الفصل 56 / فرسان (1)
عند استرجاعه للأمر، أدرك إيريك أنها كانت أول رحلة له بالعربة في حياته.
كان يتوقع أن تكون الطريق مملة جدًا، غير أن رحلة الأسبوع الممتدة من العاصمة إلى ويبين حملت بين طياتها بعض المتع غير المتوقعة.
فمثلًا، تلك المناظر البطيئة التي تمر من أمامه.
صحيح أن الشتاء أضفى على الطبيعة قسوة وجفافًا، لكن وجوه الناس التي تتحرك تحت السماء كانت دافئة الملامح.
أما الأشجار والنباتات التي انكمشت استعدادًا للعام القادم، فقد بدت رقيقة المنظر على نحو غريب.
والسماء الصافية حين تذوب في حمرة المغيب كانت تجسد الرومانسية التي طالما أحبها إلبيرت.
كل تلك التفاصيل بثّت في قلبه طمأنينة ناعمة.
فكّر إيريك:
‘الهدوء دائمًا هو الأفضل.’
لم يكن سيئًا أن يغتسل من ضجيج السيوف وصراخ الجنود المعتاد.
ومع هذه الطمأنينة، بلغ أخيرًا وجهته.
عندما وصلت العربة إلى قصر آل فورتمان في ويبين، كان الغروب يوشك أن يبتلع الأفق.
“لقد تعبتم في الطريق.”
“لا يا رجل، التعب كله كان على ألديو. أنا لم أفعل سوى الجلوس.”
“لكنك ركبت العربة بسببي.”
قالت تيريا بشيء من الخجل، فابتسم إيريك وهز رأسه.
“كانت رحلة ممتعة على طريقتها. الجلوس ومراقبة المناظر العابرة فيه متعة خفية.”
“إن كان الأمر كذلك، فذلك يريحني.”
لانت ملامح تيريا قليلًا.
وأدرك إيريك أنه بات قادرًا على قراءة هذه التغيرات.
أسبوع كامل قضياه معًا عن قرب، كان كافيًا ليعرف أن خلف صرامتها المعتادة تغيّرات دقيقة:
اختلاف في نبرة الصوت، أو شدّ عابر في ملامح الوجه.
شعر إيريك بسعادة.
إذ بدا أن تيريا لا تكره قضاء الوقت معه.
“سيدي! سيدتي! دعوني أولًا أُنزل الأمتعة! ثم يجب أن تتناولوا العشاء قبل الراحة!”
صوت ألديو قاطعهما، فابتسم إيريك وأمسك بيد تيريا.
“فلندخل أولًا.”
“نعم.”
كان الجو في ويبين باردًا على نحو لاذع.
شدّ إيريك ياقة معطفه، وسار بجوار تيريا التي ضمّت وشاحها، عابرَين حقول القمح العارية عائدين إلى الدار.
الوجوه المألوفة للخدم، والرائحة المعتادة، والجو الدافئ للقصر.
ثم ذاك الشخص الذي يحاول التأقلم مع كل ذلك.
وسط هذه الألفة عاد إليه شعور بالطمأنينة.
أنهى إيريك رحلته الطويلة.
“كاشا!!!”
لكنه فجأة… رأى كابوسًا.
—
“ههه!”
استفاق إيريك من نومه فزعًا، جالسًا في سريره.
امتدت يده المرتجفة تتحسس الخنجر الموضوع بجانب السرير.
عندما ضم إلى صدره ذلك الحديد البارد، بدأ تنفسه يعود تدريجيًا إلى طبيعته.
مسح عرقه البارد وتنفس بعمق.
ما زال الحلم حيًا أمام عينيه كأنه واقع.
‘مر وقت طويل.’
متى كان ذلك؟
ذكرى حيّة بدت وكأنها تشق صدره بالاضطراب.
‘… قبل ثلاث سنوات؟ لا، أربع؟’
لم يكن يتذكر التوقيت بدقة.
لكنه كان يتذكر الحدث بوضوح.
ذلك اليوم حين وقف على خطوط الدفاع في تشيبور، مانعًا تقدم جيوش كالباران.
اندفع عليه فيالق المشاة، وكان بينهم فتى صغير… جندي يافع.
“كاشا!!!”
صرخة مليئة بالحنق.
حركات سيف مرتبكة.
نَفَس يتلاشى.
وعلى وجه ذلك الفتى ارتسمت نظرة ممتلئة باللوم والعداء.
ما جعله عالقًا في ذاكرة إيريك لم يكن ملامحه، بل السيف الذي حمله.
إذ كان يحمل ندبة محفورة على نصله… ندبة لم يصنعها أحد سواه.
لم تكن ندبة حديثة، بل أثرًا قديما صنعه في ساحة أخرى منذ زمن بعيد.
للحرب خصوصيتها الثقيلة.
لم يكن من الصعب على إيريك أن يتصور أن ذلك الفتى قد يكون ابنًا لأحد الذين قتلهم بيديه من قبل.
كان بإمكانه أن ينكر، أن يواسي نفسه قائلًا: *هذه هي الحرب.*
لكنه لم يستطع.
فقد ظلّت كلمات اللوم التي لفظها الفتى وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة تطارده من حين إلى آخر، متجسدة في هيئة كوابيس.
“سيدي، هل إستيقظت؟”
أغمض إيريك عينيه بإحكام محاولًا تهدئة نفسه، ولم يرد إلا بعد لحظة.
“… أرغب في الاغتسال. أعدّ لي شيئًا.”
كان يظن أنه تجاوز زمن الأحلام المروّعة، لكنه أدرك الآن أنه لم يشفَ بعد.
وربما السبب أنه في الآونة الأخيرة لم يفترق عن تيريا قط.
حين يكون معها، تطرأ عليه مشاعر غريبة تشغله عن الأحلام.
وحين ينام بجوارها، كان يضطر للاهتمام بعادات نومها، فينسى أن يحلم.
لمّا خطر وجهها في ذهنه، شعر بطمأنينة أكبر.
ابتسم إيريك بخفة.
لم يعرف لِمَ، لكنه أراد أن يراها سريعًا.
—
فطور آل فورتمان لم يتغيّر: خبز، لحم مقدد، وبيض.
ومع ذلك، بدا لإيريك أن الجلوس وجهًا لوجه مع تيريا على المائدة أمر يعيشه لأول مرة منذ زمن طويل.
“صباح الخير.”
أجابته تيريا:
“هل نمت جيدًا الليلة الماضية؟”
أراد أن يقول لها إنه رأى كابوسًا لأنه نام وحده بعد مدة طويلة، لكنه كتم الأمر واختلق كذبة.
“المنزل هو الأفضل بلا شك. كدت أنام حتى وقت متأخر لولا أنني استيقظت.”
“نعم، أنا كذلك.”
“حقًّا؟”
“…”
“ها، زوجتي تمزح إذن.”
بدت محرَجة.
من تدلي حاجبيها قليلًا، ومن نظرتها التي انخفضت نحو الأرض، أدرك أنها كانت كذلك.
“… لم يكن مضحكًا إذن؟”
هل كان ذلك خجلًا؟
كانت يداها تتحركان عبثًا فوق المائدة.
وجد إيريك ذلك المشهد رقيقًا على نحو غير متوقع، فابتسم أكثر وقال:
“بل كان فيه بعض الطرافة.”
ثم بدأ يتناول طعامه.
وبين اللقمة واللقمة، دارت أحاديث عن الأعمال الواجب مباشرتها من اليوم، وعن توزيع الحبوب على أهل الإقطاعية مع بداية العام الجديد.
ثم أضافت هي موضوعًا آخر:
“أفكر في إنشاء فرقة فرسان.”
“ماذا؟”
“ألم يقل سيد الإقطاعية من قبل إنها ستكون ضرورية؟”
“آه… قلت ذلك فعلًا، لكن…”
“لقد كان موسم الحصاد وفيرًا هذا العام، وأتممنا الصفقات التجارية بسلام. بقي لدينا فائض جيد من المال. أظن أن بإمكاننا استقدام فارس أو اثنين كبداية.”
أدهشه أنها ما زالت تحفظ تلك الكلمة العابرة التي قالها من قبل.
غمره شعور بالامتنان لاهتمامها، وأحسّ بشرارة حماسة تنبض داخله.
“هل تسمحين أن أتولى الأمر بنفسي؟”
“عفوًا؟”
“أعني… إذا كان الأمر يتعلق بفرقة فرسان، فربما لدي خبرة أكثر منك. أوه… هل أخبرتك أن حلمي في الصغر كان أن أصبح فارسًا؟”
“… نعم.”
“بل حتى درست تفاصيل الأمر آنذاك.”
لم يكن السبب الوحيد، لكنه كان يعرف أن تأسيس فرقة فرسان مجال يتقنه أكثر منها.
فقد التقى بمعظم الفرق الكبرى في جبهة الغرب ورآها عن قرب.
وبالنسبة لرجل لا يتقن إدارة الإقطاعيات كما ينبغي، كان هذا أفضل ما يبرزه كي يثبت أن له دورًا يستطيع القيام به.
“أتسمح لي بذلك حقًّا؟”
لما كرر سؤاله، أومأت تيريا برفق.
“… نعم، افعل كما تشاء.”
“أشكرك!”
طفرت السعادة في قلب إيريك.
أنهى فطوره على عجل، ثم نهض واقفًا يحييها بتحية سريعة قبل أن يخرج مسرعًا.
أما تيريا، فبقيت وحدها تحدّق في الفراغ لحظة، قبل أن ترتسم على شفتيها ابتسامة صغيرة.
لقد رأت للحظة في ملامحه صورة الطفل الذي كانه في صغره.
—
فرقة الفرسان.
ليست مجرد قوة تحمي الإقطاعية، بل وجه من وجوه هيبتها ومكانتها.
ومن ثَمَّ، كان لا بد أن يتميز أفرادها بالقوة البارزة، وبالمهابة والانضباط الذي يثير إعجاب الآخرين.
غير أن العثور على مثل هؤلاء في ويبين لم يكن أمرًا يسيرًا.
أما جلبهم من الخارج فعملية مرهقة وطويلة.
صحيح أن عصر البنادق تقدّم، لكن الفارس يظل فارسًا.
فمن يملك القدرة على التحكم بالمانا يُعَدّ كنزًا ثمينًا، و”ثمنه” في السوق باهظ للغاية.
ومع ذلك، كان هناك أمر سار…
أمر سارّ لإيريك وحده.
“هل اجتمع الجميع؟ خمسة فقط… عدد قليل على فرعٍ كهذا.”
“ههه… نعتذر يا سيدي إن خيّبنا ظنك.”
“لا بأس. لو كان العدد كبيرًا، لأثار ذلك شكوك زوجتي.”
إنه “ظل القمر “، المنظمة السرّية في الغرب.
وكان دانال، الرئيس السابق لفرع فردين، يصرخ في داخله ساخطًا:
‘أي نغمة علي أن أرقص عليها هذه المرة!’
فبعد أن لفظه المركز الرئيسي وتمزق فرعه إربًا، لم يجد مفرًا إلا أن يلجأ إلى كاشا منذ بضعة أسابيع.
وبأمره، جاء إلى هذه القرية النائية، ويبين، منذ خمسة أيام فقط.
وها هو الآن واقف أمامه، يكاد يبكي في سره.
‘ظننت أني سأقوم بأعمال بسيطة…’
فإذا به يفاجأ: أن يصبح فارسًا!
بل وأكثر من ذلك، أن يكون ضمن فرقة فرسان جديدة تابعة للإقطاعية!
حتى هنا كان يمكن أن يتقبل الأمر…
لكن—
‘لماذا الراتب بهذا البؤس!’
راتب زهيد بالكاد يقبضه فارس مبتدئ عيّنه سيد إقطاعية حديثًا.
فإن كان حال الخزانة كذلك، فَلِمَ لا يلغون فكرة الفرسان من الأصل؟
لماذا أصر أن يجعل الخمسة كلهم فرسانًا؟
أكان قراره بالانضمام إلى كاشا صائبًا أصلًا؟
وفي خضم غليانه الداخلي، جاءه صوت كاشا:
“ألديك اعتراض؟”
“سأبذل كل إخلاصي وولائي!”
صرخ دانال بدافع غريزة البقاء.
وكذلك فعل رجاله من ورائه.
عندها فقط، ارتسمت على شفتي كاشا ابتسامة راضية.
“أحسنتم. فلنبدأ إذن بتسمية فرقتنا.”
“أجل!!!”
في تلك اللحظة، لم يجد دانال في قلبه سوى كرهٍ عميق لكاشا.
التعليقات