أما ذلك النفور والذكرى الكريهة التي شعر بها في ذلك اليوم، فقد أخذت بالتبلد شيئاً فشيئاً حتى انزاحت إلى زاوية بعيدة من قلبه.
‘الوقت وحده كفيل بالحل.’ هكذا أقنع نفسه إيريك.
لكن ما أدرك أن الأمر ليس كذلك إلا في عصر ذلك اليوم.
“لقد جئتُ لأوصل الدروع!”
كان فيرون هو القادم إلى القصر.
ولسبب لم يفهمه إيريك، ما إن وقعت عيناه على وجه الفتى حتى أخذ صدره ينقبض من جديد.
“إيريك-هيونغ! كيف حالك؟!”
ومتى ما شعر بالضيق، لم يعرف كيف يخفيه.
فالذكريات التي أبى أن يتذكرها أخذت تطفو رغماً عنه وتفسد أنفاسه.
حاول أن يرد بابتسامة متكلفة، لكن الأمر لم ينجح.
وما كان يجب أن يظهر على هذا النحو… لكن تيـريا سبقت لتتدخل.
“هل تسمح أن نرى حالة الدروع؟”
“آه، نعم بالطبع!”
مدّت يديها وتناولتها.
كانت لمستها الهادئة تكفي لإزاحة الضيق عن صدره.
رفع إيريك بصره نحوها.
‘أترى… هل تعرف شيئاً؟ لا، لا يمكن أن تعرف.’
ومع ذلك، بدت وكأنها تقرأ ما بداخله في كل مرة تعينه فيها في لحظة عصيبة.
سرت في داخله وخزة غريبة.
“…إنها رائعة. مهارة الشيخ هيرمان حقاً لا يرقى إليها الشك.”
“هيهي، لقد كان جدي في غاية السرور. قال إن من النادر أن يُسنح له صنع درع كامل من الصفائح.”
“أه، هكذا إذاً.”
“نعم! ثم إنني….”
تردد فيرون قليلاً قبل أن يتجرأ على النطق:
“…إنه مجرد احتمال… حقاً مجرد احتمال، لكن….”
كان صوته يحمل رجاءً وتوقعاً صادقين.
“لو بدأتم في قبول الخَدَم للفرسان، أود أن أشارك!”
تلألأت عيناه القرمزيتان بالحلم.
وشدّ إيريك من قبضته على يد تيـريا.
فقالت بصوتها الرصين:
“لم يحن بعد وقت التفكير في ذلك. فما زال تنظيم الفرسان ووجهتهم لم تُحدد بعد.”
“آه… صحيح؟ أظنني تسرعت….”
“لكن إن جاء ذلك اليوم، فسأحتفظ بكلامك في ذهني. أما الآن فلتعد.”
كان صوتها هادئاً، واضح النبرات، باعثاً على الطمأنينة، فغادر فيرون القصر غارقاً في أحلامه.
وهكذا انصرف فيرون.
“فلندخل إلى مكتب الإدارة.”
وانقاد إيريك طواعية إلى الداخل وهو ممسك بيد تيـريا.
—
وفي الطريق لم تسأله شيئاً.
بل وحتى بعد أن وصلا إلى المكتب، لم تفتح الموضوع.
مع أنها ساعدته في لحظة ارتباكه، إلا أنها لم تبدُ فضولية بشأن السبب، بل بدأت مباشرة في عملها.
راح إيريك يتأملها بصمت.
‘أهي لا مبالاة؟’
لكن ذلك الهدوء الغريب فيها أثار فيه شعوراً بالذنب.
فقطع الصمت سائلاً:
“لِمَ لم تسألي؟”
“عن ماذا تعني؟”
“…عن الذي حدث قبل قليل. لا، كان عليّ أولاً أن أشكرك لأنك أنقذت الموقف.”
“ذلك أمر بديهي. إنه من شؤون الإقطاعية.”
كانت تيـريا تقلّب الأوراق بعينيها وهي تقول:
“ثم إنني لا أرغب في التنقيب عمّا لم يخبرني به السيّد أولاً.”
“ولو لم أخبرك به طوال حياتي؟”
أي جوابٍ كان يرجو من هذا السؤال؟
هذا ما خطر فجأة لإيريك وهو نفسه لا يعرف.
رفعت تيـريا رأسها.
وكانت جالسة والنافذة خلف ظهرها، فيغطي الظل ملامح وجهها.
“هل بينك وبين ذلك الفتى ذكرى سيئة؟”
“…ليس الأمر كذلك.”
“فهل أسأتَ إليه في شيء؟”
“ولا ذلك أيضاً.”
“إذن لا بد أن الأمر مرتبط بشيء آخر. بخبرتي المحدودة في التخمين، خطر لي أن يكون السبب فتى آخر من عمره كان لك معه ماضٍ مؤلم.”
لقد أصابت.
سواء أرادت ذلك أو لم ترده.
ضيّق إيريك عينيه محاولاً أن يميّز ملامحها أكثر، لكن عبثاً.
كل ما استطاع أن يراه هو صورتها تحيطها هالة الضوء المتساقط من النافذة، وحركة شفتيها لا غير.
تلك الشفاه قالت:
“لا أعلم كيف كانت سنوات حياة السيّد.”
بنبرة هادئة متأنية،
“ولا أعلم إن كانت تلك السنوات آلاماً له أم أفراحاً.”
وبوضوح متماسك،
“ولذلك لن أتسرع بالسؤال. إن كان ما مررتَ به حزناً، فسؤالي سيغدو كالنبش في جرح لم يلتئم. كل ما أرجوه أن تخبرني يوماً، متى ما أزحتَه عن كاهلك، أن شيئاً كهذا قد حدث لك.”
كان كلامها يولّد شعوراً غريباً بالثقة.
وعرف إيريك أن هذا لا يصدر من مجرد نبرة مصطنعة.
لقد كان في كلماتها صدق.
وإن تأمّل الأمر، لوجد أنها كانت دوماً صادقة مع الجميع، لا تستثني أحداً.
وقد بلغ ذلك صداه روحه، حتى مسّ بشرته وقلبه.
‘لماذا إذن لا أشعر بالفرح الخالص رغم امتناني لها؟’
السبب كان مضحكاً بعض الشيء: خطر له فجأة أن لطفها لم يكن موجهاً له وحده، بل للجميع.
حتى في هذه اللحظة، انشغاله بتلك الفكرة كان دليلاً على أن حاله لم يكن بخير.
لكن ما كان مؤكداً أن كلامها قد عزّاه.
‘لعل هذا بالضبط ما كنت أحتاج أن أسمعه…’
هل كان في داخله ضعف يتمنى أن يفضي إلى أحد بما مرّ به؟
أم كان ميله لأن يكشف لها عن ماضٍ ظل يخفيه؟
…أم أنه كان يريد أن يسألها سؤالاً أعمق: هل وجودي هنا، وقد عشتُ على دماء الآخرين، أمر مقبول؟
تحرّكت شفتاه، لكنه لم ينطق.
كل ما استطاع أن يقوله هو جملة مبطّنة:
“…لقد التقيتُ بفتى في مثل عمره تقريباً.”
“أه، هكذا إذن؟”
“ملامح وجهه باهتة في ذاكرتي، لكن ما زلت أرى بوضوح تقاسيمه الملتوية وهو يتألم.”
“أيّ فتى كان؟”
“كان ذلك حين كنتُ في الغرب. كان جندياً طفلاً.”
“غريب. سمعت أنهم لم يجندوا الأطفال في حرب الغرب.”
“…إن أراد المرء، كان بوسعه أن يخطو إلى ساحة القتال. لم تكن جبهة تتسم بالإنسانية لتمنعه.”
“إذن فقد اختار بنفسه أن يدخل المهلكة.”
“أظنه فعل ذلك لينتقم لمقتل أبيه.”
“هل مات؟”
“نعم. أمام عيني.”
“وذلك المشهد هو ما يعذبك؟”
“هكذا يبدو. لذلك يصعب عليّ النظر إلى فيرون.”
“إن كان الأمر كذلك، فهذا مفهوم.”
عندها نهضت تيـريا من مكانها.
اقتربت بخطى هادئة غير متعجلة، ووضعت ذراعها على كتف إيريك.
“إن الحرب مخيفة. صحيح أنني لم أخضها بنفسي، لكنني واثقة أنك تعرف وحشيتها. وفهمت أيضاً أن ذلك قد آلم قلبك.”
كان عطرها يختلف عن رائحة تراب هذه القرية التي لا تحيط بها إلا حقول القمح.
“أيّ عزاء أقدّمه لك قد لا يحمل وزناً كبيراً في النهاية. لذلك، سأقدّم وعداً بدلاً من ذلك.”
“وعداً، تقولين؟”
“إلى أن يغدو الأمر هيّناً على قلب السيّد، لن أترك سبباً يجبرك على مواجهة ذلك الفتى. وإن حدث واضطررنا للتعامل معه، فسأتولى الأمر بنفسي.”
كاد يضحك ساخرًا من هذا الكلام الذي لا يبدو حتى طريفاً.
لكن في الوقت ذاته شعر براحةٍ غريبة، لأن مظهرها كان صادقاً، وكأنها عازمة فعلاً على فعل ما قالت.
‘أيّ شيءٍ رأته في رجلٍ ضعيفٍ لا يعرف غير مثل هذا الحديث، حتى تهبه كل هذا العزاء؟’
فكر بذلك، لكن شعوراً آخر تملّكه: لم يشأ أن يخيّب أملها بالاتكال على لطفها فقط.
“…أشكرك. لكن لا حاجة لذلك.”
“أتراك واثقاً أنك بخير؟”
“لا يمكن للمرء أن يعيش حياةً مليئة بما هو مريح فقط. ثمة أمر أدركته خلال سنواتي التي قضيتها متجولاً في القارّة.”
“وما هو؟”
“مهما كان ما تواجهه، إن صبرت عليه طويلاً يبهت أثره في قلبك مع الزمن.”
أزاح إيريك تيـريا برفق إلى الجانب.
ولأول مرة ظهرت ملامح وجهها أمامه واضحة.
رغم ضآلة التغيير، إلا أنه شعر بها بوضوح:
كل انتباهها منصبٌّ عليه.
كل كلمة كان يقولها، كانت تصغي لها بصدق، وإن كانت لا تعرف شيئاً عن أعماقه.
“الخوف كلما حاولتَ الفرار منه تضخّم أكثر. هكذا قال لي صديقي ذات مرّة.”
“لقد كنت محظوظاً بذاك الصديق.”
“كان أعظم مما أستحق. ولذلك، من أجله أيضاً، سأواجه ذلك الفتى بنفسي.”
وما إن نطق بها حتى شعر بالارتياح.
ربما لأن تيـريا كانت أمامه.
حتى وإن كان دافعه مجرد رغبةٍ سطحية في أن يبدو بخير أمامها، لم يجد سبباً لينكره.
“أظن أن تعيين تابعٍ كفارسٍ متدرّب سيكون صائباً. يمكننا تنظيم ذلك مع مراسم التنصيب.”
هنا، في ويـبين، لم يكن إيريك شبح الحرب كاشا.
وأراد أن يرسّخ هذا الفصل بوضوح.
ففي هذا المكان، لم يكن سوى فتى أعرج متهوّر هرب من بيته، يجد عزاءه تحت جناح زوجةٍ بالكاد يستطيع مناداتها باسمها.
أما أشباح الحرب وكوابيسها، فلا مكان لها هنا.
وجب أن يتخلّص منها.
“أعتذر إن بدوتُ مثقلاً بكلامٍ مخجل.”
قالها وكأنه يعقد العزم.
فأجابته:
“إذا كان هناك ما يقلقك، فمن الطبيعي أن نتشاركه.”
ثم أضافت وكأنها تؤكّد:
“ألسنا زوجين بعد كل شيء؟”
وحين نطقت كلمة “زوجين”، تراءى له أن نبرتها الواضحة المعتادة قد تلينت قليلاً.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات