في النهاية، كان وقت عودة سيرينييل إلى القصر أبعد بكثير مما توقّعته.
“…….”
حين دخلت إلى داخل القصر، كان الإرهاق مرسوماً بوضوح على وجهها.
توقّف المطر، لكن فستانها وشعرها ما زالا مبتلّين تماماً، وجسدها بدا ثقيلاً كما لو أنه قطن مشبع بالماء.
وربما كان ذلك أمراً طبيعياً. ففي هذا اليوم القصير فقط، تحطّمت آمال سيرينييل تماماً وتحوّلت إلى شظايا.
شفاهها المضمومة بإحكام فقدت لونها، وما لبثت أن ترنّحت قليلاً قبل أن ترفع أصابعها لتضغط بشدّة على صدغيها محاولةً تجنّب صداعٍ لا يعرف التعب.
… هل عاد كاليان؟
صحيح أنّ المسافة بين الفيلا ومنزل البارون كانت بعيدة بعض الشيء، لكنها ليست بعيدة جداً إذا استُخدمت عربة.
وفوق ذلك، قبل أن تصعد لعربة ليكسيون، تجنّبت الطريق الأقصر المؤدي إلى منزل البارون خوفاً من أي طارئ، وسلكت طريقاً أطول وظلّت تمشي وحدها بلا هدف. وذلك لم يكن وقتاً قصيراً.
إذن من الممكن حقاً أن يكون كاليان قد سبقها وعاد إلى القصر قبلها.
لكن هل أستطيع الآن أن أواجه وجه كاليان وكأن شيئاً لم يكن؟
وفي تلك اللحظة بالتحديد—
“سيدتي…!”
جاءها صوت مألوف من بعيد في الرواق، ومعه ظهر ظلّ تعرفه جيداً. كانت “كينا”.
“لماذا تأخرتِ هكذا؟ هل تعلمين كم كنت قلقة عليكِ؟”
وجه كينا الملتصق بها بدا في حالة مزرية من القلق. وبالطبع كان قلقها مبرّراً تماماً؛ فعودتها تأخرت، والمطر انهمر بغزارة، والسائس عاد وحده من دونها.
“يا إلهي، لقد ابتللتِ بالكامل…”
“آسفة يا كينا.”
قالت سيرينييل وهي تزفر تنهيدة ثقيلة ممزوجة باعتذار.
“ما الذي حدث لكِ؟”
عند سؤال كينا، أغلقت سيرينييل فمها لبرهة وحدّقت فيها.
كينا… تلك التي اعتنت بها منذ كانت في بيت الكونت. أقرب إلى العائلة من كونها مجرد خادمة.
وهي الوحيدة في هذا القصر التي يمكن الوثوق بها.
… ولكن حتى لكينا، لم تعرف من أين تبدأ، ولا كيف تشرح ما جرى.
“سأخبركِ لاحقاً… لاحقاً فقط. الآن أنا متعبة جداً. آسفة.”
وجه كينا ظلّ يحمل القلق، لكنها لم تُلح أكثر.
وبدل ذلك، قالت بتردّد واضح:
“من الأفضل أن تبدّلي ملابسكِ أولاً، ثم تتناولين طعامكِ.”
“لا رغبة لي. أخبري كاليان فقط أنني لست بخير.”
“آه، في الحقيقة…”
تردّدت كينا قليلاً، وحينها فقط خمّنت سيرينييل أنّ أمراً ما قد حدث.
“لقد جاءت الآنسة ليرايا.”
“…… ماذا؟”
“جاءت مع السيد البارون. قالت إنها تريد أن تتناول الطعام معاً…”
في تلك اللحظة تجمّد وجه سيرينييل ببرود شديد.
هكذا إذاً.
لقد عادا معاً.
إلى هذا البيت… معاً.
كان الأمر يثير السخرية.
في أوقات سابقة ربما كانت ستعتبر ذلك طبيعياً. فـ ليرايا كانت صديقتها العزيزة الوحيدة، أشبه بالعائلة، وكانت أيضاً قريبة من كاليان.
لكن الآن… لم يعد الأمر كذلك.
ماذا يا ترى كانت تفكر به ليرايا في غيابي عن هذا القصر؟
هل كانت تقول لنفسها: “قريباً سأكون أنا سيدة هذا البيت”؟
أو: “عيد ميلاد ذلك الطفل فيني القادم، لا بد أن نحتفل به هنا”؟
شعرت بالغثيان يصعد في حلقها.
“قلتُ لهما إنكِ ذهبتِ إلى بيت الكونت. أخبرتهما أن عمّك استدعاكِ.”
قالت كينا بصوت منخفض، وكأنها تقرأ حال سيدتها.
“لم أستطع أن أجد عذراً أفضل من ذلك…”
“لا بأس، أحسنتِ.”
فقد كان من المعتاد أن يستدعيها عمّها في بيت الكونت من حين لآخر، ليسأل عن أحوالها أو عن تقدّم أعمال كاليان. لذا لم يكن ذلك عذراً يثير الشكوك.
“هل أقول لهما إنكِ تريدين الراحة؟”
“لا.”
هزّت سيرينييل رأسها نافية.
ثم، بعينين باردتين كالثلج، حدّقت نحو نهاية الرواق وقالت:
“أحضري لي فستاناً جديداً، كينا.”
⚜ ⚜ ⚜
بينما كانت تمسح عنها آثار المطر وتبدّل ملابسها، لم يكن في ذهن سيرينييل سوى فكرة واحدة تتردّد بلا انقطاع.
كيف… كيف تنتقم؟
كينا أخبرتها أنها بعد خروجها ذهبت مباشرة إلى السوق، وانتظرت هناك وقتاً غير قصير حتى حصلت على رسالة تذكر مكوّنات ذلك الشاي الزهري.
قالت إنها وضعتها في درج مكتب المكتبة.
تذكّرت سيرينييل كلماتها وفكّرت: حتى لو كتب في الرسالة أنّ ذلك الشاي كان سماً، فلن تتمكن من استخدام ذلك كذريعة لتحريك كاليان ضدها. فهما في النهاية متواطئان، وربما ينقلب الأمر عليها.
للأسف، كاليان وإن لم يكن يملك الكثير، إلا أن ذكاءه وسرعة بديهته لا يُستهان بهما. وربما توقّع أن تكتشف سيرينييل الحقيقة، فربما أعدّ فخاً آخر في انتظارها.
… هل أجرب رفع دعوى؟
سواء وقف كاليان في صفها أم لا… في النهاية هي نبيلة، بينما ليرايا مجرد عامية. ولو عُرف أنّ عامية تجرأت على فعل كهذا بنبيلة، فلن تنجو من العقاب أبداً.
ما أضحك في الأمر أنّهما لطالما تبادلا الكلام قائلين: “نحن صديقتان حقيقيتان، لا شأن للمكانة بيننا.”
لكن حتى هذا لم يرضِها. ولا الآخر.
في النهاية، لم يكن أمامها إلا خيار واحد.
أن تفضي بكل ما حدث لعمّها فيليس، وتتشاور معه حول ما يجب فعله لاحقاً.
… كيف سيتلقّى عمّها هذه الأمور؟
لم يكن الأمر مجرّد خزي أن تكشف له هذه الفضائح، بل شعرت حتى بوخزٍ من الذنب.
تنفّست تنهيدة حزينة وهي تمشي.
ولم تمضِ لحظات حتى بلغتها أصوات ضحك قادمة من الأمام. أصوات حانية مفعمة بالود.
وبالطبع، كانت أصوات كاليان وليرايا.
“…….”
وحين ظهرت أمامهما، توقف الاثنان فجأة عن الضحك وكأنهما لم يكونا يتبادلان الحديث المليء بالمرح قبل لحظة.
“سيـري.”
لكن الصمت لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما فتحت ليرايا شفتيها وقالت:
“سمعت أنكِ ذهبتِ إلى بيت الكونت… لقد قلقت عليكِ. بدا وكأنكِ تأخرتِ أكثر مما توقعت.”
تحدثت إليها ليرايا بوجه لا يختلف عن عادتها أبداً—لطيف، ودود، دافئ.
لكن بالنسبة لسيرينييل التي عرفت كل شيء الآن، لم يعد يظهر لها إلا كقناع كريه مقزّز.
“هل وصلكِ شاي الأزهار الذي أرسلته لكِ؟”
“…….”
“لقد كتبتُ في الرسالة أيضاً، سيمنحكِ فائدة عظيمة! لذا لا تنسي أن تشربيه كل يوم بلا انقطاع.”
لم تجب سيرينييل بشيء. اكتفت بأن تحدّق في ليرايا بوجه بارد كالجليد.
“لماذا تبدين شاحبة هكذا؟ ألم يحدث لكِ شيء؟”
وقفت ليرايا من مقعدها ببطء وتقدّمت نحوها.
“هل أنتِ بخير حقاً؟ سيـري.”
أظهرت ملامحاً في غاية الأسى، ثم مدت يدها لتربّت على ظهرها بلطف وهي تقول:
“ألستِ مصابة بالزكام؟ عليكِ أن تستدعي الطبيب غداً فوراً. فأنتِ ضعيفة الجسد أصلاً، ماذا لو مرضتِ بشدّة كما في المرة السابقة؟”
من بين شفتي سيرينييل المنفرجتين قليلاً خرجت ضحكة قصيرة أقرب إلى السخرية.
“… هل جئتِ مع كاليان؟”
“هاه؟”
“كاليان قال إنه ذاهب لتفقّد المناجم.”
“آه، صادف أن التقينا في الطريق.”
أجابت ليرايا بابتسامة.
“فقلتُ لنفسـي لِمَ لا نتناول عشاءً نحن الثلاثة معاً؟ كما أنّني أردتُ أن أراكِ.”
“لماذا لا نجلس ونتحدث؟ يا سيـرينييل.”
قال كاليان بصوت دافئ، ونظرت ليرايا نحوها كأنها تحثّها على الموافقة.
اشتعل الغضب في صدرها، وشعرت بالاشمئزاز حتى ارتجف جسدها كله.
لكنها قاومت كل ذلك، وجلست ببطء من دون أن تُظهر شيئاً على ملامحها.
“لكن حقاً، لم تبدو ملامحكِ هكذا؟ هل هو بسبب زيارتكِ لبيت العائلة؟”
كان صحيحاً ما قاله كاليان، فسيـرينييل كانت تشعر بالكآبة أحياناً بعد عودتها من بيت أسرتها.
والسبب بسيط—لغياب والديها.
صحيح أنّ القصر لم يكن فارغاً، لكن مكانهما ظلّ شاغراً. أما الآن فقد أصبح عمها فيليس هو الكونت.
لكن، حتى قبل إقامة الشعائر، فقد كان هذا البيت هو المكان الذي عاشت فيه طوال حياتها… ولذا كان من المستحيل ألا تشعر بغياب والديها. وكان من المستحيل أيضاً ألا يشتاق لهما قلبها.
لو كان الأمر في السابق، لكانت قد تقبّلت قلقهما بصدق. بل ربما امتنّت لهما، قائلةً في داخلها: في النهاية، لا أحد يهتم بي سواهما…
نعم.
كم بدوتُ سهلةً بالنسبة لهما؟
كم بدوتُ ساذجة؟
هل لهذا السبب ارتكبا تلك الأفعال؟ بتلك البساطة، من دون أي تردّد؟
“سيرينييل…….”
صوت كاليان وهو ينطق باسمها كان مثقلاً بالقلق. لو رآه شخص لا يعرف شيئاً، لما تردّد لحظة في الاعتقاد أن مشاعره صادقة تماماً، بلا أي ذرة من الزيف.
حتى سيرينييل نفسها، للحظة، كادت تنخدع.
عينا كاليان الموجهتان نحوها كانتا دافئتين لدرجة أنهما أوحتا لها وكأنها عادت فجأة إلى الماضي، إلى أيام ما قبل أن تمرض، إلى زمن آخر أبسط وأكثر صفاء.
لكن…
[بيني، عليك أن تنتبه! إن سقطت، سيحزن والدك كثيراً.]
المشهد كان لا يزال حاضراً أمام ناظريها بوضوح. ذلك الطفل الذي يشبه كاليان وليرايا… والزوج الذي كان ينظر إليه بحنان بالغ وهو يحتضنه في ذراعيه.
“سيرينييل، قولي أي شيء، أياً كان… أجيبيني فقط…….”
“…… كاليان.”
قبل أن يُكمل كاليان كلامه، فتحت سيرينييل شفتيها سريعاً.
ثم، بوجه بارد كالجليد، نظرت إليه وسألته:
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 8"