كان انطباعه عن الوليمة يمكن اختصاره بكلمة واحدة: مُمِلّة.
ليس فقط لأن الضحك والابتسام في وجه أناس لم يلتقِ بهم من قبل لم يكن من طبعه، بل لأن عقله كان مشغولًا بأمر آخر تمامًا.
فمن خلف قصر بيت ويبين يبدأ الجبل مباشرة،
وعند الكوخ القابع على القمّة الثانية من السلسلة الجبلية… لا بد أن المعلّم هناك.
لمجرد التفكير بذلك، اضطرب تنفّسه على نحو غريب.
شيء من العقل كان يذكّره بواجب الوقار الذي ينبغي أن يحفظه بصفته اللورد الجديد، لكن تلك اللحظات التعقّلية سرعان ما تلاشت.
انتهت الوليمة أخيرًا.
“زوجتي، سأخرج قليلًا لأستنشق بعض الهواء.”
“…أتفعل ذلك حقًا؟”
“عُودي أنتِ إلى القصر أولًا. لقد ضاق صدري بعد أن حُصرت بين الناس طوال النهار.”
كان مستعجلًا لدرجة أنه لم يلحظ أن ملامح تيريا صارت أكثر تيبّسًا من المعتاد.
“عد سريعًا إذن.”
فاستدار إيريك وغادر.
—
رشفة الريح بين الأغصان ــ *بَسْرَق*.
لقد كان الربيع، وكانت جبال المنطقة تعجّ بالنباتات الناهضة.
رغم أنه كان ليلًا، فقد بدا العشب وهو يتمايل تحت ضوء القمر واضحًا للعين.
مع كل خطوة يخطوها صعودًا، كان إيريك يغرق في التفكير:
ما سبب مجيء المعلّم إلى هنا؟
هل كان يتابع أخباره طوال هذا الوقت؟
إذن لِمَ لم يأتِ إليه ولو مرة واحدة؟
رغم أنه سيعرف الإجابة قريبًا، ظل يطرح على نفسه الأسئلة.
والسبب بسيط: كان في قلبه شيء من الترقّب.
‘هل يمكن أن يمنحني المعلّم، ولو هذه المرّة، جوابًا يبدّد هذا الضيق؟’
‘أيمكن أن يكون قد جاء لأنه شعر بقلقي؟’
قد يصفه البعض بأنه تفكير متفائل أكثر من اللازم.
لكن إيريك أراد أن يتمسّك بذكرياته معه.
في تلك الأيام التعيسة المليئة بالخلاف مع والده، كان المعلّم قد شغل فعلًا بعضًا من دور الأب.
رجل قليل الكلام، لا يكشف آراءه للآخرين بسهولة، لكنه كان يستمع له أفضل من أي أحد آخر.
‘حتى لو لم يكن أكثر من مجرّد شكوى… ربما يمكنني أن أفضي بها إليه.’
امتلأ قلبه بشيء من الطفولة وهو يقترب من الكوخ.
وعند وصوله…
“جئتَ إذن.”
كان شيخ ضخم الجسد يجلس أمام الكوخ المتواضع، يقلب الجمر في نار الموقد.
بشرته النحاسية تلمع بضوء اللهيب، وعروقه البارزة وتجاعيده المحفورة، وشَعره الأشعث الأبيض ولحيته الكثيفة، ثم تلك العينان الخاويتان التي ابتلعت النار كلها في صمت…
لقد كان مطابقًا لما تحتفظ به ذاكرة إيريك.
هل تجاوزت به السنين؟
أم تراه قد أوقف جريانها بقوةٍ ما؟
مهما يكن، فقد بدا بلا تغيير، فارتسمت على وجه إيريك ابتسامة صغيرة.
“سيدي المعلّم… إذن كنت هنا حقًا.”
حمد الله أنه لم يكن يتوهّم.
دفعه الفرح للاندفاع خطوة أقرب، ثم جلس قبالته دون أن يقول شيئًا آخر، منتظرًا أن يفتح الشيخ فمه أولًا.
ظلّ المعلّم صامتًا طويلًا، حتى قال فجأة:
“لقد عدت.”
“إلى ويبين تقصد؟ نعم، كنت بعيدًا نحو عشر سنوات. ولكن… كيف عرفت ذلك؟”
“ألستَ عائدًا إلى ساحة الحرب؟”
“ماذا…؟”
“أسألك: ألن تعود إلى الجبهة؟”
“…!”
شهق إيريك وارتبك، وتكسّرت ابتسامته.
اهتزّت عيناه.
‘كيف…؟’
ذلك كان السؤال الأول الذي تبادر إلى ذهنه.
رحيله إلى الجبهة لم يعرف به أحد.
لقد كان حريصًا أشد الحرص على مسح أثره في الغرب، محكمًا أمر هويته بحيث يستحيل على أي كان أن يتعقّب أخباره الشخصية.
أجل، حتى أولئك المصنّفون ضمن أقوى سبعة في القارة، بل وحتى البيرت نفسه، لم يعرفوا حقيقة هويته قبل أن يعود إلى ويبين.
فكيف إذن عرف المعلّم تلك السرّية؟
الطريقة الوحيدة لمعرفة ذلك كانت أن يكون قد رآه بنفسه في جبهة الغرب…
‘…أليس كذلك؟’
ولمّا وصل إلى هذا الاستنتاج، رفع المعلّم رأسه، فالتقت عيناهما.
“نظرك ميّت.”
قالها المعلّم بصوت خفيض.
ثم نهض ببطء، وأمسك بإحدى السيفين الحديديين الموضوعين بجانبه، وألقى الآخر إلى إيريك.
تلقّفه إيريك دون تفكير، وإذا بالمعلّم يقول:
“استلّ سيفك.”
فواااخ―!
اندفع تيار أحمر من جسد المعلّم.
وما حدث بعد ذلك تجاوز كل توقعات إيريك.
چااااااااااااااااانغ!
اندفعت ضربة هادرة، فتحرك جسد إيريك غريزيًا قبل أن يستوعب عقله.
—
لم تدم المبارزة إلا لحظة، لكنها كانت كافية.
النتيجة كانت واضحة: هزيمة ساحقة لإيريك.
سقط على ركبتيه بتثاقل.
كان يتصدى للضربات التي تفوح منها رائحة الموت بأسنانه المشدودة، ومع ذلك لم ينجُ من الإصابة.
لم يتمكّن حتى من تفادي الأذى أو تحويل مساره، فغدا جسده ممزقًا من كل جانب.
“كههك…!”
أنفاسه باتت متقطعة، وذقنه ترتجف.
الفارق في المهارة كان سببًا، نعم، لكن ثمة ما هو أدهى.
‘هالة القتل.’
تلك هي الكارثة الحقيقية.
لقد بلغ المعلّم من قمّة فن السيف منزلة بعيدة عن متناول إيريك.
وكان ذلك الفارق وحده كفيلًا بأن يحسم كل شيء.
“لقد تراجعت. صرت أدنى مما كنتَ عليه وأنت طفل.”
قالها المعلّم بوجه لا يتزعزع.
وظلّ إيريك جاثيًا على الأرض، يرفع عينيه إليه في ذهول.
“لِماذا…؟”
‘لماذا هاجمتني فجأة؟ ما معنى كلامك ذاك قبل قليل؟ ماذا تعرف عني؟ ولماذا تفعل هذا؟’
كانت أسئلته تختنق في حلقه، لكن الإجابة لم تأتِ.
بل راح المعلّم يشرع في حديث مبهم:
“لقد لمستُ عالم السيّافين الأسمى. كنت الوحيد الذي بلغه.”
رفع سيفه حتى لامس ذقن إيريك.
“إن من يُولدون بموهبة بلوغ هذا المقام نادرون في طول هذه القارة وعرضها. قبلك كان هناك اثنان، لكنهما كبرا في السن فلم يقدرا على التقدّم. والأسوأ أنهما استسلما لمجد زائف، فتوقفا عن صقل نفسيهما.”
ازدادت عينا المعلّم عمقًا وهو يتكلم:
“كان أمرًا مؤسفًا. أن أبلغ تلك القمّة ولا أجد من يشهد المنظر نفسه معي… لقد كان عزلة مروّعة. لكن ما هو أفظع من الوحدة، أنني فقدت الخصم الذي يثبت لي أن سيفي ما زال قادرًا على التقدّم.”
“ماذا… تقصد؟”
“لقد بلغت نهاية المرتقى الذي يمكن بلوغه وحيدًا. كنت أعلم أن وراءه مشهدًا آخر، ومع ذلك لم أعد أستطيع مدّ يدي إليه.”
سساااااا―
هبت ريح، فغَيَّرت ملامح التجاعيد على وجهه.
وانصبّت كلماته في تركيز جديد:
“لذلك أشعلتُ حربًا. إن لم تنبت البذور، فعلى المرء أن يُصلح التربة.”
“…!”
“كدّستُ سمًّا عظيمًا وفتحتُ ساحة تضجّ بالصراع الدموي. غذّيتُها ثلاث سنوات كاملة، لكن أحدًا لم ينمُ بالقدر الكافي.”
ارتجفت شفتا إيريك.
لقد صار معنى كلماته جليًا في ذهنه.
ثم قال المعلّم، بصوت يقطّع السمع:
“تائهًا في الحزن، جُلتُ في القارة. وهناك وجدتك.”
وكأن صوته ينهش الكلمات:
“أنت تملك الموهبة لبلوغ عالم السيّافين الأسمى. لو دفعتك قليلًا، لكان بوسعك أن ترتقي إليه وحيدًا.”
كان وجه المعلّم يزداد انقباضًا وهو يقول:
“لهذا السبب منحتك كل ما لدي.”
ثم أضاف:
“فكيف لك أن تتراجع إلى الوراء؟”
“كههك!”
تحت وطأة هالته القاتلة انحنى جسد إيريك إلى الأرض.
ولم يكتفِ بذلك، بل زاد ضغطه بهالة أشد كثافة، حتى غدا الهواء نفسه يطبق على صدره.
“لقد عشتُ كل لحظة في انتظارك. كنتُ واثقًا أنه إن بلغتَ عالم السيّافين الأسمى، فإننا معًا سنرتقي إلى مرتبة أعلى. نتجاوز الحدود التي فُرضت على البشر، ونخلع عنّا قيود الحياة، ونعيش بإرادة خالدة. كان ذلك ممكنًا.”
كوللوك! سعل إيريك دمًا.
“أنت الأخير. لقد أوشكت الحقبة التي سمحت للسيف أن يسود أن تنقضي. فَلِماذا؟!”
ارتجّ صوته لأول مرة بالغضب.
“هل كنتَ لاهياً مترفًا إلى هذا الحد؟!”
“غغ…!”
ضغط المعلّم بقدمه على كتف إيريك الأيسر، فغاص إلى الأرض.
لم يكن في وسعه المقاومة.
الفارق بينهما كان ساحقًا.
“كثيرًا ما تساءلت. هل عليّ أن أُقصيك وأبحث عن بذرة أخرى؟ أم أجد سبيلًا وحدي إلى تجاوز المطلق؟”
تنفّس المعلّم بعمق، ثم محا انفعالاته بغتة.
لكن ذلك لم يكن فألًا خيرًا على إيريك، بل نذيرًا بسوء أكبر.
“وبين كل الاحتمالات، خلصتُ إلى قرار واحد.”
كووووووونغ!
دوى انفجار بعيد… في مكان لم يكن ينبغي أن يسمع منه صوتًا كهذا.
شهق إيريك ورفع رأسه بقوة.
الصوت جاء من حيث تستقر كل أركان حياته.
‘ويبين!’
وفي لحظة صدمته، غاص السيف في بطنه.
بغتةً صعدت قشعريرة حادة على عموده الفقري، واحتُبس نَفَسه.
استدار برقبته المرتجفة بصعوبة إلى المعلّم.
فقال ذاك بهدوء، وكأن الأمر تافه لا أكثر:
“يكفي أن أُزيل ما يجعلك مترفًا مستهترًا.”
سحب السيف في انسياب، فشعر إيريك بسلطانه على جسده يتفلت.
لكن في داخله اندلع لهيب، وغلت عواطفه بجنون.
“انبذ كل ما تحمله على عاتقك. صُغ وجودك كله في نصل القتل وحده. تعال إليّ… فسأكون بانتظارك على العرش.”
ركله المعلّم فتهاوى، ثم استدار وغاب في الظلام.
كان إيريك يلهث بصعوبة، محدّقًا في ظهره المتلاشي.
مئات الخيوط من المعلومات تصطخب في عقله:
من يكون معلمه حقًا، أي طريقٍ سلك حتى وصل إليه، لِم كان بتلك القوة، وكيف استطاع هو نفسه أن يقوى في ساحات القتال…
لكن كل تلك الخواطر انطفأت سريعًا.
إذ كان هناك أمر واحد فقط طغى على كل شيء.
ضغط بيديه على بطنه، وانقلب على الأرض.
رفع رأسه بصعوبة، وحدّق نحو ويبين.
انكمش تفكيره إلى نقطة واحدة، وانبثق من داخله خاطر واحد:
‘زوجتي…!’
تيريا في خطر.
لا بد أن يعود إلى ويبين فورًا.
وبين ارتعاشات جسده، حاول إيريك أن ينهض من جديد.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "77"