“انتظروا هنا.”
عند وصولها إلى الفيلا، التفتت فانيسا إلى غارسيا و رينيه اللذين كانا يتبعانها و أصدرت أمرها.
رمشت رينيه بعينيها بدهشة، بينما عبس غارسيا بتجهّم
كانت رينيه أول من تحدث:
“لكن، سمو الأميرة… بعد قضية أرنو تيريفرون بوقت قصير… من الخطر أن تكوني بمفردكٌ.”
“لستُ ذاهبة إلى مكان آخر، سأتجول داخل الفيلا فقط. لن يحدث شيء. وحتى إذا حدث شيء…”
لوحت فانيسا بسوارها الموضوع على معصمها الأيسر بنظرة متعمدة، مع ابتسامة عصبية قليلاً.
“موقعي يتتبعه الدوق في الوقت الفعلي، لذا لا داعي للقلق، أليس كذلك؟”
انخفض رأس رينيه كما لو كانت تشعر بالذنب بسبب نبرة فانيسا الحادة، بينما نقرَ غارسيا بلسانه بخفة.
بعد أن تركت فانيسا الاثنين و دخلت الفيلا، تنهد غارسيا بتعب و تمتم كما لو كان يتحدث لنفسه:
“مهما فكرتُ في الأمر، هذا مبالغ فيه. وضع أغلال كهذه! دوقنا حقًا رجل مجنون.”
لا أحد يمكن أن يشعر بالرضا و هو يرتدي شيئًا كهذا. أومأت رينيه بصمت موافقة، وهي تلعق شفتيها الجافتين.
لسبب ما، شعرت أن علاقة الاثنين بدأت تتعقد حتى قبل بدء التحضيرات الرسمية للزواج.
* * *
حدّقَ يورغن بهدوء في النقطة الحمراء الوامضة على الخريطة. كانت الخريطة، المتصلة بالسوار الذي وضعه على فانيسا، تُظهر موقعها في الوقت الفعلي.
كان السوار و الخريطة زوجًا من الأدوات السحرية، صُنعت أصلاً لمنع هروب المجرمين الخطرين.
كانت فانيسا منزعجة جدًا من فكرة وضع شيء يشبه الأغلال عليها.
لم يكن ذلكَ مفاجئًا. فهـمَ يورغن مشاعرها. ومع ذلك، أصـرّ على وضع السوار الثقيل على معصمها النحيل.
[“هل تجرؤ على وضع هذا عليّ؟ انتظر فقط، يورغن دريك. سأضع يومًا طوقًا حول عنقـكَ بيدي.”]
تذكّـر فانيسا وهي تقف على أطراف أصابعها، بينما تمسك بياقته و تزمجر، فانفلتت منه ضحكة خافتة.
مقاومة تافهة و سخيفة كهذه… لا فائدة منها على الإطلاق.
“لم تتغيّري، لا في الماضي و لا الآن.”
في تلكَ الأيام البعيدة، كنتُ أستند على جرأتـكِ و أعتمد عليها. كانت قوة لم أمتلكها آنذاك.
“لكن ذاتي التي من تلك الأيام قد ماتت.”
ذلكَ الفتى الضعيف الذي لم يجـد سببًا للحياة، الذي اعتبر فتاة ظهرت كالنور مخلّصة له، و الذي توسّل كالكلب ألا تتخلى عنه… لقد ماتَ ذلكَ الأحمق الضعيف.
خانتـه مَـنْ اعتقد أنها مخلّصته، وسقطَ إلى قاع الجحيم، و تسلّقَ طريقه إلى هنا بدافع الانتقام وحده.
إكمال الانتقام يكمن في تعاستها.
أن يمسكَ بها بيـده و يحطّمها…
نعم، هذا فقط.
لا يوجد سبب آخر، و لا يجب أن يكون هناك.
تجعّـدت حافّة الخريطة الموضوعة على المكتب تحت قبضته. كانت النقطة الحمراء التي تومض بانتظام الآن، ثابتة في مكانها.
استطاع يورغن أن يتخيل تلكَ المسافة بوضوح، الفيلا الصغيرة الواقعة هناك.
ابتسامة مشمسة، خدود وردية، شعر يتطاير كخيوط الذهب، يد تمسك به، وضحكة نقية كالخرز…
تلك الأوقات التي لا يريد تسميتها ذكريات، الأوقات التي خُدع فيها.
* * *
لم تختلف الفيلا كثيرًا عن المناظر في ذاكرتها… ربّما.
السّبب في قول “ربّما” هو أن ذكرياتها عن الإقامة في هذه الفيلا عندما كانت في الحادية عشرة كانت ضبابية.
مهما حاولت التذكر، كان عقلها مغطى بضباب، ولم تستطع سوى تذكّر ذكريات متقطعة.
فقط أنها جاءت إلى العاصمة خلال رحلة مع والدها، و أقامت في هذه الفيلا.
و تذكّرت أنها التقت الإمبراطور، لكن لم تكن هناك ذكريات بارزة.
فقط قدّمت التحية، و سمعت كلمات مثل، “إذن، أنـتِ كنز ملك لوينغرين.”
هل ربّـت الإمبراطور على رأسها؟ يبدو أن هذا حدث.
“بدأ سوء حظي منذُ كنتُ في الثانية عشرة… إذا استطعتُ تذكر ما حدثَ خلال السنة التي أقمتُ فيها هنا، ربّما أجد دليلًا عن سوء حظي.”
لكن هكذا، لن تحصل على شيء سوى جولة في الفيلا. لم تأتِ إلى هنا لتمضية وقت بلا معنى…
“لكن… إن التّواجد بمفردي في مكان هادئ بدون أعين تراقبني أو أي ضجيج يجعلني أشعر بالراحة.”
مـدّت فانيسا ذراعيها و أغلقت عينيها، مستمتعة بالسّلام النادر. لكن وجه يورغن ظهر فجأة في ذهنها، ففتحت عينيها بسرعة و عبست بحدّة.
“الآن عند التّفكير في الأمر… قالوا إن هذه الفيلا ملك ذلكَ الرّجل الآن.”
لا تعرف كيف انتقلت ملكية هذه الفيلا، التي كان يجب أن تكون لعائلة لوينغرين الملكية، إلى يدي دوق دريك.
ربّما بعد وفاة والدها، باعهـا ديكلان بلا مبالاة، معتبرًا أن فيلا متواضعة كهذه لا قيمة لها.
“ذلكَ الرجل قادر على فعل ذلك. مَـنْ باع أخته لن يهتمّ بإرث والده.”
أن تنتقل هذه الفيلا، التي تحمل ذكريات والدها، إلى يدي يورغن… لا تعرف إن كان ذلك سوء حظ أم حظ.
فكّرت فانيسا بحزن و توجّهت إلى العلية في الطابق الرابع. تذكرت فجأةً أنها كانت تزور تلك العلية كثيرًا.
بعد لحظات، وصلت إلى مدخل العلية، الذي كان يتطلب تسلق سلم.
بدا خطيرًا للغاية.
ربّما كان مناسبًا لطفل خفيف الوزن، لكن… أمسكت فانيسا بدعامتي السلم بكلتا يديها و رفعت قدمًا واحدة لتجربة.
فجأة، صدر صوت “صرير”، و اهتز السلم بشكلٍ غير مستقر.
…كما توقعت، لا يبدو أن هذا سينجح. السّلم قديم جدًا. ربّما لو حصلت على سلّم جديد…
“لكن… أنا حقًّـا فضولية.”
ما الذي في تلكَ العلية؟ إذا دخلتُ، هل سأتذكّر المزيد من الذكريات… ذكريات مع والدي؟
[“فانيسا، كنزي الثمين.”]
فكّرت في والدها، و امتلأ قلبها بالعاطفة، فأمسكت بالسّلم دونَ وعي.
رفعت قدمها دونَ تفكير، لكنها توقّفت و تجمّدت عندما صدر صوت “صرير”.
“…..”
نظرت إلى قدميها للحظة، و عضّـت شفتيها وهي تفكر، ثم عزمت أمرها، و أمسكت السلم بقوة بكلتا يديها.
بدأت تتسلّق ببطء و حذر. حتى لو انكسر السلم و سقطت، لن تتأذى كثيرًا. ربّما تكسر عظمة في ذراعها أو ساقها أو ضلع…
آه، أنا دائمًا سيئة الحظ. كيف نسيتُ؟ لا يمكنني مقارنة حظي بحظّ الشخص العادي.
“لكن… لقد تأخرتُ للتراجع الآن.”
لقد تسلقت نصف الطريق بالفعل. التراجع الآن سيجعلني أبدو سخيفة. دعني أكون أكثر شجاعة و أصل إلى الهدف.
شعرت فانيسا بالعرق البارد يتدفق على بشرتها وهي تتسلق بحذر.
بعد تسلق بطيء كالسلحفاة لبعض الوقت، رأت النهاية أخيرًا.
وصلت فانيسا إلى الهدف، و هلّلت داخليًا وهي تدخل العلية بسرعة.
في نفس اللحظة، استسلمت ركبتاها، و جلست على الأرض، ثم استلقت و مـدّت ذراعيها و ساقيها و ضحكت بصوت عالٍ.
ما الذي جعلها جادّة جدًا لتصل إلى هنا؟
تنهّدت بعمق، و قامت من مكانها، و نظرت حول العلية.
لم يكن هناك شيء مميز. أريكة مغطاة بالغبار عند النافذة، طاولة، رف كتب صغير مع بعض الكتب، سلة نزهة فارغة، صندوق يحتوي على دمية، و بطانية صفراء…
كانت صورة عادية جدًا، مما جعلها تشعر بخيبة أمل.
لم تتذكر شيئًا…
ضحكت فانيسا بحسرة، و هزت رأسها، وقامت و نفضت الغبار عن ملابسها. بينما كانت تمشي ببطء في الغرفة الضيقة، لاحظت علامات على أحد الجدران تشبه مقياسًا.
اقتربت فانيسا بهدوء و فحصت العلامات بعناية.
عندما لمستها بيدها، تلطخت يدها قليلاً بالفحم الأسود.
“هل هذه… علامات قياس الطول؟”
علامات تبدو و كأن طفلًا في مرحلة النمو قاس طوله بها من وقتٍ لآخر.
لم تتذكر شيئًا، لكن شعرت بنوع من الحنين. و أكثر من ذلك…
“العلامات… ليست لطفلٍ واحد.”
كانت هناك علامات لطفلين على الحائط.
بجانب علامات نموّ طفل واحد… كانت هناك علامات لطفلٍ آخر.
كان هذا الطفل الثاني أقصر قليلاً في البداية، لكنه نمـا بسرعة، حيث كانت العلامة الأخيرة أطول بستة سنتيمترات من الطفل الآخر.
نظرت فانيسا إلى العلامات بشعور غريب.
واحدة من هذه العلامات بالتأكيد تخصّني… لكن من تركَ الأخرى؟ هل كان لدي صديق في نفس العمر في العاصمة عندما كنتُ في الحادية عشرة؟
التعليقات