الريح الشتوية باردة.
يقال إنّه في مثل هذا الوقت من العام يبدأ الجوّ بالاعتدال قليلًا، غير أنّ شتاء هذا العام اتّسم بصرامة شديدة في موجة الصقيع.
وبفضل ذلك تجمّدت الحقول تجمّدًا صلبًا.
وزاد الطين بلّةً أنّ عاصفة ثلجية عاتية عصفت بالأرجاء فأصابَت الإقطاعية بالشلل.
لقد كان فصل الصمت.
أمضى أهل الإقطاع معظم وقتهم داخل بيوتهم متكئين إلى المدافئ.
وكانت آثار الأقدام الصغيرة التي يتركها الأطفال في الثلج وهم يضحكون بمرح، الدليل الوحيد على وجود حياة.
كان ذلك في مثل هذا اليوم.
“سيدي اللورد! لقد اكتمل صنع العباءة!”
العباءة التي طُلِبت خصيصًا من جلد الوحش السحري الذي صِيد في رحلة صيد سابقة قد تمّت.
وبرق فراؤها الأسود الحالك بلمعانٍ أنيق.
ملمسها ناعم.
ابتسم إيريك ابتسامةً خفيفة وهو يفكّر بالشخص الذي سيرتدي هذه العباءة.
—
فكرة أنّ عليه القيام بأمرٍ محرج جعلت سلوك إيريك يختلف قليلًا عن المعتاد.
حتى في طعام الإفطار بدا الأمر ظاهرًا.
“يبدو أنّه لن تكون هناك أعمال لبعض الوقت. فالإقطاعية بأسرها تمرّ بفترة راحة.”
خبز، ولحم مقدَّد، وبيض.
رغم بساطة الوجبة، إلا أنّه بالكاد تناول منها شيئًا، بخلاف عادته.
لم يكن منشغلًا بالأكل بل ظلّ يختلس النظر إليها بين حينٍ وآخر، ملقياً بكلماتٍ مبعثرة.
أما ما كان يشغل باله حقًا فكان أمر عباءة الفرو.
‘كيف أعطيها إيّاها؟
هل أقدّمها ببساطة وأطلب منها أن ترتديها؟ أم أُظهر أنّي صنعتها لها خصيصًا وأتفاخر قليلًا؟’
لم يعجبه أيّ من الخيارين.
فالأول يبدو باردًا لا مبالٍ، والثاني يبدو مثيرًا للشفقة.
كان يريد أن يُظهر بعض الاهتمام بشكل معتدل،
وبذلك يلمّح إلى أنّها تشغل باله.
ولو سُئل: أليس يكفي أن تقول ذلك مباشرة؟ لما وجد جوابًا.
وإن كان لا بدّ من إبداء السبب، فهو الخجل.
‘ما الذي ينبغي أن أفعله؟’
تردّده هذا كان عائدًا إلى حقيقة أنّه لم يسبق له أن قدّم هدية لشخصٍ آخر في حياته.
في صغره كان ابنًا مدلّلًا طائشًا، وفي كبره صار قاتلًا يطعن الآخرين بالخناجر.
ولم يألف قطّ أن يعبّر عن امتنانه أو مودّته في صورة مادّية.
فكان الأمر غريبًا وصعبًا عليه.
ولهذا ظلّ يعاني الحيرة وقتًا طويلًا.
وبالمقابل، تلاشت كوابيس البارحة بسرعة من رأسه.
“سيّدي.”
“آه، نعم.”
“اليوم تبدون شاردًا على غير عادتكم.”
“ذاك….”
جرّ صوته متردّدًا، ثم أطلق ضحكة مفتعلة وهو يلقي عذرًا:
“كان فراش النوم باردًا بعض الشيء. لذا لم أهنأ بالنوم.”
“سأوجّه بأن تُزاد حرارة المدفأة.”
“شاكرٌ لك.”
في الحقيقة كان الفراش دافئًا.
ولو ازدادت الحرارة أكثر لَمَا استطاع النوم بسببها.
يبدو أنّ عليه أن ينبّه ألدو بهذا الأمر على انفراد.
—
وقوله إنّه لا عمل لديهم اليوم كان صحيحًا، إذ لم تأتِ تيريا إلى مكتب العمل على غير العادة.
فسأل ألدو أين هي، فجاءه الجواب:
“إنّها في المكتبة، منهمكة في القراءة.”
تذكّر أنّها حتى في مرضها كانت تقرأ الموسوعات، فهي حقًا امرأة تعشق الكتب.
“هل ترغب في الذهاب إليها؟”
“ما دمت بلا عمل، فسأذهب أنا أيضًا لأقرأ كتابًا.”
“حضرتك يا سيّدي؟ كتابًا؟”
ارتسمت على وجه ألدو ملامح من رآى شبحًا.
إنها المرة الأولى منذ تركهم ساحة المعركة التي يرى فيها إيريك بتلك الهيئة.
فضيّق إيريك عينيه وقال:
“ولِمَ تنظر إليّ هكذا؟”
“…ألست مريضًا أو نحو ذلك؟”
هيئته وهو يتفقد جسده بعين القلق أزعجت إيريك قليلًا.
لكنّه لم يستطع أن ينفجر غضبًا.
فحتى هو كان يرى أنّ الجمع بين “إيريك فورتمان” و”القراءة” أمر لا يلتقي أبدًا، لا في الماضي ولا في المستقبل.
“…سأذهب إذن.”
غادر يخطو مترنحًا حتى وصل أمام المكتبة.
كان يستشعر وجودها بالداخل.
طرق الباب فسمع ردًا:
“ادخل.”
صوت مهيب رزين، كالنبرة التي تأمر بها الخدم.
ورغم أنّه سمع مثل هذه النبرة كثيرًا من قبل، إلا أنّ الأمر بدا غريبًا له هذه المرة، إذ كان المخاطَب هو نفسه.
ابتسم بلا داعٍ وهو يفتح الباب.
فبدت تيريا أمامه.
“…سيّدي؟”
توسّعت عيناها بدهشة.
هيئتها كانت مختلفة عن المعتاد.
فوق عينيها المفتوحتين اتساعًا ارتدى إطارٌ دائريّ من النظارات.
وفوق فستانٍ مريحٍ كان يلتفّ شال بني، فيما شُدّ شعرها للخلف مضفورًا على هيئة كعكة دائرية.
وكانت خصلات الشعر المتفلتة قرب أذنيها تجذب النظر دون قصد.
“ما الذي جاء بك إلى هنا يا سيّدي؟”
صنعت بدورها وجه من رأى شبحًا، مثل ألدو تمامًا.
أحسّ إيريك بالضيق في داخله، لكنه لم يُظهر شيئًا.
بل خطر في باله أنّه ربما ينبغي له في المستقبل أن يتظاهر بالقراءة أمام الآخرين.
“سمعت أنّك هنا فجئت أزورك. وليس هناك ما يشغلني، أليس من الطبيعي أن أشعر بالملل؟”
ثم جلس إلى جوارها.
ولحسن الحظ كان المقعد واسعًا يكفيهما.
“ولكن ما قصة هذه النظارات؟ أضعف بصرك؟”
سأل عمّا أثار فضوله، فتمتمت “آه” قبل أن تجيب:
“إنّها أداة سحرية.”
“هم؟”
“تلقيتُها هدية من صاحبة السموّ الأميرة في رحلتنا الأخيرة إلى العاصمة. قالت إنّها تخفف من إرهاق العين.”
‘ها قد ظهرت ثمرة تدبير إلبيرت على نحو ملموس.’
تذكّر بوضوح اهتمام أميرة فردين، المحبّة لجلسات الشاي، بها من قبل.
“…ألّا تناسبني؟”
بدت محرجة بعض الشيء.
فأسرع إيريك بهز رأسه نافيًا:
“بل تجعلك تبدين أكثر ذكاءً. لقد غيّرتِ الجوّ العام بلمسة واحدة ففاجأني ذلك فحسب.”
“همم، إن كان كذلك فخير.”
وإذا بكتاب تيريا مطويّ أمامها.
ألقى نظرة إلى غلافه فإذا هو رواية.
بل من تلك الروايات الرائجة بين عامة الناس.
“أتستمتعين بمثل هذه الروايات؟ هذا غير متوقّع.”
“إنها جيدة لتمضية الوقت، فلا تحتاج إلى تفكير.”
“ظننتك ممّن يقرؤون كتب التاريخ أو دواوين الشعر.”
ضحك بخفة، فأجابته بصوت هادئ:
“أقرأها بانتظام، غير أنّ تلك للمعرفة والثقافة، أما في أوقات الفراغ فلا أجد مانعًا من الاستمتاع بما هو مسلّ.”
“هذا حسن، فليس أنا وحدي إذن من يجدها مملّة.”
“لكنّي أعلم أنّ على سيّدنا أن يقرأ أكثر قليلًا.”
تطلّع إليها إيريك بتمعّن.
‘هل تمزح؟’
“هل لي أن أقدّم لك بعض التوصيات؟”
‘…لا، لم تكن تمزح.’
ورغم ما شعر به من ضيق خفيّ، إلا أنّه في تلك اللحظة بدأ حقًا يفكر بجدية في أن يقرأ.
طلب منها توصيات، فقامت من مكانها دون تفكير وانتقت بضعة كتب وأحضرتها إليه.
“همم.”
كان الكتاب الذي أمامه كتاب تاريخ عنوانه وحده كفيل بأن يجلب النعاس.
“إنّه من الكتب التي يكثر ذكرها في مجالس النبلاء. وهي سهلة، فلن يتأخّر عليك حفظها.”
“إذن لا يُقرأ بل يُحفَظ؟”
“التظاهر بالمعرفة أسهل على هذا النحو. أما الفهم، فذاك أصعب من الحفظ بكثير.”
‘هذا شبيه بكلام إلبيرت.’
أثار ذلك ضحكًا خفيفًا من إيريك، فمالت تيريا برأسها متسائلة.
كان ذلك المشهد لطيفًا على نحوٍ جعله يتذكّر من جديد أمر عباءة الفرو.
“هلمّ، أتجرب القراءة؟ سأساعدك.”
“همم… حسنًا.”
شعر إيريك بحرارة غريبة تتسلّل إليه، فلم يجرؤ أن يطيل النظر إليها، وصرف عينيه نحو الكتاب.
كانت الحروف دقيقة كحبوب السمسم.
وبينما يحاول التمعّن فيها كلمة كلمة، أخذت الأصوات والروائح من حوله تزداد حضورًا في ذهنه.
طقطقة الحطب يلتهمه الموقد.
أنفاسها، ورائحة شالها الدافئة.
وصوتها الرقيق كلما توقّف عند موضع تفسّره له قائلة: “هذا يعني كذا.”
وباختصار…
“…”
“…سيّدي؟”
لقد غلبه النعاس.
—
لسبب ما، أفاق إيريك متأخرًا على عبيرٍ دافئ ومريح.
رؤيته كانت مشوشة.
رمش بعينيه مرارًا حتى تبيّن له السقف ووجه تيريا.
أسفل رأسه كان ملمس لين، وشيء من ثنايا القماش يحجب بصره.
‘لم أحلم؟’
فكّر بذهول صافٍ.
هذا يعني أنّه غرق في نومٍ عميق.
متى كانت آخر مرة نام فيها بهذا العمق؟
وبينما تستعاد صفاء عينَيه، بدأت صور المشهد تتجمّع لتبلغه بالواقع.
“هل استيقظت؟”
عندها فقط أدرك أنّه كان مستلقيًا على ركبتيها.
“أهك!”
قفز جالسًا مذعورًا من تحيّتها.
فقالت تيريا:
“لا بد أنّك لم تنم ليل البارحة. غفوت سريعًا فتركتك. أكان ذلك تعديًا مني؟”
‘لا، بل التعدّي كان مني.’
“…كلا، إنما أُحرجت.”
‘أيّ حالٍ هذا! أنام أثناء القراءة؟’
بل شعر أنّ حُجّته السابقة عن قلّة النوم كانت من حسن حظّه.
حرارة وجنتيه ازدادت وهو ينظر إلى الساعة.
يا للعجب! لقد مرّت ساعتان كاملتان.
أتراه كان طوال ذلك الوقت ينام على ركبتيها؟
بدأت مؤخرة رأسه تُحسّ موضعها.
وكاد بصره ينزلق إلى فخذيها… بل إلى الانحناءات التي كانت تحجب رؤيته قبل قليل.
فاحمرّ وجهه أكثر.
‘فكّر في شيء آخر… أيّ شيء آخر!’
وبينما يحاول أن يستعيد رباطة جأشه، قالت تيريا:
“هل نخرج إذن؟”
نظر إيريك من النافذة.
كان الثلج قد توقّف.
تلاشت الغيوم الملبّدة، وظهر صفاء السماء.
“إلى الخارج؟”
“عفوًا؟”
“آه، لم أقصد… فهمتُ خطأ.”
لقد قصدت مغادرة المكتبة فقط.
وكاد يومئ برأسه موافقًا… لكن فجأة توقّف.
‘…لحظة.’
صفاء ذهنه الذي عاد لتوّه ألهمه فكرة جيّدة.
ألم يكن ينوي اليوم أن يهديها شيئًا؟
ها قد سنحت الفرصة.
“سيّدتي.”
“نعم.”
“ما رأيك أن نستنشق بعض الهواء الطلق؟ علّ النعاس يتبدّد.”
طرح الأمر بخفّة، فأومأت تيريا برأسها موافقة.
لقد حانت الفرصة.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "61"