كانت تلك الأرض بوتقةً للقارة حيث تتقاتل إمبراطورية واحدة وسبع ممالك للسيطرة، ومحطةً جهنميةً في العالم البشري تُستخدم فيها الأجساد كحطب للنار.
كانت الوحشية هناك مروعةً بكل المقاييس، حيث أحرقت دماءُ الكثيرين كوقودٍ لالتهام المزيد. وكانت قصص أولئك الذين أصبحوا حطبًا للنار مؤلمةً بشكلٍ خاص.
بعضهم عاش حياةً مأساوية قبل أن يُلقى بهم في براثن الحرب.
مثل ذلك النبيل الشاب الذي قابلَه “إيريك” ذات يوم.
“أنا إلبيرث غراهام. أنت كاشا، أليس كذلك؟”
كان ذلك حين كان إيريك في السابعة عشرة من عمره.
في ذلك الوقت، كان إيريك مرتزقًا واعدًا بدأ يتأقلم مع ساحات القتال، بينما كان الشاب الثالث في عائلةٍ تقود معارك الإقطاعيات.
كانت العلاقة بينهما علاقة مُوظِّفٍ وأجير.
<الاجير هو الي يأجر العامل >
وكان ساحة المعركة ذلك اليوم جدارًا يحرسه مئة رجل مسلحين بالبنادق الفتّاكة.
كان إيريك و إلبيرث في جانب المُحاصرين الذين يحاولون اختراق الجدار.
“علينا اقتحام البوابة. فرسان عائلة غراهام سيشنون هجومًا بالخيول، ثم تتبعهم القوات لبدء الحصار. ستتركز قوات المدافعين تجاهنا، وعندها ستتسلل أنت من الفراغ إلى الداخل.”
كان عمر الشاب النبيل آنذاك عشرين عامًا فقط.
أصبحت الذكرى قديمة الآن ولم يعد يتذكر ملامح وجهه جيدًا، لكن عينيه الصافيتين الشبابية ما زالتا واضحتين في ذاكرته.
تساءل إيريك لماذا كان نجل عائلة نبيلة في العشرين من عمره فقط يقود المعركة، لكنه لم يسأل.
فأخلاقيات المرتزق تقتضي فقط أداء العمل المقابل للمال.
“اهجموووو!”
هناك أشياء لا تفارق ساحة المعركة أبدًا:
رائحة الدم الباردة الممزوجة برائحة المعدن، وغبار التراب المتطاير في ضبابٍ أصفر، ثم الصرخات والضجيج الذي يخترق ذلك كله.
وكان إلبيرث غراهام في قلب ذلك كله.
لم يشارك كقائد، بل كفارس يحاول اقتحام جدار العدو.
كان كفاحه يائسًا لدرجة أنه يمكن تمييزه حتى عبر غبار المعركة.
راقب إيريك المشهد من على بُعد خطوة واحدة من ساحة القتال.
“كاشا، حان وقت بدء عملنا.”
“حسنًا.”
بالنتيجة، كانت المعركة انتصارًا.
وذلك لأن إيريك قطع رأس قائد العدو وأسر وريث حاكم القلعة.
لكن لا يمكن اعتباره انتصارًا كاملًا.
فقد أصبح النبيل الشاب إلبيرث غراهام مُشوّهًا لا يقدر على الوقوف في ساحة المعركة مرة أخرى.
هذه الأمور تحدث.
فكم من جنود أصبحوا مشوّهين في الحرب؟ على الأقل نجا بحياته. وبما أنه نبيل، فلن تكون حياته صعبة جدًا.
لكن في اليوم الذي ذهب فيه إيريك إلى قصر عائلة غراهام ليتقاضى أجرَه، سمع عن المأساة الكامنة وراء حياة إلبيرث غراهام.
من الخدم في القصر.
فالخدم بطبيعتهم يحبون القصص المثيرة لتمضية وقت فراغهم.
“ماذا سيحل بالسيّد الثالث الآن؟ مسكين.”
“آه، أي ذنب اقترفه ليكون ابن عشيقة ثم يُدفع إلى ساحة الحرب هكذا…”
“رأيتموه؟ دخل وهو يبتسم رغم أنه لن يقدر على المشي مرة أخرى. ذهب مباشرةً إلى الدوق ليقدم تقريره.”
“لكن الدوق لن يرمش له حتى…”
كل شخص لديه نقطة ضعف مؤلمة.
وحتى ذلك النبيل الذكي كان لديه مثل هذه النقطة.
رسم إيريك الصورة في ذهنه:
ربما وُلد إلبيرث كابن عشيقة، وحاول اليائس الهروب من وضعه بالزحف إلى قلب ساحة المعركة.
أو ربما حلم بأن يصنع مجدًا كقائد عسكري إن لم يرث العائلة.
أو ربما أراد فقط كسب رضا الدوق والده.
سبب صعوبة نسيان إيريك لهذا الأمر ربما كان شعوره بالتعاطف معه.
فقد أحس بأنهما يتقاسمان نفس الألم.
في سن السابعة عشرة، كان إيريك ممتلئًا بكرهٍ عميقٍ تجاه والده، وكان قادرًا على التحدث طوال اليوم عن مدى بؤس الأطفال المحرومين من حنان الوالدين.
بِطبعه الذي لم يتعلم الصبر منذ الولادة، لم يتمالك إيريك نفسه وسأل إلبيرث غراهام بمجرد مقابلته:
“تبدو في حالة مزرية. أتعاني كثيرًا بسبب أبيكَ الفاشل؟”
“آه، أتيتَ أخيرًا؟”
“ألا تكرهُ والدكَ؟”
“همم؟”
كان إيريك يتوق لتبادل الشتائم معه، لكن الإجابة فاجأته:
“لا، لم أذهب إلى الحرب لأكسب رضا رئيس العائلة.”
أحيانًا، يصادف المرء أناسًا يعيشون على خطٍّ أخلاقي مختلف تمامًا.
أناسٌ من عالمٍ آخر، لدرجة أنك تشعر بغرابة تجاه وجودهم. ذلك اليوم كان كذلك.
رغم أن إلبيرث غراهام كان نصف جالس على السرير وهزيلًا، إلا أنه كان يلمع بقوةٍ داخلية.
بنظرة خالية من أي شك، رفض كلمات إيريك بحسم:
“كنت أؤدي واجبي فقط. لا يوجد سبب آخر.”
قال:
“مَن وُلد نبيلًا عليه مسؤولياتٌ وواجبات.”
“كلما ارتفع مقامك، زاد واجبك في أن تكون قدوة.”
“هذه الحرب كانت مجرد مكانٍ لأداء تلك الواجبات.”
في حيرةٍ من هذا الكلام الذي لا يفهمه، سأل إيريك سؤالًا عفويًا.
لو فكر لثانية، لكان سؤالًا وقحًا يستحق قطع رقبته:
“…ألستَ ابن عشيقة؟ نصفك من عامة الشعب.”
حتى بهذا السؤال، ضحك إلبيرث غراهام وأجاب:
“بوسعك القول أن نصفَ نبيل. وقد فقدتُ نصف جسدي بينما كنتُ أؤدي نصف واجباتي. حسنًا، ربما أستمتع بحياتي المتبقية كنبيلٍ متحرر.”
وبالفعل، عاش هكذا بعد ذلك.
ابتعد عن معارك الحرب الملتهبة، وعاش كأرستقراطي ينعم بامتيازاته، وتزوج بعد سنوات.
سبب معرفة إيريك بهذا هو أنهما تقابلا عدة مرات لاحقًا.
إلبيرث غراهام، ابن العشيقة الغريب والمميز، كان أحد الأصدقاء القلائل الذين عرفهم إيريك خلال حياته كـ”كاشا”، والرجل الذي ألهمه في شبابه.
…على أي حال، كان هناك سببٌ لتذكر إيريك لذلك الماضي الآن:
“أنا تيريا فورتمان.”
كان هذا رد تيريا عندما سألها لماذا لم تعد إلى عائلتها وحافظت على ميراثه.
كانت ملامحها هادئة، وكأنها تذكر حقيقةً بديهيةً دون أدنى تردد.
بِكل ما تحمله الكلمة من أرستقراطية.
ولهذا لم يتمالك نفسه من التذكر:
المسؤولية والواجب.
ذلك الثقل الذي يحملونه كأمرٍ طبيعي.
*صك، صك*
كان إيريك جالسًا على مكتبه في الغرفة.
في يده خنجره الذي يحمله دائمًا، يخدش به سطح المكتب.
خنجرٌ غير حاد، لم يُشحذ ليكون سلاحًا.
كان مجرد تعويذة يحملها إيريك لتهدئة قلقه.
*صك، صك*
رغم ذلك، ترك الخنجر عشرات الخدوش الطويلة على المكتب.
كلما زادت مدة تفكيره، تعمقت الخدوش.
أحدق إيريك فيها وهو يردد الكلمات نفسها:
“المسؤولية والواجب.”
“ربما كان هذا هو المعنى الكامن وراء إجابتها: ‘أنا تيريا فورتمان’.”
بصفته شخصًا لا يعرفها جيدًا، لم يستطع إيريك إلا ربط ردها الأرستقراطي بهذا المفهوم.
إذن، ما هي المسؤوليات والواجبات التي تحملتها؟
بدأ يطرح الأسئلة واحدًا تلو الآخر ويبحث عن إجابات:
“كزوجة نبيلة.”
ماذا كانوا يفعلون مرة أخرى؟
حسب معرفة إيريك، بينما يعتني رب العائلة النبيل بالشؤون الخارجية، كانت هي من تدعم الدعامة الداخلية.
كانوا من يحافظون على استقرار العائلة ونظامها.
إذن، ربما كان رد تيريا أيضًا من هذا المنطلق:
“فورتمان.”
لقد بقيت كـ”تيريا فورتمان” لتحمي ما تبقى من عائلة بورتمان.
ليس من أجل الرضا الشخصي، بل لأداء واجبها ومسؤوليتها.
إجابتها التي جاءت وكأنها تذكر حقيقة بديهية، لابد أنها تعكس الأخلاق التي التزمت بها.
بدأ الشعور بالخجل يعذبه من جديد.
المسؤولية والواجب – كلاهما أشياء هرب منها إيريك وتجاهلها.
من بين الاثنين، كانت هي الوحيدة التي حافظت على الأخلاق والنبل كإنسانة وكأرستقراطية.
*قبض* على خنجره بشدة.
حدّق في النصل البليد واسترسل في أفكاره:
لا يمكنه تعويض السنوات العشر التي ضحّت بها.
ليس لديه القدرة على عكس الزمن.
لكن هذا لا يعني أنه لا يستطيع فعل أي شيء على الإطلاق.
“ستصل الرسالة مرة أخرى.”
رسالة تطلب استلام الميراث.
من غير المعقول أن تتوقف بعدما استمرت لمدة عام كامل.
الشيء الذي يجب التفكير فيه هو أن عائلة ويبين طالبت بالرد لكنها لم تأتِ إلى هنا شخصيًا.
من المنطقي افتراض أنهم غير قادرين على الحضور.
ربما كانت هذه رغبة والدها، أو ربما رغبة تيريا نفسها.
“حتى لو سألتها، لن تجيب…”
لو كانت من النوع الذي يفصح عن مثل هذه الأمور، لكانت قد أخبرته بالفعل عن موضوع الرسائل.
من خلال ملاحظته، يبدو أنها من النوع الذي لا يظهر مشاعره أساسًا، لذا لن تشكو له.
لكن لحسن الحظ، ليس الأمر مستحيلًا تمامًا.
نهض إيريك من مكانه.
اتكأ على عصاه وخرج من الغرفة.
“ألدو.”
“نعم.”
“أعدّ العربة من فضلك.”
“امم؟ إلى أين تنوي الذهاب يا سيدي؟”
ابتسم إيريك ابتسامة خفيفة:
“أعتزم زيارة عائلة ويبين.”
مساعدة صغيرة، لكن إذا كانت تلك الرسائل تسبب الإزعاج لتيريا حقًا، فيمكنه حل الأمر. كل ما عليه هو أن يطلب من عائلة ويبين التوقف عن إرسالها.
حتى في الحالة المعاكسة، إذا كان الأمر يتعلق برغبة والدها بمنعها من التواصل مع عائلتها، فيمكنه إعادة التواصل بينهم.
المواجهة المباشرة.
كانت هذه الكلمة المفضلة لدى إيريك.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 8"