‘إلى ابنتي العزيزة تيريا، ها هو والدك يرسل لك رسالة أخرى.’
رسالة تبدأ بتحية اعتيادية وسؤال عن الأحوال وذكر الأخبار، ثم تتبعها غاية خفية أضيفت بمهارة.
ولعلها سمة رسائل النبلاء، إذ تغرق في الصور البلاغية والاستعارات المتكلفة، تدور وتلتف فيما يمكن قوله مباشرة. غير أن الغرض نفسه كان جليًّا للغاية.
قرأ إيريك الرسالة مرارًا وتكرارًا بعينين متسعتين.
فهل هي نعمة أم نقمة أن يمتلك القدرة على قراءة ما بين السطور؟
‘هذا….’
الرسالة كانت تقول:
‘عشر سنوات تكفي. عودي الآن لنكون معًا. إن أردتِ، يمكنني أن أجد لكِ زوجًا جديدًا. توقفي عن انتظار من لن يعود، وخذي ما هو من حقك. لقد عانيتِ ما فيه الكفاية، أليس كذلك؟’
كانت الرسالة تصرّح بوضوح:
عودِي وخذي الميراث الذي آلت ملكيته إليك.
سقطت يده إلى الأسفل.
وعيناه لا تزالان مثبّتتين على الرسالة.
‘صحيح، لماذا لم أفكر بهذا من قبل؟’
لقد حوّل والده كل تلك الثروة الهائلة إلى سيولة مالية، وجعلها باسمه هو، دون أن يترك لتيريا نصيبًا.
أليس من الطبيعي أن تشعر بالظلم؟
فأي إنسان عادي قد يطمع في الميراث.
استحضر إيريك وجه تيريا.
امرأة قليلة الكلام، جميلة، تحمل في طبعها من الوقار ما يكفي ليجعل الآخرين ينكمشون أمامها.
تلك هي تيريا….
‘…لا بد أنها عانت كثيرًا.’
امرأة صمدت وحيدة لسنوات طويلة.
أليست هي من عاش تسع سنوات في كنف والد صارم، من دون زوج يساندها؟
وبصراحة، حتى لو أخذت الميراث فلن يلومها أحد.
فحتى إيريك نفسه رأى أنه حقها المشروع.
بل إن التفكير بأنها بقيت من أجل الميراث قدّم له جوابًا مريحًا.
أحس ذهنه ينقشع، غير أن…
‘لماذا….’
كان صدره يختنق وكأن الغيوم السوداء تملؤه.
هل السبب تلك الأيام السلمية في ويبين؟
أم أن قلبه اليافع لا يريد لأول حبٍّ حلو ومرّ أن يتلوث؟
بدأت تراوده أفكار هروبية.
وكانت بعض تصرفاتها الغامضة، التي لم يفهمها يومًا، تزيد تلك الأفكار اضطرامًا.
‘…لو كان الأمر من أجل الميراث فقط، فلماذا كانت تعمل بذلك الجدّ؟’
تذكر إيريك كيف كانت تيريا تتابع حقول القمح كل يوم بإخلاص.
وكيف كانت تحرص على أن تشاركه وجبة الإفطار كل صباح.
وكيف كانت تسهر حتى وقت متأخر من الليل لتتلقى رسائل كهذه.
والحقيقة أن من أراد أخذ الميراث كان يستطيع أن يفعل ذلك منذ عام مضى.
فهل كانت تنتظر عودته؟ لا، لم يظهر عليها أنها تهاونت أو تكاسلت في تلك السنة.
شعر بوخز مزعج يضغط على قلبه، فنهض من مكانه.
وجال بعينيه في أرجاء المكتب الذي تغمره أشعة الشمس من النافذة.
المكان لم يتغير منذ أيام والده، لذا كان يقدّر ما يوجد فيه وأين.
فتح إيريك أحد الأدراج في رفوف الكتب.
‘كما توقعت.’
هناك، تراكمت الرسائل.
كلها رسائل قادمة من ويبين.
أخذ يقرأها واحدة تلو الأخرى.
كانت جميعها قد بدأت بالوصول قبل عام.
وغرضها كان واحدًا لا يتغير: الميراث الذي آل إليه.
وبعض الرسائل تضمنت حتى رجاءً بأن تردّ عليها ولو لمرة.
ابتسم إيريك بسخرية.
فكل ما رآه الآن جعله يخجل من شكوكه بها، إذ إن الجواب كان واضحًا تمامًا:
‘لقد كانت تحرسه.’
لقد كانت تيريا تحرس ميراثًا لم تستطع أن تجزم بعودة صاحبه من أجل المطالبة به.
والأدهى أن حتى ألديو لم يكن على علم بذلك، ما يعني أنها أخفت الحقيقة بإحكام.
ولو علم ألديو، لما أخفى شيئًا لم يأذن له سيده به.
طوال العام المنصرم، كان إيريك يشيح ببصره نحو النافذة كلما فكر في أنها كانت تقاوم وحدها.
‘لماذا فعلتِ ذلك؟’
أمامه امتدت حقول القمح، وفيها رأى تيريا تعمل بين الناس.
لفت نظره منظرها وهي تعتمر قبعة من القش.
كان يريد أن يعرف السبب.
وفوق ذلك، كان من طبيعته أنه لا يكبح فضوله طويلاً.
غادر إيريك المكتب وقال:
“ألديو.”
“نعم.”
“أحضرِ الآنسة.”
لقد اختار المواجهة المباشرة.
—
كانت تيريا ترتب هيئتها أمام المرآة.
مزاجها اليوم بدا في أفضل حال منذ مدة طويلة.
…بل لعلها كانت في الآونة الأخيرة بخير على الدوام.
فإيريك، الذي ظنّت أنه سيعاملها وكأنها لا وجود لها ويقصيها إلى الأبد، بدأ أخيرًا يمنحها بعض الاهتمام.
بل وحتى وإن كان واضحًا أنه يفعل ذلك بتكلّف، إلا أنه أحيانًا يبتسم.
ابتسامة زائفة ربما، لكن مجرد أن تكون هي وجهتها كان يكفي ليبهج قلبها.
فما جدوى لوم نفسها على سذاجتها؟ قلبها وحده قد رحل، وها هو يدور حوله بلا رجعة.
واليوم، ها هو يطلب لقاءها بنفسه.
وكان ذلك يحدث لأول مرة.
فهل يمكنها ألا تأمل؟
‘هل أبدو لائقة بما يكفي؟’
لقد جاءت مسرعة من الحقول، لذا لم تكن راضية عن مظهرها.
ورغم أنها بدّلت ثيابها، بقيت تخشى أن تفوح منها رائحة التراب، كما شعرت أن شعرها لم يُصفّف تمامًا.
‘ربما لو أن لدي وقتًا قليلًا إضافيًّا لأصلحتُه أكثر…’ لكن الوقت لم يكن في صالحها.
“سيدتي، هل أنهيتِ استعدادك؟”
جاء صوت ألديو من وراء الباب.
ابتلعت تيريا خيبة نفسها وأجابت:
“نعم، سأخرج الآن.”
أي شأن يا ترى؟
كانت عشرات التصورات الموهومة تزدحم في رأسها.
ماذا لو كان قد دعاها للعشاء؟ أو أراد حديثًا شخصيًّا؟ كيف ينبغي أن ترد؟
لم تستطع أن تكف عن تلك الأفكار.
وفي طريقها إلى الطابق الأول، حيث غرفة الاستقبال، كانت تجهّز ردودًا محتملة لكل فرض.
لكن ما أراده لم يكن أيًّا مما تمنّت.
قال إيريك:
“وجدت هذه الرسائل. أعذريني، فتحتها من دون إذن.”
شعرت بقلبها يهوي في صدرها.
وكيف لا تعرفها؟ إنها رسائل أهلها، التي أنهكتها على مدى عام كامل.
‘لماذا هي هنا؟’
لم يطل بها التفكير حتى جاءه الجواب:
“كانت عالقة بين رسائل كان ألديو ينقلها.”
كلام عجيب، غير أن القلق بدأ يزحف في أعماقها.
هل يسيء الظن بها؟
هل يراها امرأة تافهة جشعة جاءت تطمع في الميراث؟
جالت كل هذه المخاوف في ذهنها، لكنها سرعان ما اطمأنت، إذ لم يكن الأمر كذلك.
“…في الحقيقة، بحثت أكثر. وقد فهمت أن الآنسة تجاهلت هذه الرسائل طوال العام الماضي.”
لم تستطع أن تفرح.
صحيح أنه لم يسيء الظن بها، لكن كلمات أخرى نالت من قلبها.
‘الآنسة….’
في نظره، كانت لا تزال مجرد “الآنسة”.
“أردت فقط أن أسألكِ. لماذا كنتِ تحرسين ميراثي الذي لم يكن مؤكدًا أنني سأعود لأطالبه؟ كان بإمكانكِ أن تأخذيه.”
في نظره، كانت غريبة.
غريبة إلى الحد الذي يجعل حرصها على الميراث لغزًا يستحق السؤال.
وخز الألم قلبها فجأة.
يكفي أن برودة اللقاء السابق قد تلاشت حتى اعتبر قلبها ذلك نعمة، لكن ما لبث أن أصبح جشعًا، فتلقى جرحًا جديدًا من مجرد سؤال كهذا.
“أتستطيعين أن تخبريني؟ لماذا لم تعودي إلى ويبين، يا آنسة؟”
سؤال بدا بديهياً، لكنه كان قاسيًا في برودته، إذ اخترق صدرها كخنجر.
أما هو، فملامحه بقيت هادئة.
فهل عليها أن تحمد الله أنه لم يُبدِ غضبًا أو احتقارًا؟
‘لا.’
لو أنه فعل، لكان أسهل أن تذكّر نفسها بأنها موضع كراهية، ولارتاح قلبها.
لكن وجهه الهادئ جعلها تتشبث بأملٍ كاذب، وذلك ما آلمها أكثر.
فانطلقت بالكلام.
كأنه عتاب طفل، لكنه كان أقصى ما استطاعت أن تفعل.
“فورتمان.”
“هم…؟”
“أنا تيريا فورتمان.”
لستُ آنسة ويبين، بل سيدة فورتمان.
أنا زوجتك.
لكنها لم تستطع أن تُكمل إلى هذا الحد.
خشيت أن تخرج من فمه كلمة ازدراء، خشيت أن يصير ما بينهما أسوأ من علاقة الغرباء.
فآثرت أن تبقى غريبةً وحسب، على أن تتحول إلى لا شيء.
ولحسن الحظ، لم يتغير وجهه.
وصوتها هي أيضًا خرج واضحًا ثابتًا.
لقد غطّت قواعد الأدب التي حُفرت فيها بالتربية القاسية على طفولتها حزنها، وفي تلك اللحظة، بدا لها ذلك العذاب القديم أمرًا محمودًا لأول مرة.
سألها بارتباك:
“وهل هذا كل شيء؟”
“هل ثمّة حاجة إلى سبب آخر؟”
آه، لقد نطقت بها فعلًا.
لكن إلى متى تستطيع أن تصمد؟
كانت يداها مشبوكتين بقوة على ركبتيها تحت الطاولة حتى شعرت بأن الدم يكاد لا يسري.
إن بقيت أطول من ذلك، فستُظهر قبح ضعفها لا محالة.
“هل لي أن أستأذن؟ لدي أعمال متبقية.”
“ذاك، أمر…”
تحركت شفتا إيريك ليتكلم، لكنه ما لبث أن أومأ ببطء.
ثم رفعت رأسها وغادرت غرفة الاستقبال بخطوات محسوبة.
وفي الممر، أخذت تنظم أنفاسها.
كان في صدرها وجع لاذع، لكنها اعتادت عليه.
وغدًا، كما كل يوم، ستتمكن من النظر إليه مجددًا.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 7"