عاد إيريك إلى غرفته ليُجهّز نفسه للخروج القصير.
ومن فوق السرير تناول عباءة الفرو المطويّة بعناية.
‘لو ظللت أتردّد هكذا، فربما تمضي حياتي كلّها دون أن أستطيع أن أهديها.’
كان يزعم أنّه يعرف نفسه جيّدًا.
فالذي فعله باسم “اختيار اللحظة المناسبة لتقديم الهدية” هو أن يدخل المكتبة، ويشرع في القراءة… ثم ينام.
إن واصل هذا التردّد، فلن يُريها سوى مواقف تُثير خجله.
وهذا ما لا ينبغي أن يحدث.
‘سأكتفي بأن أضعها على كتفيها ونحن خارجون.’
قرر ذلك، وخرج.
وما إن وصل مدخل الطابق الأوّل، حتى رآها تُحكم إغلاق عباءتها القديمة البالية.
لكن عينيها انساقت نحو ما يحمله بين يديه.
“أحضرتَ عباءة جديدة يا سيّدي؟ اختيار صائب. شتاء وِيبين قارس.”
لم يخطر لها قطّ أنّها قد تكون هدية.
وقد ضايق إيريك أن يراها تتعامل مع الأمر بمثل تلك البساطة.
“هل نذهب؟”
فُتح الباب.
وكانت الثلوج البيضاء قد تراكمت برفقٍ على الأرض، تبدو في غاية الجمال.
ولم يكن ثمة سوادٌ فيها سوى هي.
بمثل تلك الهيئة، شعر أنّه يستطيع أن يجدها أينما كانت في هذا الشتاء.
طرد هذه الخاطرة جانبًا، ثم قال:
“سيّدتي.”
وقف أمامها.
أخذ نفسين متتالين يستجمع فيهما عزمه، ثم زفر بخارًا أبيض وهو ينطق:
“هذه العباءة… ليست لي.”
“عفوًا؟”
“لحظة.”
فتح العباءة.
وبمجرّد أن قاسها بعينيه، بدا طولها مناسبًا لها تمامًا.
خلع عنها عباءتها القديمة، فانكشف جسدها النحيل تحت الفرو المنتفخ.
ارتجفت قليلًا من البرد.
أخفى إيريك استعجاله بقدر ما استطاع، ثم وضع العباءة الجديدة فوق كتفيها.
“ست سنين… لا، والآن بعد تبدّل العام، فقد صارت سبع سنين وأنتِ ترتدين نفس الثوب. شغلني ذلك عنك.”
وأثناء حديثه، عقد الشرائط عند عنقها على شكل ربطة.
خجل من النظر إلى وجهها مباشرة.
“إنها مجرد هدية… لا أكثر. بلا سبب خاص. فقط… أردت أن أهديك.”
تمتم بذلك متردّدًا، ثم رفع رأسه.
تساءل في نفسه: ‘هل ستبدو متفاجئة؟’
على الأقل أيقن أنّها لم تكن تتوقّع شيئًا كهذا.
فابتسمت ابتسامة صغيرة، سعيدة.
‘يا للعجب… كل هذا القلق على أمرٍ تافه كهذا؟’
شعر بانشراحٍ داخلي وهو يسألها:
“أتقبلينها؟”
مرّت يد تيريا على العباءة، بحركة أشبه بالذهول.
انتقلت نظراتها بين الفرو، ثم إليه، ثم إلى الربطة التي زيّنت صدرها.
واحمرّ طرف أنفها.
وتمنّى أن لا يكون السبب البرد فحسب.
ثم تحرّكت شفتاها أخيرًا:
“…هدية، تقول؟”
أجاب إيريك:
“نعم. هدية.”
“لكن… فجأة هكذا؟”
“أوهل يلزم أن يكون للهدية سبب؟ إنها هدية، فحسب.”
فلا تسأليني عن السبب.
ليتكِ تُجنّبينني الأسئلة العسيرة التي تعجزني.
ولعلّ رجاءه قد بلغها، فما سألتْ أكثر.
إنما ارتسم على شفتيها ما يشبه البسمة، لا هي ابتسامةٌ صريحة ولا هي عبوس، إنما هيئة غريبة موغلة في الغموض.
“شكرًا لك.”
“نخرج إذن؟”
ارتدى إيريك معطفها القديم على عجل.
كان قصيرًا، ينتهي عند ساقيه فوق العَجُز.
غير أنّه لم يشعر بالبرد.
فالسبب أنّ دفأها ما زال عالقًا به، بل ورائحتها أيضًا.
كان الأمر كأنّه يضُمّها بين ذراعيه.
ولو أراد أن يصفه على نحوٍ طريف، لقال إنّه تذكّر تلك الليلة في العاصمة حين تشاركا السرير نفسه.
لكن هذه المرّة، كان شعوره أقرب إلى دغدغةٍ لطيفة.
“هيا، لنذهب.”
مدّ يده بعفوية، فأخذت يدها في راحته.
لكنها، على غير عادتها، أمسكتها اليوم بقوة أكبر، وأخفت وجهها بين خصلات الفرو الكثيفة.
سَفَّ الثلج تحت الأقدام كان ناعمًا، كأنّه همساتها المتردّدة.
—
كأنّ العاصفة التي هبّت صباحًا لم تكن إلا وهْمًا، فقد سكن الهواء هدوءًا تامًّا.
وفي الحديقة الخالية من الخدم، لغياب أيّ بيوت مجاورة، بدا الأمر وكأنهما وحدهما في هذا العالم.
كانت تيريا تعبث بشريط العقدة دون توقف.
بيدين حذرتين، كأنها لا تريد حلّها.
ولحسن الحظ، فقد أحكم إيريك عقدها بقوة، فاستحال أن تنفك بسهولة.
لمحتْه من طرف عينها.
كان ينظر إلى البعيد، وبخار أنفاسه يتصاعد طويلًا.
وعصاه تخترق الثلج الناعم تاركة آثارًا بجوار خطواته.
كانت تلك أوّل مرة.
لقد منحها أشياء كثيرة لا تُرى، لكن أن يمنحها شيئًا ملموسًا باقٍ كهذا… فذاك لم يحدث من قبل.
وشعورها مختلف.
فهو مجرّد معطف مصنوع من جلد وحشٍ سحري، لكنّه بدا لها أثمن من الذهب.
خفق قلبها بلا سبب، وأحسّت بمحبة غامرة.
وبغباءٍ جميل، راحت تتمنى لو أنّ الشتاء يدوم للأبد.
تختار طقسًا يتيح لها ارتداء هذا المعطف، بدلًا من حصادٍ يعيل أهل ويبين عامًا كاملًا.
‘ربما حتى بعد عشر سنين، بل بعد عشرٍ أخرى، لن أستطيع التخلّي عن هذا المعطف.’
غلبها الخجل من خواطرها، فأفلت منها أنين خافت.
وفي تلك اللحظة، سألها إيريك:
“ألا ترين المعطف ثقيلًا؟”
“وأنت؟”
“وأنا أرتدي معطفك القديم، أشعر الآن بوزنه. إنّه ثقيل فعلًا.”
هزّت رأسها نافية:
“خفيف… أخفّ بكثير ممّا كنت أرتدي من قبل.”
“فذاك حسن إذن.”
وسكت.
وكان ذلك يحدث أحيانًا.
إذ تغمرهما لحظات من الصمت بسبب قلة ما يجمع بينهما من اهتمامات، فيسود شيء من الحرج.
لكن هذا اليوم بدا الصمت أقلّ وطأة.
ولعل السبب أنّ جسديهما كانا دافئين.
“هل أفقتَ من النوم قليلًا؟”
“هواء البرد أنعشني. أمّا ما حدث في المكتبة… فإني أكرر اعتذاري. لقد غلبني النوم.”
“لا بأس.”
‘بل أنا التي يجدر بها الاعتذار.’
تذكّرت تيريا ما فعلته حين نام ورأسه على ركبتيها.
شعرت بحرارةٍ تشتعل في وجهها.
‘لقد وخزت خدّه برفق، ولمست شحمة أذنه، بل مررت إصبعي على شفتيه… يا إلهي، كم بدا ذلك منحرفًا ومريبًا.’
ارتجف قلبها خوفًا حين فتح عينيه فجأة، وظنّت أنّه ضبطها متلبّسة.
لكن بما أنّه لم يبدُ عليه شيء، فقد استراحت قليلًا.
‘فلنكفّ عن الحديث حول المكتبة. إنه محرج.’
“كيف حال ركبتك الآن؟”
حوّلت تيريا الحديث إلى موضوعٍ مألوف.
ضحك إيريك بخفّة وأجاب:
“بدأت تتحسّن تدريجيًا. صدق القائل: الوقت كفيلٌ بالشفاء. أظنّ أنّه بعد شهرٍ آخر يمكنني الاستغناء عن العصا.”
“الاستقرار أولى. رجاءً اجعل ذلك دائمًا في بالك.”
“أشكركِ على قلقك.”
وبينما كانا يتبادلان أطراف الحديث…
-هَف! هَف!
انبعث صوتُ رجلٍ يلهث من مكانٍ قريب.
-أكثر سرّيّة! انزلقْ كما الطيف!
وتلاه صوتُ أمرٍ صارم.
رفع كلاهما بصره نحو المبنى المخصّص لفرسان الفيلق.
“…يبدو أنّهم في تدريب.”
“…”
لكن إيريك لم يُجب.
كان على غير عادته، تعلو ملامحه مسحةٌ من الاستياء والضيق.
نظرت إليه تيريا بدهشة.
اقترب الصوت أكثر:
“هَف! هَف!”
“أحسنت! هكذا تمامًا!”
“نعم! هَف!”
ومن خلف المبنى ظهرت هيئتان: قائد فرسان قمر الثلج، داين، والتابع الفارس فيرون.
كان فيرون يسير بوضعيّة القرفصاء كالبطّة، فيما داين يمشي بجانبه وهو يحمل سوطًا، يضرب الأرض بخطواتٍ ثقيلة.
وما إن أبصروا إيريك وتيريا حتى تهلّل وجه فيرون، وقفز واقفًا صارخًا:
“سيدي اللورد! سيدتي!”
بينما خرجت من فم داين شهقةُ فواق.
سأل إيريك:
“ما الذي تفعلانه بحقّ السماء؟”
“آه! القائد كان يعلّمني الخطوة السرّية للفارس! أليس كذلك، سيدي القائد؟!”
لحظةً تردّدت تيريا.
‘وما شأن السرّية بالفرسان؟’
لم تستوعب العلاقة مطلقًا.
قال إيريك ببرود:
“خفّفا من هذه الضوضاء.”
فجثا داين على ركبتيه وسط الثلج.
وكانت وقعته من القوة بحيث لم يُسمع صوت “سَفْ” الثلج، بل “دُووم!” مدوٍّ.
“تحت أمرك!”
“وكفّ عن تلك الشعارات.”
“نعم، سيدي!”
بدأ يتّضح لتيريا أنّ داينان يخشى إيريك كثيرًا.
لكنها لم تفهم السبب.
‘أيّ جانبٍ مخيف قد يكون في هذا الرجل المرح؟’
تلاقت عيناها بعيني داينان للحظة، فسارع إلى خفض رأسه.
قالت تيريا بلطف:
“…في هذا البرد القارس، تعبكم شديد. شكرًا لجهدكم الدائم. خذوا قسطًا من الراحة وادخلوا لتدفئة أجسادكم. وسآمر بأن يُقدّم اللحم على العشاء، لتأكلوا حتى الشبع.”
‘أليس يقال إن الفرسان يأكلون ضعف ما يأكله سواهم؟’
هكذا حدّثت نفسها وهي تقول ذلك.
فما كان من داين إلا أن رفع رأسه فجأة، والدموع تلمع في عينيه.
“س، سيدتي…”
كان صوته متوهّجًا بحرارةٍ غريبة.
لكن بالنسبة لها كان في الأمر شيءٌ مثير للنفور قليلًا، فاقتربت أكثر من إيريك.
ومع ذلك، صاح داين بحماسة:
“أقسم بحياتي أن أبقى مخلصًا لكم!”
ففاجأت تيريا نفسها وهي تطلق شهقةَ فواق صغيرة.
وانفجر إيريك ضاحكًا.
احمرّ وجه تيريا خجلًا وقالت:
“…فلنذهب إلى مكانٍ آخر، حتى لا نقطع عليهم تدريبهم.”
“نعم. وأنتم أيضًا، كما قالت السيّدة، أنجزوا ما يكفي وعدّوا إلى الداخل.”
“نعم!”
“سأحفر نعمة السيّدة في جسدي…”
فقاطعه إيريك بسرعة:
“كفّ عن هذا. إنه مثير للاشمئزاز. بل شديد الإزعاج.”
ثم صرفهم ورحل مع تيريا.
لكنها لم تكن تدري…
أنّ بادرة لطفها الصغيرة قد هزّت قلب داين هزًّا عظيمًا، ومنحته بصيرة جديدة.
‘آه، كاشا يصبح مطيعًا وهادئًا أمام زوجته!’
فكّر داين.
‘إذن إن حظيتُ أنا أيضًا بعطف السيّدة، فلن يجرؤ كاشا على أن يضع السيف على عنقي.’
هنالك اتّخذ لنفسه هدفًا جديدًا:
أن يصبح الكلب الوفيّ لتيريا فورتمان.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "62"