ما إن خرجت العربة من القصر حتى انكشفت الحقول وقد اكتست بالخضرة.
الموسم موسم زراعة الأرز، والألوان اليانعة بدأت تطرد بقايا شتاءٍ طويل.
لكن المشهد، بدل أن يطمئنه، أثار في داخله شعورًا بالغربة، كأن كل هذا العالم نابض بالحياة إلا هو.
“حالما نصل إلى الساحة سيبدأ الحفل مباشرة. سنحرص على إنهائه بأسرع ما يمكن لتقليل أي فوضى قد تحدث…”
لكن كلماتها لم تدخل أذنه.
ظلّ إيريك يومئ برأسه آليًا وهو غارق في فكره:
‘ما الذي أفعله حقًا؟’
سؤال يتردد داخله.
هل يريد فعلًا أن يصير لورد ويبين؟
ولماذا؟ هل ليتجاهل الحرب؟ أليس هذا هروبًا؟
ثم تدارك: ولماذا يكون سيئًا؟
أليست عودته إلى ساحة القتال أيضًا هروبًا من نوع آخر؟
الهروب نفسه الذي فعله قبل عشر سنوات عندما ترك تيريا وراءه؟
أيّ طريقٍ يختار، بدا وكأنه خطأ.
شيء ما بدا ممزقًا داخله.
إيريك فورتمان وكاشا…
هما الشخص نفسه بالجسد والعقل، لكن هويتهما على طرفي نقيض.
قطّب جبينه بشدة حين قاطعه صوت:
“سيدي، لقد وصلنا.”
توقفت العربة.
عاد إيريك إلى وعيه متأخرًا، ونظر عبر النافذة ليرى الحشود.
ابتسم ابتسامة باهتة.
“…الناس كثيرون فعلًا.”
“جميعهم حضروا لمشاهدة حفل التنصيب. حتى أن بعضهم لم يجد غرفًا في النُزُل فناموا في الطرقات.”
كما قالت، ما إن دخلت العربة البلدة حتى بدا المكان يغص بالبشر إلى درجة لا تجد فيها موطئ قدم.
في حياة إيريك، لم يجتمع مثل هذا الجمع إلا في ساحات القتال أو قلب عاصمة الإمبراطورية.
‘إذن حقًا… سيبدأ حفل التنصيب.’
شعر بثقله أكثر من أي وقت مضى، فحكّ عنقه بعصبية.
الحكّة ازدادت.
“لنذهب.”
حاول أن يستعيد تسلسل الحفل.
سوف يصعد إلى المنصة، يلقي خطابًا قصيرًا، ثم يتلقى مرسوم التعيين من الأميرة مبعوثة المملكة.
رغم بقاء الاضطراب داخله، لم يعد بوسعه التراجع.
تنفس بعمق وسار خلف المنصة.
“كل شيء جاهز!”
هتف نائب قائد فرسان قمر الثلج.
نعم، كان اسمه ريكي.
“أحسنت.”
ربت إيريك على كتفه ثم رفع ذراعه قليلًا، ونظر إلى تيريا.
فبادرت هي لتتشبث بذراعه.
وهكذا اتجه إيريك نحو المنصّة.
“واااااا!!!”
ارتفع هتاف يكاد يزلزل المكان.
شعر بالدوار من شدة الزحام حتى لم يبق موطئ قدم.
انحنى قليلًا محييًا، فارتفعت الهتافات أكثر.
وقف إيريك أمام مكبّر الصوت على المنصّة، وألقى نظرة خاطفة على تيريا.
كانت تهز رأسها موافقة.
‘هذا يعني أن أبدأ.’
حوّل نظره إلى نصّ الخطبة أمامه.
أخذ نفسًا عميقًا وبدأ بأقصى ما يمكنه من لطف.
“يسرّني لقاؤكم. أولًا، أود أن أعبّر عن امتناني لكل من تفضّل وجاء إلى هنا اليوم.”
هكذا بدأ الخطاب.
—
أخذ يتلو نصّ الخطبة بشكل آلي.
فالخطبة التي أعدّتها له تيريا كانت مليئة بالتعابير المتكلّفة والمهذبة، مما جعل قراءتها سهلة بلا عبء.
في بعض المواضع دوّت صيحات حماس كبيرة، غير أن إيريك، ولأنه لم يكن يركّز كثيرًا على الخطبة نفسها، لم يعرف في أي جزء بالتحديد كانوا يهتفون.
على كل حال، ما إن انتهى الخطاب حتى صعدت الأميرة إلى المنصّة.
“يا بارون فورتمان، إيريك، تقبّل أمر الملك.”
كانت الأميرة الشابة، التي لم يكن يعرفها من قبل إلا من صور في الصحف عندما كان يجوب ميادين القتال غربًا، تقف الآن بوجه مهيب وهي ترفع مرسومًا ملكيًا.
جثا إيريك مع تيرياه على ركبتيه.
“أتقبّل أمر الملك.”
قالها وهو يخفض رأسه، فبدأت الأميرة تتلو المرسوم بصوت قوي.
كان المرسوم وثيقة مزخرفة بالزخارف البلاغية، تدور كلها حول تفويضه بمنصب اللورد.
ربما كان خطابًا مملاً، لكن لم يشعر أحد بالملل.
ولِمَ لا؟ فمعظم الناس من سكان ويبين، بل وحتى الكثير من الحاضرين من خارجها، كانوا يشهدون لأول مرة مشهدًا يُتلى فيه أمر ملكي على أرض الواقع. كيف لا يجدون في ذلك رهبة؟
ثم إن إقامة مثل هذا الاحتفال التنصيبي أمام أهل البلدة جميعًا كان أمرًا نادرًا في حد ذاته.
لكن بالنسبة لإيريك، لم يكن الأمر مجرد مشهد مهيب يتفرّج عليه.
“…فهل، يا بارون فورتمان، إيريك، تقسم أن تكرّس نفسك كليًا من أجل سلامة رعايا ويبين ورفاههم؟”
كان السؤال ثقيلًا.
فإجابته تعني أنه يثبت خياره الذي اتخذه عند مفترق الطرق، فلا عجب أن يتردّد.
ولمّا لم يُجب فورًا، همست له تيريا بخفوت:
“سيدي.”
شعر إيريك بأن الأنظار كلّها صارت مركّزة عليه.
ومع استمرار تردده بدأ بعض الحاضرين يتبادلون نظرات الاستغراب.
‘هل عليّ أن أعتبر هذا حسن حظ؟’
“…نعم.”
رغم أنه جاء بصيغة أشبه بالانقياد، فقد نطق بالإجابة.
“وبهذا أعلن أن بارون فورتمان، إيريك، قد أصبح لورد ويبين!”
“وااااااا!!!”
انفجرت القاعة بالهتاف والتصفيق.
رفع إيريك رأسه أخيرًا، فإذا به يرى الأميرة تبتسم له بثقة.
مدّت يدها، فانحنى إيريك وقبّل ظهر كفّها.
“أرجو أن نعمل معًا من الآن، يا بارون فورتمان.”
“إنه لشرف عظيم أن أتمكّن من خدمة المملكة.”
قالها، ثم شعر بأن قواه تنحلّ فجأة.
لقد انتهى كل شيء.
‘نعم، الآن بعد أن أقسمت أمام المرسوم الملكي، لم يعد بوسعي التراجع.’
انظر، حتى تيريا تبدو وجهها مشرقًا.
كل شيء انتهى على خير.
صحيح أن صدره ما زال مثقلاً، لكن لا بد أن يزول هذا الشعور مع الوقت.
هكذا كان يهوّن على نفسه، وما إن نهض ونظر إلى الحضور حتى…
شَعرٌ أبيض منفلت، وعينان يملؤهما الفراغ.
شيخ ذو قامة أضخم من معظم الناس، يرتدي ثيابًا رثّة، فيزداد بروزه وسط الجمع.
كان ذا حضور قوي لدرجة جعلت اكتشافه الآن يبدو أعجوبة بحد ذاته، وقد كان يحدّق مباشرة في إيريك.
—
كاد قلبه يدفعه للركض نحوه على الفور.
لقد مضت ثلاثة عشر عامًا.
منذ أن كان في الحادية عشرة من عمره، لم يلتقِ بمعلمه طوال ثلاثة عشر عامًا، فكيف لا يتملّكه الشوق وقد رآه اليوم هنا؟
غير أن الظرف لم يسمح.
“لنذهب الآن إلى قاعة الوليمة.”
فقد كان ينتظره حدث مهم آخر: الوليمة مع النبلاء.
وفيما هو منشغل بذلك، كان المعلّم قد استدار وغاب عن الأنظار.
بدا كأنه يتحرك ببطء وسط الجموع، لكن متابعة خطاه بالعين كانت مستحيلة.
حتى خُيّل لإيريك أنه كان يطارد سرابًا لا أكثر.
وفي الأثناء، أخذت الأسئلة تتزاحم في ذهنه.
كيف عاد المعلّم إلى هنا؟
هل سمع بخبر تنصيبه فجاء؟
إن كان كذلك، فلمَ لم يتقدّم إليه مباشرة واكتفى بالمشاهدة من بعيد؟
هل أراد فقط أن يطمئن إلى أن تلميذه قد شبّ ونضج؟
‘…لا.’
لا يمكن أن يكون الأمر كذلك.
إيريك كان يظن نفسه أعرف الناس بطبع معلمه.
صحيح أنه لم يعرف اسمه ولا أصله، لكن ما عاشه معه كان كافيًا ليدرك شيئًا جوهريًا:
ذلك الرجل لم يتحرّك قط بدافع العاطفة.
كان دومًا يضفي غاية على كل فعل، حتى لحظة الفراق.
فلو كان يعلّق قلبه بالمودّة لإصطحبه معه يومها.
أو على الأقل لقال كلمة عن وجهته، أو متى سيعود.
لكنه لم يفعل شيئًا من ذلك.
وعليه، فعودته اليوم لا بد أن لها غرضًا محددًا.
لم يرجع ليطمئن إليه فقط.
إذن…
‘إنه يريد مكانًا منفصلًا للحديث.’
والمكان واضح.
فمنذ ذلك الماضي البعيد، لم يكن هناك سوى موضع واحد يلتقيان فيه.
“سيدي، هل أنت بخير؟”
في وسط قاعة الوليمة التابعة لبيت ويبين، حيث انساب لحن موسيقي رقيق، همست تيريا بخفوت.
عندها فقط استيقظ إيريك من شروده.
كل الأعين كانت مركّزة عليه.
لقد انغمس في التفكير حتى نسي أن الوليمة في أوجها.
انتزع ابتسامة بصعوبة، فصرف الناس أبصارهم عنه.
“بخير. لم يحدث سوى أنني التقيت بالكثير من الناس اليوم، فأصابني بعض الدوار.”
متى تنتهي هذه الوليمة؟
لا بد أن أمامها ساعة أو ساعتين إضافيتين.
وكان إيريك غارقًا في مثل هذه الأفكار.
أما تيريا، فحرّكت شفتيها دون أن يخرج صوت.
اختنق خلفهما سؤال لم يستطع أن يرى النور:
‘هل رأيته أيضًا؟’
لم يكن إيريك يدرك…
أنه لم يكن الوحيد الذي لمح المعلّم من فوق المنصّة.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "76"