الفصل 79 / مفترق الطرق (8)
كان قصر عائلة فورتمان في حالة من الفوضى العارمة إثر انفجار مفاجئ.
ولحسن الحظ، لم يُزهق ذلك الحادث أرواحًا.
فقد كان الأمر ممكنًا بفضل التدخل السريع لفرسان “قمر الثلج” الذين تمكنوا من السيطرة على الوضع.
كان جميع من في القصر يدركون ذلك، إذ قام الفرسان بتكديس جثث المعتدين المتنكرين في زيٍّ أسود بحديقة القصر.
“مـ… ما هذا بحق السماء…؟”
تمتم ألديو بذهول، فيما وقف الخدم متلاصقين ببعضهم وقد تجمدت وجوههم رعبًا وهم يحدقون في كومة الجثث.
“أيها النائب… ما الذي يحدث هنا؟”
“كما ترون، لقد تعرضنا لهجوم. على أية حال، تمّت السيطرة على الوضع، فعليكم تهدئة الخدم الآن.”
قال ريكي محاولًا أن يبدو كفارس متماسك، غير أن الخدم لم يتمكنوا من استعادة هدوئهم.
وكانت لذلك أسباب شتى:
الخوف من هجوم لم يشهدوه من قبل، الفزع من رؤية الجثث المكدسة، والقلق من احتمال وجود مهاجم لم يُقبض عليه بعد مختبئًا داخل القصر.
وكان ريكي يدرك كل ذلك.
لكن وجود الخدم متحلقين أمام الجثث لم يكن إلا مصدر إزعاج إضافي.
وما إن همَّ بالتنهد حتى…
دَوِيٌّ عظيم تبعه سقوط جسد في الحديقة.
تجمدت الأجواء في تلك اللحظة.
فالشخص الذي ظهر بدا مألوفًا للغاية، لكنه في الوقت ذاته بدا غريبًا عنهم.
“سـ… سيدي؟”
قال ألديو بصوت مرتبك.
رفع إيريك رأسه، فارتجف الخدم من وقع ذلك المشهد.
رائحة دم نفاذة تنبعث منه، قطعة قماش تلف بطنه، وجسده مغطى بجروح بشعة تنزف دمًا غزيرًا.
حتى وجهه لم يختلف كثيرًا؛ عينان حمراوان وملامح ملوثة بالدماء، صورة بعيدة كل البعد عمّا يعرفونه عن إيريك فورتمان.
‘وحش قاتل.’
ذلك ما خطر في بال كل من رآه.
رفع إيريك رأسه ونظر إلى ريكي.
كان الأخير متصلبًا، وجهه شاحب حتى البياض، يتراجع بخطوات مرتجفة.
“الـ… السيد…”
“السيدة.”
قال إيريك بصوت مبحوح متشقق:
“أين هي السيدة؟”
بريق بارد انبعث من نصله الملطخ بالدماء تحت ضوء القمر.
ابتلع ريكي ريقه وقال بصوت مرتجف:
“إنها… في غرفة النوم.”
لم يجب إيريك.
بل بدأ يسير مترنحًا نحو المدخل.
تراجع الخدم بلا وعي، كما يفعل النبلاء في قاعة الاحتفال، ليفسحوا له الطريق.
ولم يجرؤ أحد على التفوه بكلمة حتى غاب عن أنظارهم.
—
توقف إيريك أمام غرفة النوم.
شعر بوجود شخصين في الداخل.
‘هذا مألوف… إنها تيريا… وذاك دانال.’
وما لبث أن فتح الباب من الداخل قبل أن يطرقه.
“لقد… لقد عدت.”
قال دانال وهو ينحني بعمق.
“السيـ… السيدة كانت تحاول الخروج… فـ… فقمت بتخديرها قليلًا…”
لكن عيني إيريك لم تتحركا إلا صوب تيريا.
وبعد أن فهم ما جرى مما سمعه، ربت على كتف دانال بخفة.
ارتجف دانال وهو يطلق أصواتًا مرتعبة، لكن إيريك لم يعره اهتمامًا.
“أحسنت. هلا تركتني وحدي الآن؟”
“نـ… نعم!”
اختفى دانال بهدوء.
وأغلق إيريك الباب.
كانت تيريا ممددة فوق السرير، عينيها مغمضتين.
انتزعه شعور بالقلق الخفي:
‘ماذا لو أنها لا تتنفس؟’
“…سيدتي.”
أصدر صوته أخيرًا.
اقترب ونظر، فرأى تحت الإضاءة الخافتة صدرها يرتفع وينخفض.
عندها فقط تمكن إيريك من التنفس بارتياح.
انهارت قواه فجأة.
جلس متكئًا على حافة السرير، وأطلق زفرة طويلة.
شكرًا للإله
ما إن تلاشى القلق الكاسح حتى اجتاحه الألم.
عقد حاجبيه محاولًا التحمل، لكن عقله انساق إلى التفكير في معلمه.
ذلك الرجل… سيّد السيف.
لقد ربّاه لغرض محدد.
ومع ذلك، أول ما تبادر إلى ذهنه لم يكن شذرات المعلومات تلك، بل حقيقة واحدة:
‘…لم يتحرك بنفسه.’
منذ مغادرة بيت ويبن مرورًا بالقرية وصولًا إلى هنا، لم يجد أي أثر مباشر له.
على خلاف ما تعهد به، اكتفى باستخدام وسيلة “ظل القمر”، ولم يقترب بنفسه من ويبين مطلقًا.
وما حدث مع “ديشا” رأى خبره في الصحف، لذا لم يكن غريبًا أن تكون ظل القمر قد تحركت.
لكنه أدرك حقيقة وحيدة:
‘…لا يهمه ما يحدث لأرض كهذه.’
لقد بلغ غايته على أي حال.
غايته كانت دفعه هو إلى ساحة المعركة.
فلو أن ظل القمر دمّرت ويبين بأكملها، لكان قد خرج إلى الحرب مدفوعًا بالرغبة في الانتقام.
صحيح أنه حال دون ذلك، لكن ما إن استل سيفه وأعلن هويته كـ”كاشا” لم يعد بإمكانه البقاء هنا كما كان من قبل.
لم يكن الموقف يسمح بالعقلانية، لذلك لم يشعر بالندم.
ومع ذلك، صدره كان ينقبض حد التمزق.
رفع يده.
كانت مغطاة بالدم.
أما أنفه فبات مخدرًا من فرط رائحة الحديد.
رفع رأسه فرأى تيريا الشاحبة البياض.
لم يستطع أن يمد يده إليها.
حين أدرك عجزه هذا، شعر إيريك وكأن شيئًا في داخله يتشقق.
‘آه….’
وفجأة، انفجر في ضحك متقطع.
لكن وجهه كان يتلوى في ملامح بشعة.
خطوط التشقق على وجهه كانت كأنها ترسم ابتسامة مصطنعة.
عندها انبثق الوعي في داخله:
‘لهذا كنت أشعر بالاختناق.’
منذ أن قرر البقاء في ويبن، كان ثمة شيء داخله يزعجه.
كشوكة عالقة في حلقه.
كلما حاول أن يدير ظهره لساحة المعركة، كان جسده كله يحكه ويحترق.
طالما تساءل عن السبب، والآن عرف: إنه الندم.
‘لم يكن ينبغي لي أن آتي إلى هنا منذ البداية.’
بيدين ملطختين بالدماء، بخطوات دموية، لم يكن عليه أن يطرق هذه الأرض.
ذلك لم يكن إلا تسليم هذه البلاد كفريسة للذئاب المسعورة برائحة الدم.
هل انتهى الأمر الآن؟
كلا، بل هذا مجرد بداية.
مهما حصل، فالخبر سينتشر.
إن بقي هنا، فسيتوافد الكثيرون ممن يذكرون “كاشا، شبح السيف ” إلى ويبين.
حتى لو صدهم، فسيأتي من لا يُمكن صده ليحاول مرة أخرى.
“ألقِ عنك كل الأثقال. صُغ نصلَك من القتل وحده. تعالَ، فسأكون في العرش بانتظارك.”
كان يكرر ذلك دومًا؛ كل ما يريده هو عودته إلى ساحة القتال.
وليس هناك ما يضمن أن تكون المعاملة القادمة متساهلة كما الآن.
‘رهينة، في الحقيقة.’
ويبين وتيريا على قيد الحياة، لكنهما في حكم الأموات.
طالما بقي هو هنا، فسيظلان كذلك.
انهار إيريك جالسًا، قابضًا رأسه بكلتا يديه.
اشتعل رأسه بحرارة جعلته يحك فروة رأسه بعنف.
صرّ على أسنانه وأفكر:
من أين بدأ الخطأ؟
هل كان بقبوله منصب الحاكم؟
هل كان الخطأ في أنه أحبّها؟
أم في أنه عاد إلى ويبن قبل ذلك؟
‘لا.’
لم يكن هذا ولا ذاك.
كان هناك أمر أعمق وأساس أكثر جذريًا.
توصل إيريك أخيرًا إلى الجواب.
ذلك الجواب الذي كان يعرفه منذ البداية لكنه تجاهله عمدًا:
‘…منذ أن غادرت إلى ساحة المعركة.’
من هناك بدأ كل شيء يخرج عن مساره.
عند تلك النقطة لم يعد إيريك فورتمان الذي يحنّ إلى هذا المكان هو نفسه إيريك فورتمان.
قطرة دمعة سقطت فجأة.
لم تكن دمعة صافية، بل دمعة ممزوجة بدم، فلطخت الأرض باللون الأحمر.
‘أنا….’
ربما كان يعيش في وهم.
وهم أنه بعودته إلى هنا سيعود إلى ذلك الزمن القديم.
لكن ما جرى اليوم وضع حدًا لذلك الوهم.
الآن فقط أدرك أن “كاشا” لا ينبغي له أن يشتاق إلى ويبن.
لا إلى مناظرها الريفية، ولا إلى سكينتها، ولا إلى حقول القمح الذهبية.
لا إلى الضحكات ولا إلى دفء البشر ولا إلى الموائد الحانية.
ولا إلى رغبة أن يحب أحدًا ويبقى إلى جواره.
حتى لو فعل كل ذلك، فلن يصبح إيريك فورتمان من جديد.
لن يكون إلا “كاشا” شبح السيف الذي يتقمص هيئة إيريك فورتمان.
لقد صار الاثنان مختلفين إلى هذا الحد.
“هَه…”
غطى إيريك وجهه بيديه.
كأن شيئًا لم يتغير، لكنه في الحقيقة كان قد تغير كل شيء.
عشر سنوات قضاها يقاتل للبقاء، لكن كل شيء تبدل.
الاعتراف بتلك الحقيقة جعله يشعر وكأن داخله ينهار.
وهو يلهث بشدة، لمحت عيناه من بين أصابعه تيريا النائمة بسلام.
بيضاء، بيضاء إلى درجة تدعو للرهبة.
استمر في النظر إليها ففاض قلبه بالخوف.
لقد عاش دومًا ليقتل.
ليأخذ، وليترك.
لذلك لم يكن يعلم كم يمكن للقلق من فقدان شيء ثمين أن يدفع الإنسان إلى الجنون.
ولا كم هو مروّع حتى مجرد تخيل أن يدمّر بيديه ما يحب.
ماذا لو جاء يوم يراها فيه جثة أمامه وهو حي؟
في لحظة اندفاع تلك الأفكار، اتخذ قراره.
بعد كل هذا الانزلاق، استطاع أن يحسم أمره:
‘آه….’
كان عليه أن يرحل.
ذلك الذي حسبه مفترق طرق لم يكن سوى طريق واحد مسدود إلا في اتجاه الخروج.
انهارت ملامح وجه إيريك تمامًا.
التعليقات لهذا الفصل "79"