“نلتقي مجددًا.”
عند سماع الصوت المألوف المفاجئ، التفتت سيرينييل ببطء خلفها.
“مرحبًا، سيرينييل.”
لم يخذلها حدسها أبدًا. حين التقت بعيني ليكسون الموجهتين نحوها بحدة، توقفت دون أن تشعر قليلًا في مكانها.
ما الذي يفعله هذا الرجل هنا؟
“لا أرى على وجهك ملامح الفرح برؤيتي.”
“…مرحبًا بكم يا دوق ليكسون. لم أتوقع أن ألتقي بكم في مكان كهذا.”
“أجل، في مكان كهذا.”
سرعان ما تحولت نظرات ليكسون نحو المتجر.
“هل تنوين شراء طقم أوانٍ جديد؟”
المكان الذي قصدته سيرينييل كان متجرًا مخصصًا ببيع التحف الراقية التي تليق بمنازل النبلاء.
ومن بين كل تلك المقتنيات الفاخرة، اشتهر المتجر بشكل خاص بأوانيه، كما ذكر ليكسون للتو.
لكن بالطبع، لم تكن مجرد أوانٍ عادية؛ بل كانت قطعًا نادرة، كخزفيات نفيسة عبرت البحار، أو مصنوعات مزخرفة بالذهب والأحجار الكريمة، أقرب إلى مظاهر الترف منها إلى الاستعمال اليومي.
“لكن حتى لو كانت تلك غايتك، لم يكن يلزمك القدوم بنفسك.”
لم يكن كلام ليكسون خاطئًا، غير أن سيرينييل لم يكن أمامها خيار آخر.
ففي القصر لم يكن هناك من يمكنها الاعتماد عليه سوى كينا، والجميع كانوا يعرفون أن كينا بمثابة يد سيرينييل اليمنى.
ولذلك، لو أوكلت إليها هذه المهمة، فمن المؤكد أن الخبر سينتشر، وعندها سيكون من الأفضل أن تأتي بنفسها وتقطع الطريق على أي تسريبات.
وفوق ذلك كله، فإن كينا لم تكن تعلم بعد ما الذي تحتاجه سيرينييل تحديدًا. ولو أرادت شرح الأمر لها، لكان عليها أن تكشف وضعها الحالي بالكامل.
“أم لعل هناك سببًا لا بدّ أن تجيئي من أجله بنفسك.”
تسلطت نظرات ليكسون الحادة عليها وكأنها تخترقها.
“على سبيل المثال… طلب خدمة لا يجوز أن يعرف بها الآخرون.”
“….”
“أو للتأكد من إغلاق الأفواه بإحكام. بل وربما كلا الأمرين معًا.”
“…لست أفهم قصدك، يا دوق.”
“سيدتي…”
تقدمت كينا، الواقفة خلف ليكسون، بنظرات مرتجفة نحو سيدتها.
حتى بالنسبة لها، لم يكن ليكسون روزنباستر شخصًا يسهل التعامل معه دون خوف.
“لا بأس يا كينا.”
طمأنتها سيرينييل بإيجاز، ثم عادت لتواجه ليكسون قائلة:
“لدي موعد مسبق مع صاحب هذا المتجر، لذا سأدخل الآن. وأتمنى أن تنجز أعمالك على خير، يا دوق.”
وبذلك أنهت حديثها وسارعت بخطواتها، قبل أن يطيل ليكسون روزنباستر الحديث معها أو يستدرجها لقول المزيد.
⚜ ⚜ ⚜
داخل المتجر، لم يكن هناك أحد سواه وصاحبه.
“مرحبًا بكم سيدتي. أنا بول.”
كان الرجل يدعى بول، بملامح ودودة ولطيفة. بعد أن قدم نفسه، ناولها كوب شاي دافئ ثم تابع:
“لقد أبعدت جميع الزبائن تحسبًا لقدومك.”
“شكرًا لك.”
“بلغني أنك تودين توكيل أمر ما إليّ، أليس كذلك؟”
“….”
“بما أنك تكبدت عناء الحضور شخصيًا، فلا بد أن الأمر بالغ الأهمية.”
كان واضحًا أن خبرته الطويلة مع النبلاء أكسبته قدرة على استشعار ما يدور.
“تفضلي واذكري حاجتك، ما الذي تطلبينه؟”
“استلم هذا أولًا.”
بدلًا من الإجابة، أخرجت سيرينييل كيسًا أعدته مسبقًا وسلمته إليه.
كان ممتلئًا بالعملات الذهبية.
“تعرف معنى هذا جيدًا، أليس كذلك؟”
“كثيرًا ما يقصدني أشخاص مثلك سيدتي.”
“ثم ماذا؟”
“…ثم أعلم جيدًا أن مثل هذا المبلغ قد يكون ثمن حياتي.”
ابتسمت سيرينييل بسخرية خفيفة.
“قد تظن أنني، بما أنني نشأت في بيت نبيل، بطيئة في فهم مثل هذه الأمور، لكنني لست بتلك البلاهة.”
“سيدتي…؟”
“ليس ثمن حياة، بل ثمن كتمان. فأنا لا أملك الوقاحة لأن أقيّم حياة إنسان بهذه البخسة من النقود.”
“….”
“يمكنك فتحه الآن إن شئت.”
ألقى بول عليها نظرة متفحصة، ثم فتح الكيس ببطء.
“سيدتي، هذا…”
شحُب وجهه على الفور. ولم يكن السبب مجهولًا؛ فالمبلغ كان ضخمًا للغاية لدرجة لا يُعقل اعتباره مجرد ثمن كتمان.
“لا أريد شيئًا سوى أن تثقل لسانك بهذا المقدار من الذهب الذي أعطيتك إياه.”
“….”
“وأؤكد لك أنك لن تتعرض لأي خطر. أصلًا، لم آتِ لأطلب منك أمرًا يضعك في خطر.”
“إذن تفضلي، سيدتي. ما الذي ترغبين به مني؟”
“أريدك أن تصنع لي أواني من الفضة.”
“فضة؟”
بدت على وجه بول علامات الاستغراب.
فالعادة أن النبلاء يفضلون الذهب أو الخزف، وبالأخص إن زُينت بالأحجار الكريمة.
“لكن أرجو أن لا يظهر عليها أنها من فضة. فبيت البارون يستعمل الخزف في الغالب. وبمهارتك، فلن يكون الأمر صعبًا، أليس كذلك؟”
“صحيح، ولكن…”
“سأدفع ثمن المواد والعمل منفصلًا. أكرر مجددًا، لن يكون هناك ما يعرضك للخطر.”
“حقًا ليس كلامًا خاطئًا.”
جاء صوت ليكسون مجددًا من الخلف.
منذ متى كان يستمع؟
تجمد وجه سيرينييل من الصدمة. غير أنها سرعان ما تذكرت أنها لم تفصح لبول عن شيء خاص، بل مجرد طلب.
“أقصى ما هنالك أنك تطلبين صنع أوانٍ من فضة. هل في ذلك خطر؟”
“يا دوق…”
حتى بول بدا عليه الارتباك وهو يحدق في ليكسون.
“ما لم تستخدميها لتحطيم رأس أحد وقتله، فلا خطر فيها. أليس كذلك، سيرينييل؟”
“…ألم تقل إنك أبعدت الجميع؟”
وجهت سيرينييل السؤال إلى بول، لكن ليكسون هو من أجاب:
“هناك أشخاص يمكن إبعادهم، وآخرون لا يمكن.”
“سيدتي، الحقيقة هي…”
“عائلة روزنباستر دعمت متاجر عدة لوقت طويل. معظم الناس لن يعرفوا مثل هذه التفاصيل كما أنتِ.”
دعم…
قطبت سيرينييل جبينها قليلًا.
لكنها لم تكن إلا ذريعة ظاهرية. فالحقيقة أن أفضل وسيلة لمتابعة ما يجري في الإمبراطورية هي مراقبة طلبات النبلاء المتبادلة وسمعتهم في الأسواق.
خصوصًا أن طلبًا استثنائيًا كهذا يعني بلا شك أن صاحبه يستعد لأمر خاص. ولإدراك مثل هذه التحركات مسبقًا، لا بد من كسب التجار بالمال.
“أعتذر يا سيدتي.”
انحنى بول معتذرًا.
“سأعرض عليك بعض أواني الفضة أولًا.”
“لا بأس، ولك…”
“لتكن أبسط ما لديك.”
قاطع ليكسون حديثها فجأة وهو ينظر إلى بول.
“حتى يسهل صنع كمية كبيرة منها في وقت قصير.”
“…كمية كبيرة؟”
ماذا يعني بهذا؟ تساءلت سيرينييل في حيرة وهي تحدق به.
“اذهب وأحضرها الآن.”
أومأ بول وابتعد عن المكان.
وبقي المتجر ساكنًا وقد حلّت بين ليكسون وسيرينييل لحظة صمت ثقيلة.
لماذا يفعل هذا؟ لماذا يتدخل مرارًا؟
كانت على وشك أن تعبر عن انزعاجها، لولا أن سبقه بالكلام.
“لن يفيدك الاستمرار في استعمال نوع محدد من الأواني إلى الأبد.”
“…ماذا قلت؟”
“خاصة إن كان من يشاركك المنزل هو المعني بالأمر.”
“….”
“إذن الأفضل أن تبدليها جميعًا. فلن يكون هناك مجال للشك عندئذٍ.”
كان محقًا، أجل. ومع ذلك، لم تستطع سيرينييل استيعاب دوافعه. لم تفهم ما يدور في ذهنه، لا قليلًا ولا كثيرًا.
“لكن ما يثير فضولي…”
“….”
“…من هو ذاك الذي يحاول دسّ السم لك.”
في تلك اللحظة، اضطربت عينا سيرينييل بقوة. لكن ليكسون لم يكن ينوي التوقف عن الكلام.
“الأواني الفضية مثالية لكشف السموم. بسرعة، وبموثوقية عالية كذلك.”
إذا لامس السم الفضة، فإن الفضة تسودّ وتتحول إلى اللون الأسود.
صحيح أن الفضة لا يمكنها كشف كل سم موجود في هذا العالم، لكنها قادرة على كشف معظم السموم المتداولة في الأسواق. وكذلك السم الذي وُجد في شاي الأزهار الذي أُرسل إليّ.
ذلك كان ما كُتب في الرسالة التي وصلَت إلى سيرينييل ليلة أمس.
“شخص تضطرين لمشاركته الطعام إلى حد يستدعي استبدال الأواني نفسها… لا يخطر بالبال سوى اسم واحد.”
“….”
“كالِيان هيلكار.”
تلألأت عينا ليكسون السوداوان بحدة، وبلمح البصر أدركت سيرينييل الحقيقة.
مهما تذرعت بالأعذار أو اختلقت الأكاذيب، فلن تتمكن من خداع هذا الرجل الواقف أمامها.
“…قلتَ إننا التقينا في حفلة من قبل، أنا وأنت يا دوق. قبل نصف عام.”
[ليست هذه أول مرة نلتقي.]
تذكرت سيرينييل الكلمات التي قالها ليكسون لها داخل العربة في ذلك اليوم الماطر، ثم حركت شفتيها ببطء:
“…وماذا بعد؟”
“أتذكر.”
[سيرينييل بيرديليت.]
“أتذكر ما الذي سألتموني إياه يومها.”
[هل أنتِ سعيدة؟]
“وأتذكر أيضًا ما الذي أجبتك به.”
[نعم، أنا سعيدة.]
“وكذلك… ما كانت آخر كلماتك قبل أن تغادر.”
ارتسمت على وجه ليكسون ملامح غامضة، وكأن هذا الكلام لم يكن يتوقعه مطلقًا.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 10"