مضت أيّامٌ أخرى، وكان “إيريك” في مكتبته.
لم يكن هناك سببٌ خاص.
إنّما، بعد تجاربه السابقة، شعر بضرورة قراءة الكتب.
في نفسه كان يودّ لو يتصفح الكتب الفكرية الصعبة ويحفظها، غير أنّه اليوم وقف أمام رفوف تحوي كتبًا متفرقة.
“أليس من الأفضل أن تتآلف مع الكتب أولًا؟”
وفق نصيحة “تيريا”، كان يبحث عن كتاب يسهل قراءته.
عندها وقعت عيناه على كتابٍ ما.
“همم، هذا هو…”
كان ذا غلافٍ بنيّ وعنوانٍ مكتوبٍ بالأصفر: [حبّ الأعمى].
ابتسم بسخرية.
لقد كان كتابًا مألوفًا له.
إذ ما إن رآه حتى خطرت له ذكرى قديمة.
—
كان ذلك في فترة تنقّله بين ساحات القتال.
في تلك الأيام لم يكن قد مضى وقتٌ طويل على إصابة “البيرت” بالشلل النصفي، وبعبارة أخرى، كانت الفترة التي تعمّقت فيها صداقتهما.
ذلك اليوم، كان “البيرت” جالسًا في وسط الحديقة المشمسة يقرأ كتابًا وهو يبتسم بهدوء.
“ما الذي تقرأه باهتمام هكذا؟”
“آه، أتيتَ.”
ثم أغلق الكتاب، فبان العنوان: [حبّ الأعمى].
كان العنوان يوحي برواية عاطفية، أقرب إلى القصص الشعبية، بعيدًا عن الكتب الفلسفية والفكرية التي اعتاد أن يقرأها.
“أتقرأ مثل هذه الروايات أيضًا؟”
“وما الذي يمنعني من قراءتها؟”
“كنتُ أظنّك لا تقرأ سوى الكتب العسيرة. ألم تكن تردّد دومًا أنّ الكتب وُجدت لنتعلّم منها؟”
“الحكيم قد ينظر إلى حجرٍ ملقى على الطريق فيتعلّم منه.”
“لو تسكت عن الكلام المبالغ فيه لكان أفضل.”
حتى مثل هذا التهكّم لم يبدُ أنّه يزعج “البيرت”، بل اكتفى بابتسامة عابرة.
فقال “إيريك”:
“حسنًا، وهذا الكتاب الذي يبدو للوهلة الأولى رواية عاطفية صِرف… ماذا تعلمتَ منه؟”
“تعلمتُ عن الإنسان.”
“الإنسان؟”
“تعلمتُ عن عاداته البائسة.”
ثم شرع يشرح بإيجاز مضمون القصة.
إنّها حكاية فتى أعمى يُباع ليكون لعبةً لابنة أحد النبلاء الجميلة. لكنّها تقع في حبّه لأنه كان الوحيد الذي نظر إلى أعماقها حيث لم يلتفت أحدٌ من قبل. ومع تبادلهما للحبّ المحرّم، يُكشف أمرهما، فينتهي المطاف بالفتى الأعمى والنبيلة إلى الانتحار معًا.
عندها علّق “إيريك”:
“إنها قصة غبيّة.”
“هكذا ترى؟ لكنها رواية مشهورة جدًا.”
“كلّ شيء فيها واضح. أليست عن حبٍّ يتجاوز الفوارق الطبقية؟ ما هو إلا وهمٌ للناس، يشبعون به رغبةً في المستحيل، إذ لا يمكن أن يحدث في الواقع.”
…لقد كان في تلك الفترة شديد الانغلاق والاعوجاج.
لعلّه لم يتجاوز بعدُ مراهقته، أو لعلّه كان في حالٍ يرى فيه كلّ شيءٍ بعينٍ ساخطة، لا يرضى إلا إذا انتقص من الآخرين.
على أيّ حال، فقد فاحت تلك المشاعر من جوابه المليء بالمرارة.
لكن “البيرت” ردّ قاطعًا:
“أخطأتَ.”
كان جوابًا جازمًا لا يترك مجالًا للجدل، على غير عادته.
“لم تُفسّر القصة تفسيرًا صحيحًا. لا هي ولا نفسية قرّائها.”
“همم؟”
“إنها حكاية عن البصر.”
قال “البيرت” وهو يمسح غلاف الكتاب.
“إنها حكاية عن الحواس التي نعتمد عليها، وعن شتّى الأوهام التي تنشأ عنها.”
“وما شأن ذلك؟”
“الأمر أبسط مما تظن. ألم تسمع بقولهم: الانطباع الأول هو الأهم؟ إنّه الذي يحدّد إدراكنا للآخرين.”
“…لقد سمعتُ ذلك من قبل.”
“هذا الكتاب يتناول أولئك الذين وقعوا في فخّ الانطباع الأول.”
كالعادة، كان كلامه عسير الفهم.
“تخيّل أن يقوم الناس جميعًا بالحركة نفسها: يرفعون أيديهم ليسندوا بها ذقونهم. فإن قام بها شخص ذو هيبة، سنُلبسه نحن ثوب الهيبة حتى لو لم يكن في الأمر قصد. وإن فعلها إنسان فاتن سنحسبها إيماءة إغراء، وإن فعلها مثقفٌ سنُسبغ عليها صبغة التهذيب، أمّا إن فعلها شخص وضيع فسوف نصفها بالابتذال.”
“همم…”
“ذلك هو الفخّ. ما دام البصر موجودًا، فإنّا لا محالة نُلصق الأوهام بالناس ونحن ننظر إليهم. أليس السبب نفسه هو ما يجعل النبلاء يعيشون أسرى لمظاهرهم؟ إنّهم يدركون بالفطرة أنّ عليهم أن يكونوا جميلين في الظاهر.”
وفي ختام حديثه الطويل قال:
“المعلومات التي ندركها بأعيننا مجرّد إغراء. إنّا نعيش أعمارنا في أسر هذا الإغراء فلا نرى الصورة الحقيقية لأحد. ولذلك، نحن نتمنّى…”
“…ماذا نتمنّى؟”
“شخصًا ينظر إليّ على حقيقتي. وأن أرى أنا بدوري حقيقة أحدهم.”
كان “إيريك” يذكر بوضوح ملامح “البيرت” يومها.
لم يكن ذلك الوجه الساخر الذي اعتاده، بل ابتسامة حالمة كأنّه غارق في رؤيا.
وكان بصره شاخصًا إلى ساقيه العاجزتين.
“ولهذا يلقى الكتاب رواجًا. لأنّه يثير شوق الإنسان.”
قصة سخيفة.
لكنّه لم يستطع أن يكرر هذا الوصف ثانية، لأنه لم يشأ أن يبدّد تلك اللحظة النادرة التي بدا فيها صديقه عاطفيًّا.
فقال بدلًا من ذلك:
“لم أكن أعلم أنّك تحبّ الرومانسيات.”
فأجاب “البيرت”، وقد احمرّت وجنتاه حرجًا:
“كلّ امرئٍ يحلم بالرومانسية. وإن كان يعلم أنّها وهمٌ مُصطنع، فإنه لا يقوى على الانفكاك منه. لأنّ الإنسان لا يعيش بلا تواصل، والرومانسية هي أتمّ أشكال التواصل. أما أنت، أليس في حياتك مثل هذا الشخص؟”
تساءل “إيريك” يومها عن مَن يقصد. لكنه لم يعد يذكر تمامًا من خطر بباله.
“أتمنّى أن تجد أنت أيضًا مثل هذا الشخص.”
وفهم مغزى كلمة “أيضًا” بعد عام.
حين تزوّج “البيرت غراهام”.
من “آيري فِلغاريوم”، تلك المرأة الصريحة الجريئة.
وقد علم فيما بعد أنّها هي التي أوصت “البيرت” بقراءة [حبّ الأعمى].
لقد كانت امرأةً اخترقت جوهر “البيرت غراهام” بنظرة واحدة.
وفهم “إيريك” في ذلك اليوم السبب الذي جعله، على الرغم من طبيعته القلقة، يحسم أمره بالزواج.
—
‘لستُ بعدُ في عمرٍ يسمح لي بأن أقضي حياتي أتأمّل الذكريات القديمة.’
ضحك “إيريك” في نفسه، ثم أعاد [حبّ الأعمى] إلى مكانه على الرفّ.
غير أنّ انطباعاته لم تُمحَ.
فقد عادت إلى ذهنه، مع ذكريات ذلك اليوم، تساؤلات أثارتها المحادثة:
‘أن نحيا العمر كله أسرى للبصر وخداعه…’
اتّجهت عيناه نحو النافذة.
فرأى “تيريا” جاثيةً أمام أحواض الحديقة الخالية إلا من التراب.
وقد بات مشهدًا مألوفًا في الآونة الأخيرة.
غادر “إيريك” المكتبة واتّجه نحوها.
“سيد الدار؟”
رفعت “تيريا” رأسها بخجل.
فابتسم لها “إيريك”.
“أكنتِ هنا من جديد؟”
زاوية عينيها المنحدرة، شعرها الأشقر الذي يشبه سنابل القمح، وعيناها بلون أخضرٍ كالبراعم.
ملامح أنيقة وجسد رقيق.
تلك الصورة كلها نسجت حولها هالةً من الغموض.
لقد بدت، في ظاهرها، امرأة بعيدة المنال.
ولذلك كان “إيريك” يجدها عصيّةً عليه.
فأعاد استرجاع حديثه مع “البيرت”، ثم أخذ يتأمّلها من جديد.
وازداد استغرابه.
“كنتُ أُفكّر في تهيئة أحواض الزهور.”
أيُّ امرأةٍ تكونين، يا مَن تُحبّين الأزهار؟
“فكّرت أنّ الألوان الرتيبة وحدها قد لا تسترعي الانتباه.”
أيُّ امرأةٍ تكونين، يا مَن لا ترضين بالرتابة؟
“لكن إن أضفتُ تنوّعًا مفرطًا خشيت أن يفسد تناغم المنظر العام للقصر.”
وأيُّ امرأةٍ تكونين، يا مَن تُعظّمين الانسجام رغم رغبتك في التغيير؟
‘السيّدة…’
مَن تكون “تيريا فورتمان” حين ننزع عنها قناع المظهر؟
امرأةٌ دائمًا ما تحافظ على الوقار، لكنها إذا أوت إلى الفراش غلبت عليها الغفلة الفوضوية.
امرأةٌ تفرح بهدية صغيرة.
امرأةٌ ترتعد من السكك الحديدية.
امرأةٌ يصير تعليمها صارمًا قاسيًا.
ثم امرأةٌ غبية في عنادها، إذ انتظرت زوجًا غادرها عشر سنين كاملة.
“سيّد الدار؟”
“كنتُ أصغي إليكِ.”
وإذا تأمّل الأمر، وجد أن كل تلك الصفات لا تنسجم مع صورتها الظاهرة.
ومع ذلك لم يشعر قطّ أنّ فيها نشازًا.
أفهل يسمّي ذلك “خداع البصر”؟
“ألوان الزهور، مسألة مهمّة فعلًا.”
قال “إيريك” وهو يتأمل الأحواض.
“أيّ لونٍ تراه مناسبًا يا سيّد الدار؟”
“أودّ أن تكون صفراء، تتمازج مع الخضرة.”
“ولِمَ ذلك؟”
لأنّها تشبه ألوانك.
ولتُعلِن أنّ صاحبة الحديقة أنتِ.
لكنّ التصريح بهذا بدا له فاضحًا.
فعادت نظرات “تيريا” إلى التربة.
وبعد طول تفكير هزّت رأسها إيجابًا.
“إذن، زهور صفراء بأوراقٍ خضراءٍ بارزة. وإن زرعنا معها الحمراء فسيغدو المنظر أجمل.”
“ولِمَ الحمراء؟”
“لأنّها ألوان صارخة، فتجذب الأنظار إلى الحديقة، ومع ذلك تبقى منسجمة معها.”
كانت تُعلي من شأن الانسجام، ومع ذلك ترحّب بالقوّة والجرأة.
و”إيريك” أدرك ذلك لتوّه.
“صدقتِ.”
وكان الجليد قد تساقط على رموشها، فكسى نورها بمسحةٍ غامضة.
“ما رأيك أن ندخل؟ البرد قارس.”
“نعم، يكفي ما فعلناه اليوم.”
وما إن نهضت “تيريا” حتى مدت يدها بعفوية، لتشبك أصابعها في أصابعه.
“أعتذر… جررتك للخروج في مثل هذا البرد بسببي.”
“لا بأس.”
فلقد تعرّف إليها أكثر، وليس في ذلك شرّ.
ألقى “إيريك” عليها نظرة جانبية.
لقد أراد أن يعرف.
أيّ امرأةٍ هي؟ وبماذا تفكّر الآن؟
‘أتراني لو فقدت بصري، كما في تلك الرواية، سأفهمها حينها؟ أذلك هو السبيل للخلاص من أسر البصر وخداعه؟’
تحت وقع خطواتهما، دوّى صرير الثلج المتكسّر.
وكان دفء يدها يتناهى إليه أوضح من أي وقت مضى.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "63"