منذ اللحظة التي عاد فيها إيريك إلى ويبن، لم تفارق تيريا مشاعر القلق.
كانت تلك المشاعر تشتدّ كلما ارتسمت ابتسامة على وجهه، أو كلما رقّ صوته ولان.
‘إنه غالٍ جدًّا… لا أريد أن أفقده.’
‘إنه ثمين جدًّا… حتى إنني أشكّ أحيانًا أن ما أعيشه الآن حقيقة.’
ولأنها غاصت في تلك الأحاسيس، قررت التعجيل بمراسم التنصيب.
ظنّت أن ذلك سيكون سبيلًا لوضع كل شيء في نصابه الصحيح.
لكن يوم التنصيب، اكتشفت الحقيقة.
‘وجدتك.’
كان في زحام الساحة شيخ ضخم الجثة، هو ذاته الذي واجهته في جبال الشتاء حين كانت طفلة.
الرجل الذي يدعوه إيريك بـ “المعلم”، والذي تركها يومًا تصارع الإغماء ورحل.
لم تستطع أن تنساه.
فمجرد تذكّره كان يكفي ليستحضر معها شعورًا غامضًا من الخوف والنفور.
عيناه، يوم التقت بهما وهي تفقد وعيها، كانتا فارغتين تمامًا.
كان لديها يقين، أقرب إلى حدس لا يخيب، أنّ ظهوره سيغيّر شيئًا في قلب إيريك.
وقد صدقت.
ففي ذلك اليوم لم يبتسم إيريك، وبدا منشغل الفكر حتى بدء المراسم.
فانفجر القلق الكامن في قلبها من جديد.
‘غـ… غادر….’
لم تعلم بالضبط ما جرى، لكن من الواضح أن عودة المعلم، والهجوم الذي وقع على القصر، جعلا إيريك يقرّر الرحيل.
وكان عليها أن تمنعه.
صفعت بيدها عنق الفرس تستحثّه على العدو.
كانت ترتدي ثوبًا خفيفًا وقدماها حافيتين، فتشبّث البرد الصباحي بجسدها.
تشققات وخدوش ارتسمت على قدميها ويديها، لكن الأشد قسوة كان اللهاث المضني الذي يقطع أنفاسها.
اجتازت حقول القمح، والتفتت عند مشارف القرية، حتى لاح لها “محطة ويبن” الخاصة بالخطّ الحديدي العابر للقارة.
هناك، نزلت عن فرسها واندفعت تركض إلى داخلها.
ورأته.
“يا ربّ الدار!”
كان إيريك على وشك دخول المحطة.
وبجواره رجل طويل القامة، أسود الشعر، كهيئة عمودٍ ممتد.
توقّفت خطواتهما معًا.
ارتسمت على وجه إيريك مسحة دهشة، لكنها ما لبثت أن تلاشت سريعًا كأنها لم تكن.
انقبض قلب تيريا بشدّة.
اقتربت منه ببطء، لكن…
“ادخل أنت أولًا.”
“حاضر…”
دخل الرجل الأسود الشعر إلى داخل المحطة.
وكذلك تفرّق الناس من حولهما، حتى بقيا وحدهما.
عندها قال إيريك:
“لماذا تبعتني؟”
كان صوته باردًا.
ارتعشت خطوات تيريا وتوقفت.
شعرت وكأن أنفاسها توقفت أيضًا.
“هـ… ها؟”
“لقد أوصيت الخدم أنني سأغادر هذه الأرض.”
انعقد لسانها، ودار رأسها.
نعم… هكذا هو الأمر.
إيريك… كان كاشا.
لا بد أنه يودّ إخبارها أن الحرب اشتدت ولم يعد بإمكانه البقاء هنا.
عليها أن تقول له إنها تعلم… لقد قرأت الخبر في الصحيفة.
“حقًا… تفتقرين إلى الفطنة.”
تجمّدت أفكارها تمامًا عند وقع كلماته.
“كنتُ أحتاج فقط إلى مكان أختبئ فيه حتى أتعافى جسديًا. وحين جاء الوقت، رحلتُ.”
كان كلامه حادًا جدًا.
كل كلمة منه بدت وكأنها تخترق قلبها وتعتصره.
نظرت تيـريا إلى عيني إيريك مباشرة.
كان الأمر غريبًا.
لم تستطع قراءة شيء.
رغم كل تدريبها الطويل على قراءة تعابير الناس وحركاتهم، لم تتمكن من استشفاف أي إحساس من تلك العينين الحمراوين القانيتين.
وذلك أخافها.
“أنا…”
“حالك لا يُسعفك. الأفضل أن تدخلي الآن.”
قبضت تيـريا على طرف تنورتها بقوة.
احمرّ وجهها، واحترقت مآقيها.
لم تستطع فهم ما يجري.
حتى الأمس فقط كان يمشي بجانبها ممسكًا بيدها، والآن انقلب فجأة هكذا؟
كان الأمر فوق قدرة تيـريا على الاستيعاب.
أرادت أن تصدق أنها لا تزال في حلم.
تمنت لو كان كل هذا كابوسًا بشعًا.
لكن مثل ذلك المعجز بدا بعيدًا جدًا.
الإحساس كان واقعيًا بشكل فظيع.
بل كأن حواسها تضاعفت أكثر من المعتاد.
ألم باطن قدميها، وبرودة هواء الفجر التي تضرب جسدها، كلها أحاطت بها.
والحرارة التي ارتفعت من داخلها اصطدمت بتلك البرودة.
وفي خضم ذلك تسلّل الخوف.
فكرة أنها إن استدارت الآن فلن تراه ثانية لم تفارقها، فدفعت قدماها نفسها للأمام تلقائيًا.
كان إيريك واقفًا ساكنًا.
ينظر إلى تيـريا بلا أي انفعال، كما لو أنه لا يسمح بشيء.
اقتربت حتى صارت المسافة بينهما قابلة لأن تمد يدها فتلمسه.
رفعت تيـريا رأسها لتنظر إلى إيريك.
كان وجهه الخالي من التعبير أشبه بباب موصد بإحكام.
فجأة وجدت نفسها تقول:
“لا… لا يمكن.”
أمسكت تيـريا بطرف ثوب إيريك.
“لا تذهب… لا يمكن أن تذهب.”
خرجت الكلمات متقطعة من بين شفتيها.
قبضت على ثوبه بإحكام أكبر.
كان عقلها أبيض من فرط الرجاء.
كان يجب أن تبحث عن سبب تقنعه به،
أن تذكر له ألف سبب لِمَ يجب ألا يرحل،
ولِمَ يجب أن يبقى هنا.
لكن لم يخطر ببالها شيء.
فصارت تردد كلامًا آليًا أشبه بالإلحاح:
“…لا يمكن أن تذهب. سيدي، يجب أن تبقى هنا.”
احترق طرف أنفها من السخونة، حتى كادت تفقد الإحساس بالرائحة.
“أنت الحاكم، ألم تقل أنك ستبقى لتحمي هذا المكان؟ لكن…”
كانت عيناها تحترقان حتى كادت رؤيتها تتشوش.
“أنت… أنت سيد فورتمان.”
كان ذلك أمرًا لم تعشه تيـريا يومًا في حياتها.
حتى في طفولتها، حين كانت تُعذَّب يوميًا في ألم متواصل،
حتى يومه الأول حين تركها ورحل،
حتى السنوات العشر التي عاشتها بدونه.
لم يؤلمها أي يوم كما اليوم.
لم تكن يومًا بهذا القدر من اللاعقلانية،
ولا بهذا العجز عن السيطرة على نفسها.
‘لا أريد.’
لم تدع مشاعرها تجرها بهذا الشكل من قبل.
لم تستطع التفكير إلا في أنها لا تريد أن تعيش في مكان لا يكون فيه إيريك.
كيف يمكنها أن توقفه؟
ماذا تقول لشخص يبني حوله جدارًا كهذا؟
كلما فكرت، انقطع نفسها أكثر.
تصاعد قلقها حتى بلغ أقصاه.
خفق قلبها بجنون فحجب عنها التفكير.
قالوا إن الفقدان هو الخسارة.
لكنهم مخطئون.
ففقدان تيـريا لم يكن خسارة.
مجرد فكرة أنها قد تفقده كانت كأن وتدًا يُدق في قلبها.
فكيف يُقال عن ذلك إنه خسارة؟
مجرد التفكير في غدٍ بلا وجوده كان يُحدث ألمًا جديدًا كل لحظة،
فكيف يمكن أن تصفه بالفراغ إذًا؟
لهذا السبب تحديدًا،
تساقطت دمعة على خدّها.
وفي الوقت نفسه اندفعت الكلمات التي كانت حبيسة صدرها وكأنها ترتد إلى الخارج:
“أح، أحبه…”
‘لذلك أرجوك، لا تذهب.
ابْقَ هنا.
ابْقَ بجانبي.’
كانت همهمة أكثر من كونها كلامًا واضحًا.
انخفض رأس تيـريا.
القناع الذي انكسر مرة لم يعد يُمكن ترميمه.
الدموع التي كانت تحرق مآقيها صارت شلالًا يتساقط من طرف ذقنها.
كانت تملك يقينًا غريبًا،
رغم أنها تفعل ذلك للمرة الأولى،
رغم أنها لم تبح بمكنونها من قبل أبدًا:
“…أنا أعلم.”
كانت قد شعرت سلفًا أنها ستُقابل بالرفض.
في مكان ما في الأسفل من مجال رؤيتها كانت ترى قدمي إيريك.
شدّت قبضتها أكثر على طرف ثوبه، لكن…
“اتركيه.”
أبعد يده عن يدها.
ثم اختفت قدماه من مجال رؤيتها.
رفعت رأسها متأخرة، لكن إيريك لم يكن موجودًا.
تهاوت تيـريا مكانها.
انسابت دموعها بلا توقف.
جلست في زاوية ما من المحطة،
لم تستطع تحريك قدم واحدة حتى جاء ألديو ومدبرة الخدم.
—
الفهم أصعب من اللوم.
إيريك كان يعرف ذلك.
“لننطلق.”
“أ… سيدي…”
“لننطلق.”
قال ذلك ثم أغلق باب مقصورته.
بعد قليل ارتجّ القطار وانطلق إلى الأمام.
عندها فقط انكمش إيريك في مكانه.
قبض على صدره وزفر نفسًا طويلًا.
أغمض عينيه.
‘…لقد أحسنت.’
في تلك اللحظة كان ثباته أمرًا جيدًا.
الحفاظ على ملامحه حتى النهاية كان اختيارًا صحيحًا.
‘ماذا سيتغير لو لم أُبعد يدها؟
ماذا سيتغير لو شرحتُ لها ما يجري فعلًا؟’
ذلك بالذات كان سيكون الأمر الأكثر قسوة على تيـريا.
لو أنه وهو ذاهب إلى ساحة حرب مجهولة المصير قال لها إنه يحبها،
فستنتظره لا محالة.
ولو لم يستطع العودة، فستعيش حياتها كلها وهي تتذكره.
كانت تلك هي تيـريا.
ولهذا لم يستطع أن يقولها.
كان عليه أن يجعلها تلومه وتغضب وتكرهه.
كان الوداع مؤلمًا.
إيذاؤها كان أشد إيلامًا من أن يُغرس خنجر في بطنه،
أو يُغرز سهم في ظهره،
أو يحترق جسده حتى يتقرح.
كره نفسه لأنه لم يجد سبيلًا آخر.
صار يتمنى شيئًا واحدًا:
أن تراه شخصًا سيئًا للغاية حتى لا تعود تريد النظر إليه أبدًا.
أن تمحو وجوده من حياتها الباقية كلها.
‘اللوم أيسر من الفهم.’
لأنه أسهل من أن تعيش طول حياتك بالحنين والألم.
وإيريك نفسه سيفعل ذلك.
لن يعود لينظر إلى ما تركه وراءه.
سيقتطع حتى وقت التفكير في ألمها كي يواجه الأمام.
سيمشي على كل خطوة بدافع اللوم الذي سيكون في نهاية الطريق.
وحينها قد يستطيع الوصول.
‘طَق طَق طَق’
عادت مفاصله إلى مكانها.
انبثق من داخله حقد يكفي لينسيه الألم.
وحين فتح إيريك عينيه أخيرًا،
‘سَسَسَس…’
كانت حمراء تتوهج كالدم.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 81"