هبوط هالته في مكان ما سحق جنون الفيالق، وحضوره وحده نُقش على امتداد السهل.
“كا، كا…”
تمتم أحدهم بذهول، وكأنه لا يصدق.
لكن كلماته لم تكتمل.
سآاا―
في غفلة من الجميع، تدفقت المانا الحمراء لتملأ الفضاء.
وما إن بدأت تتجسد حتى غمرت سكوناً مميتاً.
تشااااك!
توقف الجنود في أماكنهم دون أن يدركوا ما أصابهم، ثم تحوّلوا إلى أشلاء ممزقة.
اندفعت الدماء واللحم في الهواء، وما إن تساقطت حتى استوعب الجيشان ما حدث للتو.
“آآآآااااك!!!”
انقلب جنود الإمبراطورية على أعقابهم.
فصرخ القادة بغضب يائس:
“قاتلوا! قلتُ قاتلوا! إنه مجرد واحد إضافي فحسب!!!”
لكن ذلك كان كلاماً سهلاً يطلقونه من بعيد.
أما الجنود، فقد لمسوا في أعماق الغريزة ما لم يعرفه قادتهم:
ذلك الخوف ذاته الذي يتملّك الفريسة حين تلتقي عينيها بعين المفترس.
تفوق ساحق، واضح جداً، محا من رؤوسهم أي خيار غير الفرار.
غريزة البقاء تعمل في أخطر لحظات الحياة.
وغالباً ما تُقدّم خياراً يبدو في آنٍ معاً حكيماً وغبياً.
“اهربوا!!!”
صرخ الجنود وهم ينهارون في فوضى، ينسحبون كيفما اتفق.
وفي غمرة ذلك، تحرك كاشا.
كيييييينغ!
مع صوت يخترق طبلة الأذن، مزّق سيفه الفراغ.
فاندفعت المانا المتجسدة لتقطع أوصال كل من كان على مسار الضربة.
ارتفع جنون الهرب.
وكأنهم خيول تفر من الأسد، لم يتجهوا في خط واحد، بل تشتتوا في كل صوب.
“السحرة!!!”
بمجرد صرخة القائد، مئات من السحرة شرعوا في تلاوة تعاويذهم.
لم تكن تعاويذ مركبة.
إذ تبيّن أن إيقاف كاشا بسحر الانهيار واسع النطاق أمر مستحيل.
فخيارهم كان إغراق السماء بوابل من المقذوفات السحرية.
كوااااااغ!
انهمر السحر مطراً.
لكنه لم يوقف كاشا.
“أطلقوا! أطلقوا أكثر!!!”
من بين كل ما صوب نحوه، نصفه فشل في استهدافه أصلاً، ونصف ما تبقى اصطدم ببعضه وسقط، وما بلغ محيطه ابتلعه حقل المانا المحيط به.
وما وصل إلى جسده لم يكن سوى ربع ذلك كله، ومع أنه اخترق الهواء بعنف، إلا أنه حين لامس جلده خمد في فراغٍ محبط، وتبعثر.
“لا، لا يصل شيء! تركيز المانا كثيف جداً!”
فالمانا المتكدسة حوله كانت تفتت أو تبتلع أي مانا خارجي.
لذلك كان من الطبيعي أن تفشل مقذوفات صنعها السحرة بقدراتهم الفردية في مقاومة بحر المانا الهائل المتجمع في جسده الصغير.
“الرامة! أطلقوا النار!”
وبأمر القادة، أطلقت وحدات البنادق دفعة كاملة من الرصاص.
حينها فقط لوّح كاشا بسيفه.
“آآآاااااك!!!”
جرف السيف الفضاء بعرضه، فانطفأ اندفاع الرصاص وتناثر في الهواء.
ولسوء حظ جنود الإمبراطورية، ارتدّت الشظايا لتصيبهم هم أنفسهم بالموت.
تكرّر ذلك بلا توقف.
كاشا كان الذئب وسط قطيع من الغنم.
يشق صفوف العدو بجرأة، لا يخشى شيئاً، ويُظهر قوة لا يمكن ردعها، بينما بقيت ملامحه جامدة كآلة باردة.
حتى جيش الاتحاد تجمّد في مكانه.
رغم أنهم في صفه، إلا أن الخوف الذي اجتاح جيش الإمبراطورية غمرهم أيضاً.
إن تدخلوا فقد يلقون حتفهم بضربة عمياء من سيفه.
ذلك الخوف كبّل أقدامهم.
وكانت إيغريت بينهم.
لكنها وحدها لم ترتجف مثل سائر الجنود.
بل راودها خاطر وحيد:
‘…هل يمكن أن أصيبه ولو مرة؟’
لو كتب لها أن تواجهه ثانية، هل ستنجح على الأقل في ترك جرح في جسده؟
لم تدرك إيغريت أنها، دون وعي منها، كانت تتخيل هزيمتها مسبقاً.
—
هكذا انتهت أول معركة كبرى.
بظهور إيريك المفاجئ، انهارت صفوف الإمبراطورية.
الكثيرون ابتهجوا لأن الخط الأمامي تقدم خطوة واحدة،
لكن إيريك نفسه كان غارقاً في فكرة مغايرة.
‘أمر مقيت.’
لقد نجح في فتح عتبة جديدة، لكن الحالة التي صقلها بالحقد جعلت إحساسه بالقتل أوضح وأكثر قسوة.
فاليوم، عدد الذين قتلهم، وكيف انتزع أنفاسهم، انطبع على جسده بفظاعة لا تُمحى.
وكان لتلك الصدمة جانب يوشك أن يتحول إلى لذة.
إدرك إيريك بسهولة السبب الذي جعل سيّد السيف يصبح مجنوناً إلى ذلك الحد.
فلو كان أحدهم يلوّح بهذا السيف لعقود، فلا بدّ أن تنقلب مفاهيمه رأساً على عقب.
كان غارقاً في أفكاره حين…
“أيها السييييد!!!”
إدوارد اندفع نحوه بوجه مبلل بالدموع كالصبيان.
فجأة انعقد جبين إيريك باستياء.
وربما لاحظ إدوارد ذلك، إذ سرعان ما خفف من هرولته وصار أكثر تحفظاً.
“ظننت أنك لن تعود، لقد كدت أجن من القلق!”
“كان هناك ما يشغلني.”
“بلى، بلى! لكن… الآخرون، يا سيدي….”
“قال إنه سيأتي على مهل.”
ردّ إيريك باقتضاب، ثم مسح الدم العالق على نصل سيفه وأعاده إلى غمده.
“أريد أن أدخل وأرتاح. أرهقني القتال منذ وصولي.”
“لا بدّ من ذلك يا سيدي. آه، لكن….”
لم يشأ الاستماع إلى بقية كلامه، فاتجه بخطوات ثابتة نحو مقرّ القيادة.
ارتاع إدوارد ولحقه بخطى صغيرة وهو يلهث، لكن إيريك لم يكترث له.
كل ما كان يريده هو أن يخلد إلى النوم ليستعيد قواه.
فالجسد والنفس قد أُثقلا، وما عاد يجني من ذلك إلا ازدحام الهواجس في صدره.
“سيدي… أرجوك، اسمعني أولاً…”
“لاحقاً.”
سيّد السيف لا بدّ أنه ما زال جالساً على عرشه كما وعد.
وما دام الدخول إلى العاصمة لن يواجه صعوبة، فالأجدر بي أن أركّز على الحفاظ على حالتي.
بهذا التفكير الموجع في رأسه، وصل أخيراً إلى مقر القيادة بعد أن قطع ساحة المعركة.
“لقد أحسنت.”
كان صوت البيرت.
وما إن رفع إيريك رأسه حتى تجمّدت ملامحه.
شخص لا ينبغي أن يكون هنا، كان واقفاً إلى جوار البيرت.
“آسف لأن الأمور سارت هكذا. لم يكن بيدي حيلة.”
“يا سيدي، الأمر في الحقيقة هو…”
كان البيرت وإدوارد يتكلمان، غير أن آذان إيريك لم تلتقط سوى صورة واحدة.
…
شَعرٌ ذهبي يشبه سنابل الخريف، وزوايا عينين متدلّيتين لا يخفيهما تجعّد الغضب، وعينان بلون أوراق العشب.
وجه طالما رسمه في خياله مراراً دون أن يجرؤ على تصديقه.
“سيدي…”
في اللحظة التي انفرجت فيها شفتا تيريا، انقضّ إيريك ممسكاً بمعصمها.
وجرّها بعنف مبتعداً إلى جهة خالية من الناس.
“مهلاً…”
“اتبعيني.”
كان صوته مكبوتاً، أنفاسه مشدودة، ووجهه شاحباً يكاد يبيضّ من الغضب والانفعال.
—
تيريا كانت تتمايل خلفه مترنحة.
قبضته على معصمها كانت مؤلمة، وخطواته سريعة بالكاد استطاعت أن تواكبه، ومع ذلك لم تستطع أن تقول شيئاً.
فما تراه كان واقعاً صارخاً.
حرارة جسده تسري من خلال كفه الخشن المليء بالندوب.
الجرح تحت أذنه واضح أمام ناظريها.
والفارق الكبير في الطول يفرض عليها أن ترفع رأسها لترى ملامحه.
لقد التقته أخيراً.
بعد طول انتظار، عادت لتلتقي إيريك من جديد.
غمرها شعور بالفرح، لكن ما طغى عليه كان الحزن.
فهي كانت شاهدة قبل قليل على كيفية قتاله.
كان قتالُه شديد القسوة.
لم يمنح نفسه لحظة ليعتني بها.
لم يتردد في قطع خصومه.
وكان في ذلك بالغ الوحدة.
عشرة أعوامٍ مضت وهو يقاتل على هذا النحو.
أقسى من غيره، وحيداً، مستعداً في كل لحظة للموت.
حين استوعبت ذلك، انقطع نفسها وتشنج صدرها بالأسى.
عندها توقف إيريك فجأة.
كانا خلف إحدى الخيام، في مكان خالٍ من الناس.
التفت أخيراً إليها.
وتلاقت أعينهما.
كان وجه إيريك ملوثاً بالدماء.
عندها فقط هبّت رائحة الدم النفاذة.
بسبب تلك البقع، لم يتبين لها ملامح تعبيره جيداً.
هل هو وجه مدهوش؟ نعم، فلا بد أنه فوجئ.
إذ لم يكن ليتخيل أبداً أن تراها هنا.
عليّ أن أشرح…
لكن قبل أن تنطق، دوّى صوته:
“ما….”
“بأي عقل جئتِ إلى هنا؟!”
ارتجف جسد تيريا مع صرخته القوية.
“أجننتِ؟ أتعلمين أين نحن؟ نحن في قلب ساحة المعركة! هنا، مجرد غفلة لحظة واحدة كفيلة بأن يغرس سيف في عنقك! وأنت لستِ من الغافلين حتى تجهلين ذلك، فبأي تفكير دنستِ هذه الأرض بقدميك؟!”
انهمرت الكلمات كالسهام.
وبقيت تيريا مذهولة للحظة، بينما واصل هو:
“لم أعلم أنك متهورة إلى هذا الحد! لم أعلم أنك عاطفية هكذا أيضاً!”
عندها فقط بدأ عقلها يستوعب الموقف.
إنها تُوبَّخ.
بل إن ما يتلقاه قلبها لم يكن توبيخاً فحسب، بل عاطفة جارفة وصارخة.
“لقد قلت لك بوضوح! لا تبحثي عني! عيشي حياتك كما تشائين بعيداً عني!”
وأمام هذه المواجهة الصريحة، تلاشت كل أفكارها الأخرى.
يا للسخرية…
لقد انتظرت هذا اللقاء طويلاً، ولهفت إليه حد التلهف…
لكن أول ما أسمعه منه هو الزجر؟!
أول ما يسكب عليّ هو الغضب؟!
غصّت مرارة في صدرها.
“كان يكفي أن تفهمي كلامي! كان بوسعك أن تفهميه دون كل هذا!”
التعليقات لهذا الفصل " 90"