ شديد، شعرت كأنّه بـات يصرّ و يصدر صوتا أكثر من ذي قبل.
و ليته كان مجرّد وهم… لكنّ التجربة علّمتها أنّ مثل هذه الظروف غالبًا ما تنتهي بحادث.
فقد كان أسوأ رقم يظهر كلّما رمـت فانيسا النّرد، هذا هو سوء حظّها الأبدي.
كواجك―
“آه…!”
و كما كان متوقّعًا، تحطّم اللوح الخشبيّ الذي صدر منه ذلكَ الصوت حينما وقـعَ عليه وزنها.
ارتبكت فانيسا و أفلتت يدها من السّلم، و سقطت بسرعة نحو الأسفل.
‘اللعنة، كنتُ أعلم أنّ هذا سيحدث. لا شيء يمرّ بسلاسة أبدًا.’
و لم يدم الوقت المخصّص لشتم سوء حظّها طويلًا.
فقبل أن ترتطم بالأرض و تشعر بالصّدمة القادمة، أغمضت عينيها بقوّة— لكنّ إحساسًا مختلفًا تمامًا لامس ظهرها.
“…؟”
تجمّدت فانيسا لوهلة، ثم فتحت إحدى عينيها بتردّد.
رأت ذراعيّ أحدهم ملتفّتين حول خصرها.
ذراعيّ رجلٍ عريضتين، و يدًا كبيرة… ورائحة مألوفة.
لا يعقل.
قفز قلبها الذي كان يخفقُ أصلًا بجنون، ليزداد خفقانًا.
تمنت أن تكون مخطئة، لكنّها لم تخطئ يومًا في التعرّف على رائحته الباردة المميّزة.
استعادت أنفاسها المقطوعة لا إراديًّا، و التفتت إلى الخلف.
كما توقّعت—
كان يورغن يحدّق فيها بعينيه الذهبيّتين المُتلألئتين.
“……”
يا للإحراج…
شعرت فانيسا بالإهانة لأنّه أنقذها.
لا تدري لماذا يحدث هذا دائمًا.
هذا الرجل المتعجرف الّذي يقمعها… دائمًا ما ينتهي بها الأمر مدينةً له بحياتها!
“أنـتِ تعرفين أنّ حظـكِ سيّئ، ومع ذلك تتسلّقين إلى أماكن كهذه.”
قال يورغن بسخرية معتادة و هو يساعدها على الوقوف.
أحسّت فانيسا بالغضب من طريقته المزعجة التي يتقن بها استفزاز الناس، لكنّ شعورًا غريبًا بالديجافو خالجها أيضًا.
كأنّ شيئًا مماثلًا قد حدث من قبل…
كأنّ أحدًا قد أمسكها حين سقطت عن سلّم ما في الماضي—
‘….؟’
لكنّ هذا الإحساس لم يكن سوى ومضة لا توصف بالكلام، و لم تستطع معرفة ماهيته.
و حين أدركت أنّ يـد يورغن ما تزال ممسكةً بها، تخلّصت من ذلك الإحساس و أبعدت يـده بخشونة.
ثمّ سألته بصوتٍ لاذع:
“ما الّذي جاء بدوقٍ مشغولٍ مثلكَ إلى هنا؟”
على الرّغمِ من برودتها، لم يُظهر يورغن أيّ غضب. بل نظرَ إليها من الأعلى بوجهٍ لا يظهر أيّ تعبير، كعادته.
“كنتُ فضوليًّا.”
“تجاه ماذا؟”
سألته فانيسا، فأجاب بابتسامة ذات مغزى:
“ما الذي ستتذكّرينه في هذا القصر.”
― و في تلكَ اللّحظة ، خطَر احتمال ما في ذهن فانيسا كالصّاعقة.
لا، لكن… من الصعب التصديق.
و إن كان ذلكَ صحيحًا، فلماذا لا تملك أيّ ذكرى؟
رفعت رأسها لتنظر إلى يورغن مباشرة.
عيناه الذهبيّتان لم تعكسا أيّومشاعر، بل كانتا هادئتين تمامًا.
لكنّ فانيسا، من التجارب القليلة السابقة، علمت أنّ خلف هذا الهدوء تختبئ عاصفة.
سألت بصوتٍ خرجَ منها شبه لا إراديّ:
“دوق، هل التقينا من قبل؟”
ازداد عمق ابتسامته الساخرة. ابتسامة تبدو و كأنّها تلومها قائلة : ‘كنتُ أعلم أنّـكِ ستقولين ذلك.’
“فكّري جيّدًا. فحتى لو تذكّرتِ… لن يتغيّر شيء.”
كلمات باردة، كأنّه يرسم خطًّا يمنع أيَّ أمل.
تلعثمت فانيسا قليلًا، ثمّ سألت بصوتٍ مشتّت:
“…هل أنـتَ ذلك الطفل الّذي كان يعيش معي في هذا القصر؟ حقًّا…؟”
علامتان لطول القامة و كأنّها رسمت سابقًا.
و هذا القصر ملك للعائلة الملكية من روينغرين، ولا يوجد أيّ زائرٍ يقيم فيه.
إحدى العلامتين لا شكّ أنّها تخصّها. أمّا الأخرى…
“أجبني. لماذا بدأتَ تكرهني أصلًا؟ و إن كنتَ حقًّا ذلك الطفل، فلماذا أنا….”
لا أتذكّر شيئًا؟
أليس هذا غريبًا؟ كأنّ أحدًا محـا ذكرياتي عمدًا—
“آه…!”
فجأة، اجتاح رأسها صداع كاد يشقّ جمجمتها.
وضعت يديها على رأسها و تمايلت قبل أن تسقط أرضًا.
لم تعـش يومًا صداعًا كهذا— كان كالعاصفة تنهال عليها بلا رحمة، فلم تستطع التماسَك.
“آه… آآخ…! آااه!”
“…نيسا.”
سمعت صوتًا يناديها من بعيد كصدى.
تراقص بصرها كضوء شمعةٍ مضطرب، و في شقوق وعيها المكسور تسرّبت ذاكرة صغيرة:
[ …دي]
[.…رودي]
[قلتَ إنّـه ليس لديكَ اسم، فابتكرتُ واحـدًا من أجلكَ! هذا اسمـكَ! أحمر كعينيك الجميلتين— ما رأيـكَ بـه؟ هل أعجبـكَ؟]
[…إنّـه مقرف.]
[ماذاا؟!]
“…نيسا! فانيسا!”
اختلط الماضي بالحاضر.
ذلكَ الصوت اليائس لم يشبه الصوت الذي في ذاكرتها تمامًا، لكنّه كان ‘هـو’.
و بينما كانت رؤيتها تتلاشى، ظهر صبيٌّ ذو عينين حمراوين بملامحٍ قلقـة.
تمتمت فانيسا باسمه بلا وعي:
“رودي…”
ثمّ— ابتلعها ظلام.
و غاص وعيها إلى القاع.
*****
مرةً أخرى، رأت ذلكَ الحلم.
الصبي ذو العينين الحمراوين.
و ذلك الوعـد بأنّها لن تتخلّى عنه أبدًا.
لكنّ أمرًا واحدًا اختلف هذه المرّة: لقد عرفت الآن اسمه.
‘رودي.’
و بينما كانت تلفظ في داخلها هذا الاسم و الذي يعني”الأحمر”، استيقظت فانيسا من الحلم.
“…..”
دخل السقف المألوف في مجال رؤيتها.
هذا طبيعيّ، فهي تقيم هنا منذُ أيّام.
قصر الدّوق دريك في العاصمة.
“آه…”
كان رأسها لا يزال ينبض قليلًا.
اعتدلت جالسة بوجهٍ متجهم.
كم مر من الوقت و هي نائمة؟ و مَـنْ الّذي نقلها إلى هنا؟
لعلّه يورغن… أو غارسيا.
‘هل سقطت بسببِ صداع…؟’
لقد مرّت بسوء حظّ لا يُصدّق طوال حياتها، لكن لم تعش تجربة كهذه من قبل.
صداع مروّع لدرجة أنّ مجرّد تذكره يُرعبها.
‘هل هناك مشكلة في رأسي…؟’
أطلقت تنهيدة خفيفة و وضعت يدها فوق قلبها و تلت التعويذة المقدّسة.
و فورًا امتلأ جسدها بطاقة لم تشعر بها من قبل، و زال ما تبقّى من الصداع.
كانت مذهولة حين تلقت البركة سابقًا، أمّا الآن وقد شعرت بنفعها، أحسّت بقيمتها حقا.
‘…آه، أنا أشعر بالعطش.’
و بعد أن تخلّصت من الصداع و الإرهاق، هاجمها شعور بالعطش بشدّة.
وقفت من السرير لتبحث عن الماء على الطاولة الصغيرة… فظهر فجأةً في بصرها ظلٌّ أسود ككائن الموت.
شهقت فانيسا و كادت تُسقط الطاولة.
وبعد أن دقّقت النظر، اتّضح أنّ ذاك الشّخص المخيف هو يورغن نفسه.
و كان على غير عادته أكثر صرامة— بل و بعينين غائرتين كمَـنْ لم ينم طوال الليل.
‘ما هذا…؟ أليست هذا غرفتي؟ لماذا هذا الرجل هنا؟’
ارتجف قلبها خوفًا.
شربت كوب ماء لتستعيد هدوءها، ثم رمقت يورغن بنظرةٍ حذرة.
كان يجلس بلا حراك، لا يتكلّم، فقط يحدّق فيها بثبات.
قسوته تلكَ جعلت فانيسا ترتبك قليلًا… ثم كالعادة، انفجر فيها الغضب و التحدّي، فاعتدلت في وقفتها و رفعت ذقنها.
ثمّ شبكت ذراعيها وتقدّمت نحوه تحدّق فيه بالمثل.
سعلت فانيسا بصوتٍ مسموع متعمّد، ثم قالت:
“دوق، هذه غرفتي. منذُ متى وأنتَ جالس هكذا؟”
“….”
و عندما أمعنت النظر فيه، بدا كما كان تمامًا قبل أن تفقد وعيها—
الملابس نفسها، الشعر نفسه المنفوش قليلًا… كان يبدو كما لو انه أمضى الليل قلقًا عليها.
مستحيل.
هل ليمكن لهذا الرجل أن يقلق عليها أصلا؟
نكتة ستجعل الكلاب المارّة حتى تسخر منها…
“…رودي…”
تمتم يورغن فجأة و هو يطأطئ رأسه.
فتّحت فانيسا عينيها و قد تذكّرت شيئًا كانت قد نسيته.
واصل يورغن بصوتٍ منخفض:
“…هل تذكّرتِ؟”
“آه…؟”
عندما رفعَ رأسه ، رأت عينيه الذهبيّتين عبر خصلات شعره الأسود، و كانتا تلمعان بحزنٍ خافت… كحيوانٍ جريح و مهجور.
التعليقات لهذا الفصل " 31"