قالت ذلك ثم استدارت بغتة، وغادرت صالة الاستقبال بخطوات سريعة.
وكان في وقع خطاها أثر غضب لا تخطئه العين.
أم أنّه كان خجلًا؟
مهما يكن، فقد كان مشهدًا يبعث على البهجة لا شك فيه.
—
مضت أيام أخرى.
عادت أراضي ويبين إلى هدوئها كأن لم تعرف يومًا صخبًا.
ومع اقتراب الشتاء من نهايته، بدأ سكان الإقطاعية نشاطهم من جديد، فيما عمّ الانشغال أرجاء القصر استعدادًا لانطلاق موسم الزراعة الجديد.
غير أنّ إيريك كان يشعر باضطراب داخلي، وكأنّه يقف على مسافة من كل تلك الحيوية.
‘الإمبراطورية ستنقسم.’
كانت تلك كلمات وليّ العهد.
الحرب ستزداد ضراوة.
ولن تقف عند حدود الغرب فحسب، بل ستمتد شرارتها حتى الشرق.
كلمات كفيلة بإغراقه في بحرٍ من التفكير.
لو كان الأمر في الماضي لكان بادر إلى القول بأنّه سيخرج إلى ساحة القتال من جديد.
فركبته شُفيت تقريبًا، وبات قادرًا على السير بلا عصا. فلم يعد هناك ما يعوقه.
ومع ذلك… لم يستطع الرحيل.
والسبب لا يحتاج إلى إيضاح.
“سيدي.”
السبب هو وجود تيريا هنا.
وقد بات إيريك يعترف بذلك.
“ما الأمر؟”
“اليوم عليك أن تخرج برفقتي.”
“همم؟”
“لا بدّ أن تتعلّم كيف تتفقّد الحقول أيضًا. إنّه أهم عمل قبل بداية الزراعة.”
وكأنها لم ترتجف من الخجل قبل أيام، ها هي تيريا تعود إلى صلابتها المعتادة.
صحيح أنّها ما تزال تحمرّ خجلًا كلما أُشير إلى ذلك الموقف، لكن إيريك لم يكن يلحّ عليها بالتذكير به، فلم تتح له رؤية ذلك المشهد كثيرًا.
الحقول إذن.
“حسنًا. لنذهب.”
نهض إيريك بلا عصا.
شعر بالفراغ بعد أن اعتاد حملها نصف عام تقريبًا، لكن إحساسًا بالخفّة والراحة سرى في جسده.
طوى عباءته الفروية، وخرج من القصر.
نسيم الربيع اللطيف يلامس جسده.
رائحة التراب والأسمدة الممزوجة في الهواء تبعث الطمأنينة في صدره.
وفي تلك الأجواء، أخذ يتعلّم من تيريا.
وصوتها الهادئ العذب يبدّد قلقه، فيتلاشى في لحظات، ويغدو كأنّه شأن بعيد لا صلة له به.
كان ذلك سحرها الخاص.
غير أنّ هذه الراحة التي تحمل بين طيّاتها شيئًا من الإدمان كانت تزيد تردده يومًا بعد يوم.
التفت إليها خلسة، فوجدها غارقة في التركيز، تبذل كل جهدها في العمل.
حتى أنّه شعر بالذنب لشروده وهو إلى جوارها.
“سيدي، هل أنت تنصت؟”
“أجل، كنت أستمع. الأمر يتعلّق بطبيعة التربة، أليس كذلك؟”
“…أرجوك ركّز.”
ابتسم إيريك ابتسامة متكلّفة.
‘بسببكِ لا أستطيع أن أركّز.’
لكن البوح بها بدا شديد الإحراج.
“هيا، لننتقل إلى ما بعده.”
قالت ذلك، ومدّت يدها لتتشابك مع يده.
ومن حيث تلامست راحتاهما انتشر دفء غريب.
ليست خشونة يده، بل نعومة مختلفة تسري كالشرارة في جسده.
“…حسنًا، فلنذهب.”
وقف إيريك من جديد.
لكن الموازنة بين الأمرين لم تتوقف:
هل يرحل إلى الحرب؟ أم يبقى هنا؟
وبينما هو غارق في أفكاره، قالت تيريا فجأة:
“والآن تذكّرت، سيدي.”
“ما هو؟”
“قبل بدء الزراعة، هناك أمر آخر لا بدّ من إنجازه.”
ذلك كان كلامًا أرغم إيريك المتردّد، الممزّق بين خياراته، على أن يختار.
“يجب أن تعتلي رسميًّا منصب سيّد الإقطاع. جسدك قد استعاد عافيته، ووَيبين كذلك قد استقرّت.”
لم يكن الزمن، على ما يبدو، في صفّه.
“فلنُعِدّ لمراسم التنصيب.”
—
في الحقيقة، لم يكن في الأمر ما يُدهش.
فالرغبة في الرحيل كانت في قلب إيريك وحده، ولم يستشر بها أحدًا، لذلك كان من الطبيعي أن يظنّ الناس جميعًا أنّه باقٍ في ويبين إلى الأبد.
وحتى هو لم يُكلّف نفسه عناء نفي تلك الظنون.
حتى الآن، كان عذره ساقه المريضة، لكن وقد زال ذلك العائق، صار من البديهي أن تُقام المراسم.
لم يبقَ من المشكلة إلا إيريك نفسه.
“تمامًا كما فعلنا في مهرجان الحصاد الماضي، ستُقام المراسم في ساحة القرية. وقد جمعتُ آراء كبير الخدم وسائر التابعين. ويبدو أنّ سكان الإقطاعية يتطلّعون حقًّا لرؤية سيّدهم يعتلي منصبه رسميًّا.”
“…هكذا إذاً؟”
“لقد كنتَ مشهورًا منذ صغرك.”
نظر إيريك إلى تيريا.
كانت ملامحها مفعمة بالحماسة.
ولم تكن وحدها.
منذ أن شاع خبر المراسم، خيّم جوٌّ من البهجة على ويبين بأكملها.
فها هو العام الزراعي الجديد يبدأ، ومعه موعد تنصيب السيّد، ويزيد على ذلك دفء الربيع… لقد كان زمنًا مفعمًا بالمرح.
“لا بدّ من دعوة بقية النبلاء أيضًا. دع هذه المهمّة إليّ، أما أنت فاهتمّ بالتحضيرات مع كبير الخدم. آه، وفرسان….”
بدأ صوتها يخفت في أذنه.
كان كلّ ما يفعله أن ينظر إلى وجهها وهو واقف عند مفترق طرق.
أيبقى؟ أم يرحل؟
ارتسمت على شفتيه ابتسامة مُرّة.
‘لقد تعلّقتُ كثيرًا.’
أمرٌ ما كان ينبغي أن يتردّد فيه أصلًا، غدا اليوم أثقل ما يكون.
لو أنّه كان قاسيًا منذ البداية وأغلق قلبه…
لو أنّه لم يحاول معرفتها أصلًا….
“…سيدي؟”
لماذا يثقل حضورها على قلبه إلى هذا الحدّ؟
ولماذا استحوذت على مكانٍ واسع في داخله؟
“ألستَ بخير؟”
وجهٌ يراه كل يوم، ومع ذلك يبدو جديدًا في كل مرّة.
ولماذا يغمره القلق إن لم يره ليوم واحد؟
ولماذا حين يضطرب قلبه، يلجأ إليها قبل أن يلمس خنجره؟
أسئلة ظلّ يردّدها مرارًا.
ولم يكن يملك الجواب. أو بالأحرى، كان يعرفه منذ البداية لكنه كان يتجاهله.
“لا، كنتُ أفكّر فقط في عِظم المسؤولية.”
“ستؤدّيها على خير وجه.”
“ذلك لأنّكِ إلى جانبي.”
“…ماذا؟”
“أحتاج إلى مساعدتكِ، يا زوجتي.”
لم تكن كلماتٍ فكر فيها، بل نطق بها مباشرة.
أي أنّها كانت الحقيقة.
“هل ستفعلين ذلك من أجلي؟”
وما إن قالها، حتى تلألأت ملامح تيريا بابتسامة رقيقة.
“ما تقولوه بديهي. فأنا زوجتك، أليس كذلك؟”
وصوتها العذب ينساب في أذنه…
‘آه.’
أدرك الحقيقة.
هو لا يريد أن يبتعد عن هذا الوجه المبتسم.
بل يريد أن يبقى قربه إلى الأبد.
كلّ تردّده، كان أنانيّةً بحتة؛ رغبةً في الاستمرار إلى جانبها.
‘يا لي من أحمق….’
لقد وقع في حبّها.
وما إن اعترف بذلك، حتّى شعر قلبه بالارتياح وبالثقل في آن واحد.
وكأنّ شوكة عالقة في حلقه منذ أن وطئت قدماه ويبين، قد تضخّمت الآن أكثر من أي وقت مضى.
“…لقد تأخّر الوقت. فلنذهب إلى العشاء.”
“حسنًا.”
ابتسم إيريك ابتسامةً مصطنعة.
لقد كان شعورًا كالسقوط في مستنقع لا قرار له.
وما ازداد هذا الشعور ثقلاً إلا في صباح اليوم التالي.
『تشيونيك يستسلم للإمبراطور.
الإمبراطور إلهادارك ماهير يدخل الحرب.
ولم يمضِ سوى ثلاثة أيّام حتى سقطت “ديشا” بعد تدخّله.
وفي معركة العاصمة، استسلمت تشيونيك للإمبراطور، وبذلك حافظ على حياة العائلة المالكة.』
كان ثمّة شيء ما ينحرف عن مساره.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "72"